تهديد مشترك = لقاء مؤقت
سعاده مصطفى أرشيد _البناء
درجت البيانات الصادرة عن جامعة الدول العربية وقممها، كما تلك الصادرة عن الفصائل الفلسطينية، على تكرار عبارات تستهلّ بها بياناتها مثل: في هذه الأيام العصيبة… وأنّ القضية (المسألة) الفلسطينية تمرّ في أصعب مراحلها… علماً أنّ هذه الأوقات العصيبة هي الحالة السائدة منذ قرون مضت، ثم انّ المسألة الفلسطينية، لم تبرح يوماً مربّع الأيام العصيبة، وإنما تمرّ بعقود من التراجع، تتخللها أحياناً ومضات سريعة كسرعة الضوء، تعطي شيئاً من جرعات التفاؤل والراحة.
ينتظر حملة هموم الأمة أن تصل الحالة القومية والفلسطينية، إلى قاع سحيق، لعلها تكون بداية للانطلاق ولاستنهاض القوى من جديد، ولكن سرعان ما يتكشف لهؤلاء أنّ عملية السقوط كلما وصلت إلى قاع، تتبدّى قيعان أدنى منزلة وأـشدّ قتامة، وبسرعة هذا الزمن السيبراني، ومع هذا التسارع، يتفكك النظام والتضامن العربي بشكل صريح، وتتكشف المواقف التي استترت في السابق، ويتآكل الاهتمام بالمسألة الفلسطينية، دولياً وإقليمياً وعربياً، لا بل ومن أبنائها، مع انتشار ثقافة (أولاً ثقافة) العيش وحب السلامة التي تثنيهم عن الهمّ العام، ومصداقاً لنظرية الفيلسوف الفرنسي دولا بواسييه حول العبودية الطوعية والمواطن المستقر.
1 ـ لم تترك القوى الاستعمارية بلادنا للعيش بشكل طبيعي، وإنما جرى تقسيمها وزرع بذور الفتن في كلّ كيان سياسي من كياناتها، وفي مطلع هذا العقد هبّت علينا رياح السموم التي أطلق عليها اسم «الربيع العربي» تعسّفاً، فتفاقمت الصراعات الداخلية، التي تمّ وضع مخططاتها بالخارج وعبر فضائيات الفتنة النفطية، فيما زوّدها سوء الأداء وفشل الإدارة، والفساد، وغياب الحريات، ورفض المشاركة في السلطة وتداولها والمبرّرات التي تمثل كلمة حقّ يُراد بها باطل، فغابت دمشق عن ساح الصراع القومي لحساب الصراع مع قوى التكفير والقتل المدعومة بكلّ أدوات الحرب، وأخذ العراق يتفكك طائفياً بين سنة وشيعة وإثنياً بين عراقيين وأكراد، ويتمّ تحضير لبنان لدوامة أزمة قد تنزلق نحو العنف، حذر منها الرئيس عون واصفاً إياها بالجحيم، فيما الرئيس الفرنسي الذي يتصرف ويتكلم بأستاذية مندوب سام من عصر مضى، يختار من يراه أهلاً لرئاسة الحكومة ويملي على قوى لبنانية ماذا عليها أن تفعل أو لا تفعل، وأين عليها أن تتدخل أو لا تتدخل، فيما الأردن الذي أخذت وظيفته بالضمور، تتهدّده المخاطر الأمنية والاقتصادية من كلّ حدب وصوب، ويتحضّر لانتخابات يتوقع كثير من السياسيين أنها لن تأتي بما يخرج البلد من أزماته، ويحرّره من توجّسه وقلقه، فيما يرى آخرون أنها قد تأتي بما يأتي من أزمات جديدة، ذات علاقة بالمشاريع الإقليمية المطروحة، وفي جولة على العالم العربي، نرى أمّ الدنيا والعرب، تعجز عن القيام بأود أبنائها من المصريين الذين يفتك بهم الجوع، ويتهدّدهم العطش مع بناء السدّ الإثيوبي، ويترصّد بهم الإرهاب من سيناء شرقاً وليبيا غرباً، فيما يحاول رئيس مصر أن لا يرى كلّ ذلك مكتفياً برؤية التهديد التركي في رسم الحدود البحرية، ومتحالفاً مع (إسرائيل) وفرنسا واليونان وقبرص، لرسم حدود بحرية تحول دون إقامة خط غاز تركي – ليبي، ولصالح خط غاز (إسرائيلي)، فيما تهرول دول خليجية وغير خليجية، عربية وحليفة للعرب، لا نحو التطبيع العلني مع (إسرائيل) فحسب وإنما نحو التحالف معها في حقيقة الأمر.
مع عملية التطبيع العلني الجديد، وبما أنّ لكلّ جديد بهجة توجّس المطبّعون القدامى من المطبّعين الجدد، ولعلّ مصدر هذا التوجّس هو أنّ الوظيفة والدور لأولئك القدامى قد ضعف وتراجع بشكل يؤثر على اقتصادهم وأمنهم، في السابق لعب القدامى دور صندوق البرق والوسيط وناقل الرسائل بين (إسرائيل) وبين الجدد من المطبّعين، ومع دول لم تطبّع بعد أو قد تتأخر في تطبيعها إذ إنها في حالة تطبيع غير معلن، ولكنها ستفضّل من الآن فصاعداً وساطة المطبّعين الجدد، فهم لم يطبّعوا فقط وإنما دخلوا في أحلاف عسكرية وسياسية وثقافية وشراكات اقتصادية مع (إسرائيل).
ضعف الوظيفة، وسرعة التطبيع أشعر هذه الدول بأنه يجري تهميشها ولفترة قد تطول، ما لم تنخرط في المشاريع المستجدة، هذا ما دعا إلى عقد قمة عمان في 25 آب الماضي، وكان من اللافت غياب السلطة الفلسطينية المغيّب والمهمّش الرابع عن تلك القمة، ولا يكاد يوم يمرّ دون أن تحمل الأخبار ما يؤكد التحالف الجديد، تهميش المطبّعيين القدامى، ومن ذلك مشروع الخط الجديد الناقل لبترول الإمارات عبر الأراضي السعودية إلى (إسرائيل) والذي سوف يمرّ بجزيرتي تيران وصنيفير اللتين تنازل عنهما الرئيس المصري للسعودية، بدل المرور بالأراضي الأردنية والمصرية، اللتين لن تحصلا على أية عوائد أو مكاسب من هذا الخط، وفي سياق آخر لكن متصل، تحدثت الأخبار عن عرض أميركي تمّ تقديمه للعراق، وذلك بأنّ ثمن الانسحاب الأميركي من العراق هو التطبيع مع (إسرائيل)، وهي تهدّد بإغلاق سفارتها في بغداد وإدارة نشاطاتها الدبلوماسية من أربيل، وأنّ في ذلك فوائد جمة للعراق منها إعادة تشغيل الخط الناقل للبترول العراقي إلى ميناء حيفا، والذي توقف عن العمل منذ 1948، تؤكد الأخبار أنّ العراق رفض العرض، ولكن الثقة بمواقف رئيس الوزراء الكاظمي ستبقى موضع شكّ.
2 ـ إذا كان ما سبق ذكره من هموم هو في إطار الهمّ القومي والإقليمي، فإنّ للفلسطيني همومه ذات الخصوصية الفلسطينية، فحالة التهميش التي تعانيها المسألة الفلسطينية قد أخذت تتجاوز المواطن لتطال القيادة، تلك التي أخذ النظام العربي يتخلى عنها وعن مواطنها، وهي التي كانت حتى عهد قريب من صنائع النظام العربي وجزءاً منه، فأخذت تضعف يوماً بعد يوم لأسباب خارجية تتعلق بالاحتلال الذي يقف لها بالمرصاد، ويدفعها نحو مزيد من التردّي والفشل والضعف، بحيث لا تسقط ولكن دون أن تستطيع الوقوف منتصبة على قدميها، ولأسباب داخلية ذاتية، كالإدارة السيئة والأداء الضعيف، فلم تستطع أن تطوّر من الحكم الذاتي الوارد في أوسلو إلى دولة، ولم تنجح في إدارة شؤون الحكم الرشيد في مناطقها، وكيف يمكن لمن قاد العمل الفلسطيني منذ نصف قرن أن يتخلى عن نهجه وطريقته التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه.
مع ما حصل من تطبيع، ومع تآكل الدور والوظيفة، تردّد أنّ اتفاقاً أميركياً مع الشركاء في التطبيع الجديد، يقضي بمنح القيادي السابق محمد دحلان دوراً في إدارة المناطق الفلسطينية في الضفة وغزة، استشعرت كلّ من رام الله وغزة جدية التحدي، الأمر الذي أسفر عن لقاء واتفاق (مؤقت) باعتبار أنّ التطبيع الإماراتي وملحقاته الفلسطينية تهدّد وجودهم وما تبقى من دور ووظيفة، بشكل استدعى عقد لقاء ودي بين عضو لجنة مركزية من فتح ونائب رئيس المكتب السياسي لحماس، ثم اجتماع الأمناء العامين وما صدر عنه من بيان جميل الكلمات ولكنه لا يخرج عن نمطية البيانات التي ذكرتها مقدّمة هذا المقال، لكنه أضاف إليها التـأكيد على ضرورات الحوار والشراكة، وعلى إشاعة جو من الحريات، وتشكيل لجان لإنهاء الانقسام والشروع في انتفاضة ثالثة وتنظيم انتخابات، وهذه الأخيرة التي كانت محور اللقاء الأخير في تركيا.
يتساءل الفلسطيني الحائر: ألم يكن غول الاستيطان وعدوانية المستوطنين سبباً مهماً وخطيراً يستدعي مثل هذا الحوار منذ سنوات؟ ألم تكن القدس وضياعها وصفقة القرن ومشروع الضمّ الذي أخذ اسماً جديداً (إعلان السيادة) سبباً جديراً يدفع باتجاه وحدة وطنية؟ ألم يكن ما يتهدّد الأونروا وحق العودة أخطر بكثير من التطبيع الإماراتي – على ما به من خطورة؟
ما يزعج ويدعو لكلّ هذا الحراك ليس ما سبق وإنما الخطر القادم من الإمارات ومستشارها الفلسطيني، ومن الولايات المتحدة في حال إعادة انتخاب ترامب، وما حصل من تقارب ليس إلا ما أملته الضرورة لا القناعة، ولا يظنّن أحد أنّ انتخابات المجلس التشريعي وحدها بقادرة على إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، وهو الأمر المستحيل بوجود أوسلو والمؤمنين بنهجه، أو بوجود انقسام أوجد إدارتين (حكومتين) واحدة في رام الله وأخرى في غزة.
إنّ أجواء التفاؤل الزائف لا تستطيع الصمود طويلاً أمام تسارع الأحداث، ولا تستطيع أن تجدّد النظام على أسس سليمة وأن تصنع شراكة سياسية حقيقية، إن ما هو مرفوض ومدان اليوم قد يصبح في غد قريب مقبولاً، لا بل مشروعاً وطنياً، وما هو مطروح حتى الآن هو العمل على إدارة الانقسام وتشريع مؤسساته الأمر الذي سيطيل بقاءه…
*سياسي فلسطيني مقيم في جنين – فلسطين المحتلة