هل يبدأ سلام «اجتثاث» المستقبل؟
لا يتصرف رئيس الحكومة نوّاف سلام كـ«عابر طريق» في الحياة السياسيّة. الآتي من خارج الصالونات السياسيّة التقليديّة، وعلى عربة ما يُسمّى الإرادة الدوليّة، يبدو وكأنه لن يضيّع الفرصة التي انتظرها أعواماً. لذا، وضع أجندة وفق قواعد تشبهه سيُنفّذها على الأرض، وهو الذي يعرف جيداً ما يُريده الدّاخل والخارج، ويفهم تماماً تركيبة «السيستم» اللبناني.
وبناءً على المتغيّرات الكبيرة، يريد بناء الهيكل الذي يراه مؤاتياً لعهده الجديد. وقد ظهر ذلك جلياً في تركيبة الحكومة. صحيح أنّه لم يتهوّر إلى درجة القفز فوق «فيتوات» الطوائف الأُخرى، إلا أنّه «نتش» من كل حصةٍ وزيراً له. لكن ما يُريده تظهّر أكثر في اختيار الوزراء السنّة.
فلم يترك لمن أفرزتهم الانتخابات النيابيّة الأخيرة ولمن يمتلكون حيثيّات شعبيّة، بغضّ النّظر عن حجمها، أن يختاروا وزيراً واحداً، بل تقصّد بعث الرسالة باكراً: أنا الزعيم السنّي الفعلي، من دون أن تثنيه هجمات نواب سنّة عليه ولا ملاحظات دار الفتوى على بعض الأسماء. «جرافة» سلام تسير من دون عراقيل، وما يُريده هو حيثيّة وحالة سياسيّة حقيقيّة تقيه التحوّل إلى «حسّان دياب 2»، من دون أن يعني ذلك نسخ تجارب أصحاب البيوتات السنّية التقليديّة وزعمائها، وإن كان هو نفسه ينحدر من واحد منها، إذ إن للرجل تجربته وفريقاً سياسياً متعطّشاً للحكم برعاية خارجية.
المعايير التي وضعها سلام لتشكيل حكومته ستنسحب أيضاً، على ما يبدو، على التشكيلات القضائيّة والتعيينات الأمنيّة التي ستُعطيه «تأشيرةً شرعيّة» للدّخول إلى المؤسّسات، مع إدارة «الأذن الطرشاء» لمُعارضيه.
ولكن، إذا كان مُعارضو التشكيل على شكل نوّابٍ لا يُريد سلام التّعامل معهم باعتبارهم أصحاب زعامات في مناطقهم، فإنّه سيواجه حتماً مشكلةً مغايرة، اسمها «تيّار المستقبل»، الذي يمتلك جمهوراً عريضاً وحيثيّة شعبيّة قرّر الرئيس سعد الحريري، في ذكرى اغتيال والده، أن يُشاهدها حلفاؤه وخصومه بـ«العين المجرّدة». ولأنّ سلام، بتاريخه القديم والحديث، لم يقف يوماً على الضفّة الحريريّة، لا سياسياً ولا اقتصادياً، سيعمد «عقله الباطني»، كما فريقه في «كلّنا إرادة» إلى البحث عن آليات ورثة «التركة الحريريّة».
التعيينات التي ستكون على طاولة الحكومة الجديدة كانت دائماً من المحرّمات التي لم «يدقّ» بها الرئيس نجيب ميقاتي حتّى عندما كان خصماً للحريري فأسقط حكومة كُرمى لعينَيْ أشرف ريفي، كما لم يقترب حسّان دياب من هذه «المعصية» أيضاً. فالمؤسّسات الأمنيّة، ومثلها القضائيّة والإدارات العامّة، هي بالنّسبة إلى «الزرق»، كما إلى جميع الأحزاب التقليدية، «الدولة العميقة».
ومنذ عقود، مذْ كان الرئيس رفيق الحريري في عز قوته، لم يعرف «المستقبليون» طعم الإقصاء. وحينما «تجرّأ» الرئيس سليم الحص عام 1998 على سياسة «قصقصة الأجنحة»، بالتعاون مع الرئيس إميل لحود، أنتجت «المظلومية الحريريّة» في انتخابات عام 2000 احتلال غنوة جلول مقعد الحص في بيروت.
وبالتالي، يتساءل كثيرون عمّا ستكون عليه العلاقة بين الطّرفين في حال وقعت المواجهة وحاول سلام تكرار «خطيئة» الحص بمحاولة «قبع» المحسوبين على «التيّار الأزرق» من المواقع الأساسيّة ليتحوّل الكباش المستتر إلى مُعلن، خصوصاً مع المآخذ «المستقبلية» على كون الرئيس فؤاد السنيورة «واحداً من العقول المدبّرة» في السراي الحكومي اليوم، مع «ما يحمله من ضغينة للحريري».
ولربّما كان تقصّد رئيس «المستقبل»، في لقاءاته الأخيرة، «التنقير» على السنيورة أمام زواره، رسالة أولى في إطار «السياسة الدفاعية» التي يقوم بها «بيت الوسط». في حين يؤكّد آخرون أنّها ليست الرسالة الوحيدة التي وصلت إلى بريد السراي محذّرة من المسّ بـ«الحريريين» واللعب مع تيّارهم.
ويؤكد متابعون أنّ قرار الحريري استئناف تياره العمل السياسي هو جزء من إحباط «مشروع الإقصاء» الذي قد يُساهم به سلام، ما تطلّب من «المستقبليين» الضغط على رئيسهم للعودة سريعاً عن قرار الاعتكاف، ولو جزئياً، و«لمّ» الشارع قبل أن «يأكله» خصومهم في الانتخابات البلديّة، ومن ثم النيابيّة، وفق ما استشعروا به خلال تشكيل الحكومة.
وما ينطبق على الوزراء سيسري أيضاً على التعيينات التي «سيقضم» منها سلام بهدوء ورويّة. وأول الغيث في المديريّة العامّة لقوى الأمن الدّاخلي مع الإطاحة بمديرها، اللواء عماد عثمان، ورئيس «شعبة المعلومات» فيها، العميد خالد حمود، فيما الحديث يدور عن اختيار شخصيّات بعيدة عن «التيّار الأزرق» وقريبة من السنيورة، رغم أنّ بعض الأمنيين يؤكّد أن كل العُمداء السنّة اليوم ليسوا بعيدين عن «محور بيت الوسط»، إلا إذا كان الخيار القفز عن المئات منهم لاختيار عقيد لا يُغرّد في «السرب الأزرق».
وبعد قوى الأمن، ستكرّ عمليّات الإقصاء، إلى القضاء، وما بينهما من إدارات عامّة، وصولاً إلى الأمانة العامّة لمجلس الوزراء بعدما كثر الحديث عن إمكانيّة استبدال القاضي محمود مكيّة (وإن كان الأخير عُيّن من قِبل حكومة الحريري عام 2019، إلا أنّه لا يُعد من المحسوبين مباشرةً عليه) بشخصيّة قريبة من سلام، بعدما سوّق البعض أنّ زوجة سلام تتدخّل في التعيينات وتطرح أسماء تدور في فلكها، وهو ما استفزّ العديد من المرجعيّات البيروتيّة التي اعتبرت في هذه التعيينات تهميشاً للعاصمة، وبدأت الأصوات ترتفع بعد استبعاد بيروت أيضاً من الوزارات.
في المقابل، يؤكد آخرون أنّ هذا الأمر لن يحصل كما يتمنّاه سلام، خصوصاً أنّ رئيس الجمهوريّة جوزيف عون لن يكون قابلاً لـ«اجتثاث» المستقبل من السلطة، ومعه أيضاً العديد من مكوّنات الحكومة، أضف إلى ذلك أنّ الأسماء لن تكون من «عنديّات» السراي الحكومي قبل أن تتقاطع مع السفارات الأجنبيّة التي لا مصلحة لها في استبعاد «المستقبليين» في ظلّ الظروف الحاليّة والاستحقاقات السوريّة. ما يعزّز ذلك أنّ «العصر الأميركي» الذي دخلت فيه البلاد هو الذي منح الحريري الفرصة لمغامرة العودة، ولو بالشكل، بدليل أنّ السفيرة الأميركية كانت أول زوار «بيت الوسط» أخيراً. الأخبار