بغداد | مع مرور عام على انطلاق الاحتجاجات العراقية، أو كما عُرفت باسم «ثورة تشرين»، لم تفرز الساحات أيّ قيادةٍ ولم تنتج أيّ أدبيات، بل تَلطّى مُحرِّكوها خلف شعارات فضفاضة لا تُفصح عن شيء، مِن مِثل «ثورة قائدها الوعي». وهذا ما دفع بجزء كبير من المثقّفين العراقيين إلى أن يَنزلوا بالسياسة إلى مستوى المطالب الفردية، وحجّتهم في ذلك أن الشعب لا يعي المستويات العليا من الصراع. هذه الحجّة ليست بالثورية أبداً، بل تنبع من خلفيات انتهازية وعاطفية لتقديس مطالب الشعب والانحناء أمامه، في مشهد يشبه مشهد «نضال الخبز والزبدة»، والذي ابتدعه الاقتصاديون الروس، ونقده لينين في كتابه «ما العمل؟».

منذ بداية الاحتجاجات، رُفعت مطالب عدّة: تغيير العملية السياسية الجارية برمّتها، محاسبة الفاسدين، تحسين الواقع المعيشي والخدمي، إيجاد حلّ للبطالة التي تكتسح أوساط الشباب… إلخ. ومع الضخّ الإعلامي الإقليمي والعالمي المكثّف حول الحدث، كانت تظهر المزيد من المطالب، وينفتح الباب على تَخيّلات وردية عمّا سيأتي. تَعزّز هذا الجوّ عندما تَقدّم رئيس الوزراء الأسبق، عادل عبد المهدي، بالاستقالة، وبدأت بعده رحلة البحث عَمَّن سيَخلُفه. كانت الساحات تقول كلمتها حيال أيّ مرشح، إلى درجة خُيّل إلى المتواجدين فيها أن صناعة الحدث تبدأ منهم. لكن تَبدّد ذلك كله عندما تَشكّلت الحكومة الجديدة. خبا الصوت تدريجياً، واختفت رمزيات الاحتجاجات وبيانات الساحات، وأدار الإعلام بشقَّيه المذكورين ظهره للحدث. ولدى سؤالك عن سبب الموت المفاجئ، ستجد جواباً واحداً: «لقد بيعت الثورة». ما كان يُفترض أنه احتجاج شعبي للتغيير من الأسفل، اتّضح أنه حركة لقوى سياسية ومنظمات ذات دعم دولي استخدمت «تشرين» كورقة ضغط نحو الانتقال إلى مستوى أعلى في الصراع، وما إن تمّ الأمر لها، حتى أحرقتها. لقد تَبيّن أن حدث تشرين أكبر من صانعه المتخيَّل: «الشعب العراقي» أو «المواطن العراقي» أو سَمِّه ما شئت، والذي يقف وحيداً في الساحات من دون أيّ تأثير يُذكر.
التنقيب عن ما حَقّقته «ثورة تشرين»، من وجهة نظر مؤيّديها، هو أمر غير مجدٍ، لأنها لم تُحقّق شيئاً. هي حَقّقت ما أرادته منها الأطراف الدولية والإقليمية، والتي منعت من خلالها خروج العراق ولو جزئياً من العباءة الأميركية. لكن من يُسمّي نفسه «المتظاهر المستقلّ»، لم تُحقّق له «تشرين»، من برنامجه السياسي المبعثر على منصات الساحات، أيّ شيء. لم يتعدّل الدستور، ولم يتبدّل النظام، ولا انتفى دور الأحزاب، ولم تُتجاوز صيغ المحاصصة الطائفية والحزبية، بصرف النظر – أيضاً – عن أن هذه النقاط لن تُحلّ بالإرادوية، بل هي خارجة أصلاً عن إطار الحلول الإصلاحية الكيانية.
أما الجماهير التي لا تعي المستويات العليا من الصراع السياسي، بحسب المثقف العراقي، وبالتالي خُفّض «النضال» لأجلها، فإن أسئلتها عن منجزات «الثورة» ستكون: كم زاد مدخول الناس؟ كم تَحسّن واقعهم المعيشي والخدمي؟ هل تمّ تجاوز جدول 2*2 الجحيمي للكهرباء؟ هل انتفت البطالة؟ ومرّة أخرى، يجيبنا حدث تشرين بالنفي عن كلّ هذا. الحكومة التي اعتُبرت حكومة «الثورة»، في توصيف نابع من مقدّمات إنشائية أغرقت بها الرأي العام أثناء صعودها، تعيش عجزاً ظاهراً وتطالِب بالصبر، ليعود المتظاهر المستقلّ إلى وضع التململ والضجر، والشعور بأنه تعرّض للخديعة لمرّة جديدة.
ومع كلّ هذا، لن تجد مراجعة واحدة للحدث، لتضعه في سياقه الدقيق، بوصفه لم يكن أكثر من ورقة ضغط دولية ـــ إقليمية لُعبت وحقّقت هدفها واحترقت، ولا مجال لرجعتها مهما تجاوزت الآمال علوّ التراقي.