هناك شيء ما في الحداد على شخص غريب يحكم على نفسه الحقيقية بالغموض. أتردد في حزن أخ لم أحظى به من قبل، وضحكة لم أسمعها من قبل، وأسرار لم أتعلمها قط، وحجج ووجبات إفطار لم نشاركها أبدًا. أتردد في الحزن على المصافحة التي لا أستطيع أن أمنحها إياه أبدًا، لإطعام الآلاف الذين قد لا ينجوا، في مكان قد لا أراه مرة أخرى.
إنني أتردد، حتى عندما واجه الفقيد الموت القاسي، وهو الموت الوحيد الممكن في غزة. أنا متردد، حتى وأنا أعرف أحبائه. حتى وأنا أعلم أنه كرم عائلتي بالاسم، حتى وأنا أتذكر الأوقات التي لمعت فيها عيون أخيه عندما تحدث عن عملهم في شمال غزة.
ولكن عندما يتم قول وفعل كل شيء، فإننا نعرف كيف سينتهي هذا. يموت ظلماً، وكبصمة وراثية، نشعر بحرقة مشرط قديم في صدورنا، حرقة سؤال، القضية الفلسطينية.
“كيف يمكنني أن أجعل من هذه الضحية بطلاً؟ لا لا…كيف أجعل هذا البطل ضحية؟
هل يمكننا القيام بالأمرين معًا؟”
وكأن اللغة الإنجليزية هي التي تقرر.
*
بالنسبة للطفل، “البطل” يرتدي قناعًا. لكن الشيف محمود لم يكن لديه قناع. لقد ظهر وجهه منذ البداية. لقد تعرضت عائلته للخطر منذ البداية. ما زالوا كذلك.
بالنسبة لشخص بالغ، يرتدي “البطل” زيًا عسكريًا ويقتل الأرواح. لم يفعل الشيف محمود شيئًا سوى إنقاذ الأرواح. لم يكن لديه أي وسيلة دفاع للتمويه، ولا حتى بندقية. كان سلاحه الوحيد هو المغرفة التي في يده، وقد أنقذ هذا السلاح الآلاف.
كيف يمكن لأي شخص غير البطل أن يتفوق على شجاعة كل هذه الشخصيات -سواء كانت خيالية أم لا- أكثر قدرة على الدفاع عن نفسه؟ هل سيفهم العالم يومًا الإنسانية المحضة لمثل هذا الشخص؟ هل ضاع في الترجمة؟
يبدو الأمر كما لو أن العالم قد فقد طلاقته في اللغة التي تتقنها فلسطين أكثر من غيرها: لغة الأفعال. تلك اللغة التي ترك محمود المدهون بصمته عليها بأغنى الشعر.
هناك حرق مرة أخرى. أشعر بثقل شبابي يضيع خارج فلسطين، بعيداً عن الرجال الذين لا يستطيع أمة غير فلسطين أن تنتجهم. بعيداً عن العائلات التي تحت وطأة المجاعة الحتمية تقول: “لا، شكراً. نحن مبدعون جدًا بحيث لا نستطيع أن نتضور جوعًا، ومستقيمين جدًا بحيث لا نقتلع جذورنا”.
أو “يمكنك أن توجه بندقية إلى رأسي وتجردني من ملابسي الداخلية، لكن أعدك أنك لن تجد ما تبحث عنه أبدًا. لن تعجز أبدًا القلب الذي ينبض لغزة. لا يمكنك أن تختطفه وتدفعه إلى الجبن، أو تفقره إلى التبعية، أو تجبره على الصمت. سأبقى هنا إلى الأبد.”
وهناك بقي. للأبد.
*
شعور غريب أن نحزن على الشيف محمود.
في البداية، أردت أن تمجده هذه الكلمات. اعتقدت أن هذا هو سبب حرق صدري. لكنها ما زالت مشتعلة، والآن أدركت: لا شيء من هذا التعظيم لي ولا لعائلة المدهون، ولا حتى لنا نحن الفلسطينيين. لا، أنا في الواقع أقوم بتجميع هذه الكلمات الإنجليزية لجذب إنسانية مستعمرينا بالوكالة، مثل كبسولة فضائية تم إرسالها على أمل العثور على حياة خارج كوكب الأرض.
أدركت فجأة أهمية تحسين لهجتي، والحفاظ على أي جوانب عاطفية جانبية بين قوسين، عشر كلمات أو أقل. (أنا أكره حقيقة أننا يجب أن نموت. أكره حقيقة أننا نعرف بالضبط من سيموت وكيف، وأننا نتوقع ذلك بناءً على الفساد الأخلاقي الذي لا حدود له لقوة استعمارية إبادة جماعية تقتل عمال الأغذية، وتذبح عائلاتنا واحدًا تلو الآخر). من شخص مثل أنه لا شيء. أنا أكره أن أكون واضحًا ومراجعًا لهذا، في حالة فشل بعض التناقض في تدفق كتابتي في إقناع القارئ بأن الإبادة الجماعية تستحق التوقف.) أنظر إلى ذلك الوقت.
إنها الثالثة صباحًا، وبعد أربع ساعات من التظاهر بأن موت هذا الرجل الطيب لا يدمرني، والتظاهر من خلال الكلمات، أدركت أخيرًا ما هو الحرق. نحن الفلسطينيون نعرف من نحن. نحن نعرف ما هي إسرائيل. ولكن يبقى أن يراها العالم.
لقد قلتم لنا كعالم أن نتحمل أسوأ أهوال وإذلال الاحتلال، دون اللجوء إلى العنف.
لقد طلبت منا أن نعلم أطفالنا الحب والعلم، حتى لو قصفت إسرائيل كل مدرسة.
لقد طلبت منا أن نغني ونبتسم ونطبخ من خلال معاناتنا.
لقد أخبرتنا ألا نكون متسولين، ولا أن نتضور جوعا في صمت.
لقد طلبت منا أن نقاوم، ولكن من دون أي أسلحة.
لنعتمد على “عينيك” للدفاع عنا.
الشيف محمود فعل كل تلك الأشياء. وتم اغتياله بضربة بطائرة بدون طيار.
هل نحن ضحاياك المثاليون الآن؟
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء المؤلف ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
المصدر
الكاتب:
الموقع : www.aljazeera.com
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2024-12-06 10:29:42
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي
تم نشر الخبر مترجم عبر خدمة غوغل