تعويضات نهاية الخدمة: الضمان «يبلف» الأُجراء
الأخبار- محمد وهبة
هل فعلاً تحاول إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي حماية تعويضات نهاية الخدمة للعمال؟ دوافع السؤال مصدرها طلب إدارة الصندوق من مصرف لبنان احتساب التعويضات على سعر صرف للدولار بـ 3900 ليرة، إذ يبدو أن إدارة الضمان ومصرف لبنان يجهلان ما سينتج من آليات كهذه تفاقم التضخّم وتآكل التعويضات بدلاً من الحفاظ على قوّتها الشرائيّة
تستند إدارة الضمان في ادّعاءتها لجهة حماية التعويضات إلى أنّ الأموال التي سيخلقها مصرف لبنان، ستغطّي بعضاً من التآكل في القيمة الفعلية لهذه التعويضات، باعتبار أن المبلغ العائد لصاحب التعويض سيتضاعف مرّتين ونصف مرة. فعلى سبيل المثال، إن تعويضاً بقيمة مليون ليرة، سيبلغ وفق الآلية الجديدة 2.5 مليون ليرة.
قد يستفيد صاحب التعويض من هذه الآلية على قاعدة ”الكحل أحلى من العمى“، لكنه في الحقيقة سيكون «مبلوفاً»، لأن المبلغ الإضافي الذي حصل عليه من الآليّة مصدره خلق النقد. وهذه الآليّة تغذّي مباشرة تضخّم الأسعار، وبالتالي يصبح المبلغ الإضافي أحد عوامل تضخّم الأسعار وتآكل المزيد من التعويضات المدفوعة لأصحابها. فالضمان يدفع سنوياً أكثر من 1000 مليار ليرة تعويضات للعمال، وهذه الأرقام مرشّحة للارتفاع أكثر في ظل ازدياد حالات الصرف التعسفي وحاجة العمال إلى المال لتغطية أكلاف معيشتهم. بهذا المعنى، فإنّ مصرف لبنان سيضطر إلى زيادة الكميات من الأموال التي يضخّها في السوق بنحو 1500 مليار ليرة إضافية، بمعدل شهري يبلغ 125 مليار ليرة.
حالياً، يضخّ المصرف المركزي نحو 1300 مليار ليرة شهرياً من أجل تغطية الودائع، ويتوقع أن يزداد هذا المبلغ إذا تقرّر الانتقال من آلية دعم استيراد السلع من استعمال الاحتياط الإلزامي إلى آلية استهداف العائلات عبر منحهم أموالاً بالليرة في حساباتهم. وباحتساب قيمة المبالغ التي سيضخّها من أجل تغطية التعويضات، فإنّ المعدل الشهري لخلق النقود سيزداد إلى 1425 مليار ليرة.
في الواقع، إن المبلغ الذي يضخّه في السوق شهرياً، يموّل طلباً إضافياً على الدولار (راجع المقابلة مع كمال حمدان في ملحق «رأس المال» الصادر بتاريخ 28 أيلول 2020). يعتقد حمدان أن آليّات الدعم عبر خلق النقود هي عبارة عن ”قنبلة كامنة“ مرشّحة لتفجير سعر الدولار أكثر مما هو متفجر اليوم. لذا، فإنّ كل آليّات الدعم، بما فيها دعم تعويضات نهاية الخدمة، عبارة عن قنبلة موقوتة.
إذاً، لماذا لم تتحرّك إدارة الضمان سابقاً؟ يقول المدير العام للضمان الاجتماعي ردّاً على مقال نشرته ”الأخبار“ يوم الاثنين الماضي في ملحق «رأس المال»، إنه تحرّك قبل الأزمة في عام 2019 في اتجاه وزارة الوصاية التي بادرت من خلال كتاب وجّهه وزير العمل آنذاك كميل أبو سليمان إلى البنك الدولي بتاريخ 24 تشرين الثاني 2019، يطلب فيه مساعدة البنك الدولي لحماية أموال الصندوق من خلال الحفاظ على قيمتها الشرائية.
مزاعم إدارة الضمان تدحضها الوقائع. فالأزمة بدأت قبل أيلول 2019 حين كان سعر صرف الدولار مقابل الليرة قد زاد عن حدوده المرسومة من قبل مصرف لبنان ضمن هامش لا يتعدّى 1518 ليرة. في نيسان 2019، كان سعر الدولار يوازي 1530 ليرة، ثم استمر بالارتفاع ليبلغ 1540 ليرة في نهاية أيلول. وسعر الصرف لم يكن المؤشر الوحيد على بدء الانهيار، بل كانت هناك سلّة مؤشرات؛ من أبرزها: ناقوس الخطر الذي دقّه الوزير السابق شربل نحاس في منتصف عام 2018، والمؤشرات التي وردت على لسان السلطة النقدية من خلال التعاميم التي تدعم استيراد السلع الأساسية (محروقات، دواء، طحين)… كان المجال مفتوحاً منذ فترة طويلة أمام الضمان لحماية التعويضات. وفي الفترة التي تلت، ناقشت اللجنة المالية في مجلس إدارة الضمان هذا الأمر وسألت عن إهمال إدارة الضمان في القيام بتحويل قسم من التعويضات الموظّفة في سندات الخزينة من العملة المحلية (الليرة) إلى الدولار، رغم أنّ لديها تفويضاً من مجلس الإدارة لتحويل 20% من هذه الأموال إلى العملة الأجنبية. يومها أجاب مديرو الضمان بأن الفوائد على الليرة كانت أعلى!
أبو سليمان اقترح في تشرين الثاني 2019 أن تشتري إدارة الضمان بوليصة تأمين على محفظة تعويضات نهاية الخدمة ضدّ التضخّم
لكن المسألة الأساسية كانت تتعلق بما قام به وزير العمل السابق كميل أبو سليمان. يومها طلب الوزير من المدير العام للصندوق محمد كركي، تحويل ما أمكنه من أموال التعويضات إلى الدولار، وذلك كان قبل بضعة أسابيع من تشرين الأول 2019. لم يتحرّك كركي متذرّعاً بآليّات تقنيّة محاسبيّة تمنعه من القيام بذلك، ما اضطرّه إلى إرسال الرسالة إلى البنك الدولي، أي الرسالة التي يذكرها كركي. لكن مضمون الرسالة مختلف تماماً عن الخطوة التي قام بها. أبو سليمان طلب في رسالته الموجهة إلى المسؤولة عن الحماية الاجتماعية في مكتب البنك الدولي في لبنان حنين السيد، القيام بالتأمين (Hedging) ضدّ التضخّم الذي يمكن أن يأكل التعويضات. وهذه الفكرة جاءت بعد نقاش طويل مع مسؤولين في صندوق النقد الدولي. كان الاقتراح الأولي أن يتم التأمين ضدّ تقلبات سعر الصرف، لكن تبيّن أن هذا الأمر غير ممكن، بل المتاح هو القيام بالتأمين ضدّ التضخّم ضمن سقف محدّد.
طبعاً، كان الأمر يتطلب من الضمان تسديد أقساط التأمين، لكن الإدارة تذرّعت يومها بأنّ الأمر غير ممكن. والمشكلة أن وزيرة العمل في حكومة تصريف الأعمال، لميا يمّين، حاولت أخيراً القيام بالخطوة نفسها، أي التأمين ضدّ التضخّم، لكنها تلقّت إجابة واضحة بأن التضخّم حصل والتأمين ضدّه لم يعد مجدياً.
هكذا أهمِلت تعويضات العمال. قد لا يكون التأمين على محفظة التعويضات ضدّ التضخّم هو الحلّ الأمثل، إلا أنه كان يعني أنه كانت هناك ثمة حلول يمكن التوصل إليها غير تلك التي أُخِذ الاجراء إليها اليوم مضطرّين عبر خلق النقد والإسهام في تضخّم الأسعار. ما الجدوى من منح العمال أموالاً إضافية فوق التعويضات المستحقة إذا كان التضخّم سيأكلها؟ هكذا يلحس الضمان المبرد.