تغرق منطقة البقاع الشمالي في الفوضى مع غياب الجهات الرقابية وتفشّي جماعات التهريب وتجّار الاحتكار وعصابات السلب والسرقة. الجيش اللبناني نفّذ إجراءات صارمة لمنع نقل الوقود والقمح والمواد المدعومة إلى المناطق الحدودية، لتخفيف عمليات التهريب. صحيح أنه نجح في تحقيق هدفه جزئياً، لكن المهربين باتوا يستهدفون حصة الهرمل من الوقود، لتهريبها إلى سوريا، في غياب الملاحقة الأمنية والرقابية. نتج من ذلك أن أهالي المنطقة باتوا محاصرين من قِبل عصابات التهريب التي «تسطو» على حصتهم من الوقود، كما من قِبل الدولة التي لا تجيد حلّاً إلا بالأمن

بات العبور من آخر حواجز قوى الأمن الداخلي في أبلح، نحو بعلبك والبقاع الشمالي محفوفاً بالمخاطر. فكلّما ارتبكت الدولة اللبنانية في المركز، ضعف تأثيرها في الأطراف، المهملة أصلاً، كالبقاع الشمالي، فتغيب مظاهر الدولة وتتفرّع الأزمة الاقتصادية والأمنية إلى حدّ الخطر الكبير، مع استمرار طريقة العلاج الوحيدة عبر الحلول الأمنية.
في الأشهر الماضية، نشطت عصابات التهريب إلى حدٍّ كبير. وتلك العصابات، يقابلها في الجانب السوري عصابات مماثلة، ترتزق كلتاها من الأزمة على حساب السوريين واللبنانيين وعلى حساب العملة الصعبة في البلدين. فالعملة الوحيدة الموثوقة لدى المهرّبين هي «الدولار». فضلاً عن انتشار عصابات القتل والتشليح وازدياد حالات الثأر بين العشائر، مع غياب سطوة الفعاليات، وتوسّع دور الشخصيات الجديدة المتفلّتة في العشائر المتصارعة على ما تبقى من الموارد. ويقوم التجّار باحتكار المواد الغذائية والوقود وتتفلّت الأسعار لتبلغ أرقاماً مرتفعة حتى عن تلك المتداولة في العاصمة بيروت.
في المرحلة الأخيرة، كثّف الجيش اللبناني من إجراءاته بهدف السيطرة على التهريب، فضرب قيوداً مشدّدة على حاجز حربتا الذي يتولّاه اللواء التاسع في الجيش، وراحت مديرية المخابرات تطارد رموز العصابات وتحديداً أولئك المتورّطين بجرائم قتل، مستفيدة من الغطاء السياسي للأحزاب الفاعلة في المنطقة. إلّا أن هذه الإجراءات تبقى ضمن الحلول الأمنية، وهي إن كانت تردع العصابات، إلّا أنّها لا تشكّل حلّاً فعلياً لأزمات المنطقة المستفحلة والمرشّحة للتصاعد في المرحلة المقبلة.
في الهرمل تحديداً، وبعد دراسة، تبيّن أن حاجة المنطقة من الوقود لا تتجاوز الـ 100 صهريج بنزين في الأسبوع و750 طنّاً من القمح. وهذه الأرقام لا تتوافق مع الكميّات التي كانت شركات الوقود المختلفة تقوم بنقلها إلى الهرمل، بحيث تجاوز عدد الصهاريج في الشهر الأول من هذا العام 1000 صهريج تقريباً كانت تدخل أسبوعيّاً للهرمل، وحوالى 8000 طن من القمح. أمّا بالنسبة إلى الغاز المنزلي، فتبيّن أن النسبة المطلوبة للهرمل تساوي خُمس الكمية التي كانت الشركات تنقلها إلى المنطقة. وعلى الرغم من تمكّن الجيش من ضبط دخول المواد بشكل كبير، إلّا أن ذلك لم يحُل دون استمرار التهريب، على حساب أهل المنطقة وحاجاتهم. فأجهزة الرقابة التقليدية غائبة كليّاً عن ضبط أسعار السوق أو مراقبة عمليّات تهريب واحتكار حصّة الهرمل هذه المرّة. وعلى ما يؤكّد أكثر من مصدر أمني، فإن ما يزيد عن 60% من حصّة الهرمل من الوقود يتمّ تهريبها نحو الداخل السوري، فيما يتمّ تهريب الأجبان والألبان والمواد الغذائية من سوريا نحو الداخل اللبناني، ما يرفع أسعار الوقود بشكل جنوني.

وصل سعر صفيحة البنزين في الهرمل في الأيام الماضية إلى 65 ألف ليرة

ووصل سعر صفيحة البنزين في الهرمل في الأيام الماضية، إلى 65 ألف ليرة، و42 ألف ليرة لصفيحة المازوت، لتتعداها إلى 70 ألف ليرة للبنزين و50 ألف ليرة للمازوت في بلدة القصر، قبل أن تبدأ الأسعار بالتضاعف عن سعرها الرسمي في القرى اللبنانية الواقعة خلف الحدود السورية.
وفي ظلّ هذا التفلّت، يغيب دور شرطة البلديات ووزارة الاقتصاد والأجهزة المحليّة المعنيّة. فتجد محطّات الوقود في هذا التفلّت فرصة لاستمرار تهرّبها من بيع المواد بالسعر الرسمي للأهالي، وتلجأ بدل ذلك مع غياب الصهاريج، إلى خطط أخبث في التهريب. فما تكاد الصهاريج تفرغ حمولتها في المحطات، حتى تفقد مخزونها! ويعمد الجزء الأكبر منها إلى فتح أبوابه بضع ساعات ثم يتذرّع بنفاد المخزون ولا تزال طوابير السيارات متراصفة للحصول على كميات لا تتعدّى الـ 20 ليتراً. وعندما يحلّ الليل، تقوم المحطّات باستكمال التهريب «بالمفرقّ»، بغالونات وسيارات «الرابيد» وشاحنات صغيرة مزوّدة بخزانات مخفيّة، كالسيارة التي أوقفتها استخبارات الجيش قبل أيام في الهرمل وفي داخلها خزان من الوقود يحتوي على 2200 ليتر. ولا تقف الأمور عند هذا الحدّ، إذ يقوم «وكلاء» الوقود في المناطق الحدودية، بسحب كميّات من الوقود أيضاً ليتم تهريبها عبر الدراجات النارية.
وتخضع أيضاً المواد الغذائية المدعومة، لحرب احتكار من قبل تجّار الأزمات في المنطقة، الذين يتحكّمون بالأسواق ويتداولون بأسعار خيالية للدولار يبدأ من 15000 ليرة لبنانية كحدّ أدنى، في سياسة تجويع واضحة لأهالي المنطقة. وعلى الرغم أيضاً من محاولات الجيش ضبط الحركة عبر حاجز حربتا ودوريات المخابرات، إلّا أن مراقبة مفتّشي وزارة الاقتصاد تكاد تكون معدومة، ولا تستهدف إلّا المحلات الصغيرة «التي لا سند لها»، أما تلك المغطاة بدعمٍ سياسي أو عشائري فتبقى بعيدةً عن أي ملاحقة، فيما لا تهتمّ مخافر قوى الأمن الداخلي إلّا بأعمال البناء غير المشروع، وتسجّل غالبية حالات السرقة باسم مجهول مع أن مرتكبيها معروفون بالأسماء والصور.
وتؤمّن الفوضى القائمة، حالةً مناسبة لأصحاب المولّدات، الذين رفعوا تسعيرة شهر آذار بزيادة حوالى 30% على التسعيرة الرسمية، وفي نفس الوقت، لا يرفدون القرى بالكهرباء لأكثر من ست ساعات.
وفيما انخفضت حركة سرقة السيارات بسبب توقيف عدد من السارقين والتجّار، حصل بعض الإنجازات الأمنية بتوقيف قاتل الشاب من آل ياسين في بلدة القصر، وتوقيف ستة مشاركين في جريمة قتل الشاب من آل الطحش في بلدة الكواخ في قضاء الهرمل، وتوقيف قاتل شابين من عكار في جرود الهرمل، وتعطيل معامل للكابتاغون في بوداي ودير الأحمر والجمالية في بعلبك، وتوقيف عصابات ومطلوبين في بريتال ممن شرعوا جهاراً بتنفيذ عمليات النشل والخطف والسرقة بقوة السلاح.
إلّا أن حصر نشاط الدولة اللبنانية بالأعمال الأمنية التي تتولاها مخابرات الجيش أولاً، ثم فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي ثانياً، يُبقي البقاع الشمالي على صفيح ساخن بانتظار خطوات عمليّة من أجهزة الدولة المدنية والأجهزة الرقابية، بينما يسجّل اهتمام لافت بالمنطقة من قِبل الملحقيات الأمنية في غالبية السفارات الغربية، التي تضع عينها على الحدود وتتفرّج على المنطقة بتركيز كامل وخطط تحت عناوين «تنموية»، باعتبارها الحاضنة الشعبية لحزب الله.