انحلال الدولة: النظام الصحّي ينهار
الأخبار- محمد وهبة
بشكل أحادي، اتّخذت المستشفيات الخاصة قراراً باحتساب قيمة الفواتير المصدرة للمرضى على سعر صرف يوازي 3950 ليرة لكل دولار اعتباراً من مطلع الشهر الجاري. جاءت هذه الخطوة في عزّ الانهيار المالي – النقدي – المصرفي، وتفشّي جائحة «كورونا» على نطاق واسع، وفي ظل انهيار سياسي، بعد فشل تأليف الحكومة. في هذا التوقيت، انفردت المستشفيات بقرارها، زاعمة أنها لن ترفع التسعيرات مع الجهات الضامنة، وأنها ستعوّض فقط قيمة النسبة التي تدفعها لقاء 15% من قيمة المستلزمات الطبية، أي النسبة غير المدعومة طالما أن مصرف لبنان يدعم الـ 85% الباقية. بهذا المعنى، سيدفع المريض من جيبه هذه الكلفة. قبل الانهيار، كان المقيمون في لبنان يدفعون 33% من قيمة الفاتورة الاستشفائية من جيوبهم، أي ما يوازي ملياري دولار. بخطوة المصارف قد تزداد حصّة ما يسدّده المقيمون إلى 60%. بشكل أو بآخر، ستتورّم قيمة الفاتورة الاستشفائية الإجمالية إلى 10٫3 مليارات دولار (على أساس 1507٫5 ليرات وسطياً لكل دولار)، فترتفع قيمة ما يدفعه المقيمون إلى 6 مليارات دولار (على أساس 1507٫5 ليرات وسطياً).
هذه الحسابات مبنيّة على الحسابات الصحية الوطنية الصادرة عن وزارة الصحة العامة في 2018 (آخر الأرقام المتوافرة)، وهي لا تأخذ في الحسبان التراجع في نسبة الاستشفاء الذي قد ينشأ عن الأزمة، لكنها تمثّل مؤشّراً مهماً على أفق النظام الصحي في لبنان. فالانهيار سحب معه الجزء الأكبر من الطبقة الوسطى إلى الفقر، وفي حال رفع الدعم عن السلع الاساسية والسلّة الغذائية، فإنّ الفقر سيبلغ 70% بحسب حسابات الخبير الاقتصادي كمال حمدان، وبالتالي لن يكون أمام عدد هائل من الأسر اللبنانية سوى الهجرة.
هكذا يتحلّل لبنان ويتفكّك نسيجه الاجتماعي والاقتصادي. الأمر ليس مصادفة، بل هو يأتي نتيجة سياسات تقديس الريوع التي عاثت في البلد خراباً منذ نهاية الحرب الأهلية لغاية اليوم. المستشفيات كانت أبرز المستفيدين من هذه السياسات. فهي حصلت على قروض مدعومة الفوائد لتوسيع قاعدة رساميلها وتحقيق أرباح طائلة، ثم استفادت من كونها مؤسسات مسجّلة «لا تبغي الربح»، باعتبار أنها مؤسسات «إنسانية»، لتخفي هذه الأرباح من دون أن تصرّح عنها. النظام الذي ينهار اليوم هو الذي سمح لها بهذا الإخفاء. كان يمكن أن تصرّح عن أرباحها وأن تعفى من الضريبة. وترجم انحلال الدولة أيضاً عندما قرّرت السلطة في لبنان دعم الأدوية والمستلزمات الطبية عبر وزارة الصحة ومصرف لبنان. الوزارة تتمسّك بوجود هذا الدعم للعيش في نكران واقع انهيار سعر الصرف وتبعاته على المجتمع، بينما مصرف لبنان يتّهم الوزارة بلوائح ملغومة من المستلزمات والأدوية التي صارت تأتي إلى لبنان بكميات أكبر من المعتاد كونها مدعومة. المستشفيات ومستوردو هذه المستلزمات يتّهمون مصرف لبنان بالمماطلة في منح الموافقات والتدقيق أكثر من اللزوم باللوائح. مصرف لبنان لا ينكر، إنما يقول إنه يدقّق في أمور لا تقع ضمن اختصاصه، بينما يسجّل استيراد مستلزمات طبية من النوعيات «الفخمة»! لكنه يضيف بأن المشكلة تكمن في استنزاف الدعم للعملات الأجنبية التي يحملها مصرف لبنان في حساباته الخارجية، وهي العملات القابلة للتحويل، أي الأموال التي يمكن بها فقط أن نستورد حاجات لبنان من الأكل والشرب والدواء والمحروقات وسواها.
هذا الإرباك بين استنزاف الدولارات، وبين مصالح القطاع الخاص الصحي، تقف إزاءه الدولة متفرّجة. ربما أكثر. هي تنأى بنفسها عنه. فالجهات الضامنة التي بإمكانها تأديب المستشفيات ومنعها من أخذ المرضى رهائن مقابل زيادة أسعارها، تشكو من تضييق السلطة عليها مادياً. من سيدفع الثمن؟ نحن سندفع الثمن مما تبقى من مدخرات الطبقة الوسطى، ومما تبقى من أصول سنبيعها بأبخس الأثمان لاستجداء الحصول على العناية الطبية اللازمة، وسندفع الثمن مزيداً من بيع الولاءات السياسية.
انهيار النظام الصحّي في لبنان ليس سوى أحد ملامح انحلال الدولة. قد يتم ترقيع هذا الانهيار اليوم، لكنه سيتكرّر لاحقاً. حتى لو استعمل مصرف لبنان كل الدولارات المتوافرة لديه لدعم الاستيراد، وحتى لو قلّص نسبة الدعم وخفّف من لوائح السلع المدعومة، فإنّ هذه الدولارات لا تكفي. قد تشتري وقتاً ثميناً، لكنها ليست الحلّ. هذا ما حصل وسيحصل في زمن انحلال الدولة.