ٍَالرئيسيةموضوعات وتقارير

الارتداع بين التصعيد والتراجع: إسرائيل وحسابات الصراع مع حزب الله

في أعقاب المواجهة بين حزب الله وإسرائيل، برزت معادلة الردع كعامل حاسم في السيطرة على مسار المعركة. بينما سعت إسرائيل إلى توجيه ضربات قاسية للمقاومة، كان على الأخيرة إثبات قدرتها على ردع أي تصعيد إسرائيلي عبر التهديد بعواقب وخيمة. في هذا السياق، لم يكن تجنّب إسرائيل استهداف المدنيين مجرد خطوة إنسانية، بل كان جزءاً من إستراتيجية مدروسة تهدف إلى التحكم بمسار الحرب وضبط التصعيد وفقاً لحسابات دقيقة.

فكيف أسهمت سياسات الردع في رسم حدود المواجهة؟ وما هي العوامل التي دفعت إسرائيل إلى تفادي استهداف المدنيين رغم تنفيذ عملية «البيجرز» واغتيالها قادة المقاومة وأمينها العام؟

تقوم فعالية الردع على مصداقية التهديدات، إذ تعتمد على إقناع الخصم بوجود إرادة وقدرة حقيقيتين لتنفيذها. وعادةً ما يكون الردع جزءاً من إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى الحفاظ على السلام عبر التهديد المعقول بالعقاب، ما يسمح بتجنب تكاليف الحرب المباشرة. ورغم فعاليته في ضبط الصراعات، إلا أن الردع قد يؤدي إلى توترات دائمة وسباقات تسلّح. وتتعدد أنواعه وفقاً للمقاربات المختلفة، لكنه يتمحور عموماً حول الردع المباشر، الممتد، العام، والمحدد.

أنواع الردع
لعب الردع دوراً حاسماً في إدارة الحرب بين حزب الله والعدو الإسرائيلي في حرب 2024، إذ اعتمدت المقاومة على إستراتيجيات متعددة عززت من تأثيرها وقيّدت خيارات العدو. ومن أبرز هذه الأنواع، الردع بالتهديد بالعقاب، بحيث يتم تحذير الأعداء بأن أي هجوم سيؤدي إلى رد فعل قوي ومدمر، في محاولة لزيادة تأثير الردع، ومنع اتخاذ خطوات تصعيدية باعتبار أن العواقب ستكون وخيمة. وهو النوع الذي نجحت المقاومة في التأسيس له قبل الحرب، وخصوصاً خلال جبهة الإسناد. وفقاًا لدراسة نشرها مركز «الاتحاد للأبحاث والتطوير».

وضعت المقاومة في بداية المعركة، المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في حالة من الغموض بشأن قدراتها، وهذا ما يندرج تحت «الردع بالغموض». استمر الغموض في تقدير العدو بشأن قدراتها بعد بدء الحرب وتنفيذ ضربات مباغتة لجهة ماهية الردود التي قد يقوم بها حزب الله خاصة بعد رسائل الردع الكثيرة التي أطلقها سماحة السيد الشهيد حسن نصر الله لجهة استهداف مراكز الثقل في الشمال.

الردع المتدرج
كما حرصت المقاومة على التحكم في ديناميكيات الصراع، ومحاولة إدارة التهديدات، وعلى عدم حرق كل أوراق القدرات وكشفها في حرب الإسناد، وهذا ما ردع العدو وشكّل تأثيراً في قراراته واحتسابه للثمن.

استخدام الردع المتدرج يتيح عملية تصعيد الردود على التهديدات بشكل تدريجي، ما يمنح فرصة للتراجع قبل تفاقم الوضع. هذا النهج يُظهر الاستعداد للتصعيد، لكن مع الحفاظ على خيارات متنوعة، وفرص لتجنب التصعيد الكامل في حال التراجع.

تحليل دوافع الارتداع الإسرائيلي
شهدت المواجهة بين العدو الإسرائيلي والمقاومة اللبنانية منذ 16 أيلول 2024 تصعيداً غير مسبوق، ما دفع إلى إعادة تقييم مفهوم الردع وتأثيره الفعلي في سلوك الاحتلال. في هذا السياق، يمكن تسجيل عدد من الفرضيات حول دوافع الارتداع الإسرائيلي وتداعياته على مجريات الصراع.

إستراتيجية لاستبعاد استهداف المدنيين
يرجّح أن امتناع إسرائيل عن استهداف المدنيين لم يكن مجرد قرار تكتيكي لحظي، بل كان جزءاً من خطة متكاملة تهدف إلى ضرب حزب الله عسكرياً وأمنياً واستخباراتياً، من دون اللجوء إلى تصعيد واسع يشمل استهداف بيئته الشعبية.

وعمد الاحتلال إلى تنفيذ عمليات مباغتة بأساليب غير مسبوقة، مثل تفخيخ الأجهزة الإلكترونية، واغتيال القادة، واستهداف المنشآت، وصولاً إلى اغتيال السيد حسن نصر الله. هذه العمليات، وخاصة الأخيرة منها، كانت تهدف إلى خلق صدمة مدوية تضرب المقاومة من الداخل وتدفع بيئتها الشعبية إلى التخلي عنها. غير أن حسابات العدو لم تكن دقيقة، إذ لم تؤدِّ هذه الضربات إلى تفكك المقاومة كما كان متوقعاً.

تكتيك لخنق المقاومة سياسياً
التوقيت الذي اختارته إسرائيل للبدء بإرسال الإنذارات بعد اغتيال السيد نصر الله يثير تساؤلات حول نواياها. فمن المحتمل أن يكون العدو قد خطط مسبقاً لتجنب قصف المدنيين، بهدف منع المقاومة من استغلال ذلك لحشد المزيد من الدعم الشعبي والردّ بالمثل على المستوطنين.

في حال استهداف المدنيين، كانت المقاومة ستعتبر ذلك مبرراً لتصعيد ردودها الدفاعية، ما يعيد فرض معادلة «حماية المدنيين» التي تعتبرها المقاومة أولوية إستراتيجية.

نهج إسرائيلي متكامل لضرب المقاومة
تشير المعطيات إلى أن إسرائيل تبنّت نهجاً متعدّد الجوانب في حربها ضد حزب الله، إذ لم تكتفِ بالتّصعيد العسكري، بل حاولت التأثير في المشهد السياسي والاجتماعي في لبنان، بهدف إضعاف المقاومة وتهيئة الأرضية لإعادة رسم الخريطة الإقليمية. هذه الإستراتيجية لم تكن وليدة اللحظة، بل سبقت «طوفان الأقصى»، وهذا ما كشفته التصريحات والتسريبات التي تلت الحرب.

بناءً على ذلك، يمكن القول إن ارتداع إسرائيل عن استهداف المدنيين لم يكن نتيجة لضغط دولي أو مخاوف إنسانية، بل كان جزءاً من خطتها الكبرى لعزل المقاومة وإضعافها داخلياً، وهو ما لم يتحقق كما كانت تأمل.

ارتداع الكيان ليس ناجماً في الأصل عن الارتداع في لحظة انهارت معها كل معادلات الردع، وإذا ما أخذنا في الحسبان استهداف المدنيين المقصود والمتعمد في حرب تموز.
وعليه، ماذا أراد الكيان أن يتجنب؟ وكيف رسم العدو الصراع؟

لم يكن الارتداع ناتجاً بالدرجة الأولى من مسار عمليات رادعة قامت بها المقاومة أثناء الحرب، إذ لا معنى للردع عند انفجار الصراع بعد تدحرج التصعيد، وإنما الارتداع ناجم عن سياسة المقاومة في الردع الذي عملت على بنائه سابقاً، من دون أن يلغي ذلك بعض إجراءات المقاومة الرادعة المباشرة في الحرب، والمساهمة في كبح بعض الخطوات التصعيدية المضادة من قبل العدو.

تحرّك الكيان في الارتداع المخطط له بناءً على المناورة ما بين التصعيد والردع. بمعنى آخر، استخدم التصعيد النشط تحت السيطرة الذي يسمح بالوصول إلى ذروة التصعيد مع التحكم بآليات الصراع عبر ثغرة مرونة ما تسمح له بالتملص شدة أو تخفيضاً في الصراع بحسب الحاجة. وهو ما تترجمه الحرب المهولة مع استبعاد المدنيين. اتخذ خطوات متعمدة لزيادة شدة الصراع ونطاقه، وهو ما يمكن أن يلحظ في التسلسل بعمليات الاغتيال بدءاً من الشهيد العاروري، فالسيد شكر، ثم عمليات التفجير من البايجر وسلسلة الاغتيالات ظنّاً أنها خطوات تصعيدية تجبر حزب الله على التراجع والانكفاء والانهيار.

ثم اقتنص العدو فرصة اغتيال سماحته، لكنه هرب باتجاه منفذ المدنيين، آخذاً في سيناريو تجنّب المدنيين بعض العوامل الأساسية التي تدفعه إليه وتسهم في اعتماده وتمنحه علامات راجحة. وهذه العوامل يمكن قراءتها في درجة الارتداع التي حكمت حركة العدو بالتوازي مع الاستهداف الشامل لبنية القيادة والكوادر.

بعد تنفيذ عملية اغتيال السيد حسن نصر الله، اختار العدو الإسرائيلي تجنب استهداف المدنيين، مستنداً إلى عوامل عدة عززت هذا النهج، أبرزها:

منع التصعيد الذي لا يمكن احتواؤه. أرادت إسرائيل تجنب الانجرار إلى مواجهة شاملة لا يمكن احتواؤها، مع الاحتفاظ بخيارات التصعيد كورقة ضغط تُستخدم وفقاً لتطورات الحرب.
تجنب رد المقاومة بالمثل. سعى العدو إلى دفع حزب الله إلى التفاعل معه عبر عدم استهداف المدنيين، ما يحمي بيئته الداخلية ويمنع المقاومة من امتلاك مبرر لضرب المستوطنين، مع إبقاء بعض أوراق التصعيد غير مستهلكة.
الاعتبارات القانونية الدولية. واجه الكيان ضغوطاً قانونية متزايدة في حرب غزة، ما دفعه إلى محاولة إظهار أن استهدافه يقتصر على المقاومة، لتجنب المساءلة أمام المحاكم الدولية.
الحفاظ على الدعم الأميركي وتجنب حرب إقليمية. تجنبت إسرائيل توسيع الصراع، وخصوصاً مع خشية إدارة بايدن من التورط في مواجهة مباشرة، في ظل تصاعد التوترات الإقليمية. كما أن إبقاء الحرب محدودة يخدم مصالح بعض الدول العربية التي تسعى إلى إضعاف المقاومة من دون المساس باستقرارها الاقتصادي.
يبدو أن ارتداع العدو عن استهداف المدنيين لم يكن قراراً أخلاقياً، بل تكتيكاً محسوباً يهدف إلى ضبط إيقاع الصراع، وتجنب تبعات قانونية ودولية، مع الحفاظ على الغطاء الأميركي واستمرار الضغط على المقاومة من دون اللجوء إلى تصعيد غير محسوب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى