يحلو لأنصار السعودية في لبنان، ومعظمهم من أنصار الأميركيين، استخدام مصطلح «طفح الكيل» في معرض احتجاجهم على الأوضاع، ودعوتهم إلى تغيير سياسي شامل في لبنان، يستهدف عملياً محاصرة المقاومة، أو إخضاعها سياسياً وعسكرياً وحتى اجتماعياً. وعند الحديث في التفاصيل، يعيد هؤلاء سرد الرواية الأميركية – السعودية إياها عن الحزب الذي يحمي الفاسدين في لبنان (أي أن المقاومة تحمي أنصار السعودية والأميركيين الذين يستولون على غالبية المواقع الرسمية والاقتصادية والمالية في لبنان، وحتى المؤسسات الدينية)، وعن الحزب الذي يهدّد الاستقرار في المنطقة من خلال إمساكه بقرار السلم والحرب (أي أن المقاومة تهدد حلفاء أميركا والسعودية الإسرائيليين)، وعن الحزب الذي يرسل قواته إلى سوريا لمنع الثورة الشعبية (أي أن المقاومة لعبت دوراً كبيراً في منع انتصار جماعات «النصرة» و«داعش» في سوريا والعراق)، وعن الحزب الذي يخرّب في دول الخليج (أي أن الحزب يدعم الانتفاضة الشعبية لأهل البحرين والمقاومة اليمنية للعدوان السعودي – الأميركي – الإماراتي المستمر)، وعن الحزب الذي يقوم بكذا وكذا وكذا…
ثمة ما يُقلق في تراجع قدرة هذا الطرف على تقديم روايات مقنعة لجمهوره قبل المؤيدين للمقاومة. ثمة ما يقلق لأن الفريق السعودي – الإماراتي استولى على نخبٍ من هبّ ودبّ، ويستولي على غالبية وسائل الإعلام اللبنانية والعربية. وهو راهن على أن هؤلاء هم الأقدر على صناعة مزاج عام ورأي عام وقادة وحكام، لكن الله وحده يعلم ما الذي يجعلهم مخصيين عندما يجلسون في حضن أمراء الخليج. ولذلك ترى السعودي، على وجه التحديد، شديد التوتر، ولا يجد تفسيراً لعدم خروج اللبنانيين في تظاهرات مليونية تنادي بالتطهير العرقي ضد جماعة إيران، ولا يسمع شرحاً وافياً عن صعوبة اقتلاع جزء من الشعب من أرضه. ولكنه يصرّ على موقفه: كل شي قابل للبيع والشراء، وجل قوله: هاتوا لي لبنان لأشتريه، لكنني أريده ناقصاً لغالبية شعبه الرافضة لطاعتي!
ما الذي فعله السعوديون والإماراتيون معنا، منذ عقد، غير تهديدنا يومياً بالجوع والحصار وقطع الأرزاق، وغير التهديد بوقف التواصل وإقفال الحدود والسفارات ومنع الزيارات، وغير إقفال الهواتف في وجه كل من يحاول التواصل معهم لشرح حقيقة ما يجري في البلاد. وها هم، عاماً بعد آخر منذ اغتيال رفيق الحريري إلى اليوم، ينتظرون حكومات ومجالس نيابية وبلدية ونقابية، ويستمعون إلى نشرات الأخبار ومقدمي البرامج وغالبية الضيوف، ليستفيقوا في اليوم التالي على المشهد نفسه. ومع ذلك، لا يريدون تعلّم الدرس.

ما يجري اليوم هو الجزء الأكثر وضوحاً من الصورة. لم يكن وزير الخارجية السعودي يحتاج إلى أي لباقة أو مناورة ليقول ما هو المطلوب: نريد لبنان من نوع آخر، على شاكلة سمير جعجع وأشرف ريفي. نريد لبنان ليس فيه حزب الله، ونريد لبنان الذي يحظر وجود المقاومة ويمنع أي رأي ينتقد السعودية. الوزير السعودي قال، صراحة، إنه يريد تغيير النظام في لبنان. يريد حكومة لا تتمثل فيها قوى تعارض سياساته، ومجلساً نيابياً لا يتمثل فيه خصومه، وإدارة عامة ليس فيها من يخالفه الرأي، وإدارة للقطاع الخاص تلبي طلباته من دون سؤال أو مراجعة، ومؤسسات أمنية تعمل في خدمته وتجمع المعلومات عن خصوم المملكة من مواطني لبنان، وتحبس الأنفاس إن قدرت على ذلك.
السعودية تريد تغيير النظام في لبنان؟
لا. السعودية تريد العودة إلى النظام الذي بقي في حضنها لعقود طويلة. إلى النظام الذي لم ينجح عبد الناصر في جذبه بعيداً عنها. إلى النظام الذي ينشد العروبة في خطب حماسية لكنه لا يفعل شيئاً على الأرض. تريد نظاماً لا يخرج عن رضى أهل الخليج وأهل الغرب معاً.
السعودية، عملياً، شأنها شأن قوى وجهات لبنانية لا تعرف أن البلاد تغيرت كثيراً خلال خمسين عاماً. ليس نحو الأفضل تماماً. لكنه تغيير فرض واقعاً سياسياً وتوازناً من نوع جديد. هو تغيير أفسح في المجال أمام رأي آخر، وتفكير آخر، ووجهة أخرى. وهي، حتماً، ليست الوجهة التي تقود إلى الزحف لنيل رضى آل سعود.
أمام هذا النوع من التفكير، وأمام هذا العقل المتحجّر الذي لا يفهم ما الذي يجري من حوله، لا يمكن للمرء سوى الرد على أهل الحكم هناك، وعلى أنصاره هنا أيضاً، بأن «الكيل طفح» فعلاً. طفح الكيل منكم ومن تزلّفكم وغطرستكم وتكبّركم… طفح الكيل من مراضاتكم وطلب الغفران والسماح منكم، ولنا في سعد الحريري درس يجعلنا نصرخ بأعلى الصوت: حلّوا عنا!