ارشيف الموقع

مسارات العملية البرية الإسرائيلية في لبنان

مسارات العملية البرية الإسرائيلية في لبنان

تحاط العملية البرية الإسرائيلية في الجنوب اللبناني بالكثير من الضبابية من قبل طرفيها، من حيث عدم وضوح الأهداف الإسرائيلية، والنقطة التي تُريد إسرائيل التوقف عندها، والخطوة التالية لها، وكذلك من جهة القدرات الكامنة التي يُمكن لحزب الله استخدامها لرفع كُلف ذلك التوغل.
الكاتب ستراتيجيكس
تاريخ النشر – ١٧‏/١٠‏/٢٠٢٤
:

تدخل الحرب بين حزب الله وإسرائيل مرحلة جديدة، منذ أن بدأ الجيش الإسرائيلي عملياته العسكرية البرية في جنوب لبنان مطلع أكتوبر 2024، بعد تنفيذ سلسلة من الاغتيالات الدقيقة التي استهدفت الهيكل القيادي في حزب الله وصولاً إلى أمينه العام حسن نصر الله في 27 سبتمبر الماضي، والذي سبقه الكشف عن خرق أمني كبير داخل صفوف الحزب وأماكن تواجده في كلٍ من لبنان وسوريا. ما يطرح العديد من التساؤلات حول الأهداف الإسرائيلية من العملية البرية، خاصة بعد ظهور مؤشرات تُشير إلى تجاوز المطلب الإسرائيلي بتنفيذ القرار 1701، نحو محاولات لحسم الحرب وتهيئة ترتيبات إقليمية وتوازنات جديدة على المستويات السياسية والعسكرية، ما يعني أن العمليات البرية العسكرية قد تمتد وتتوسع لما بعد الليطاني، وبما يتعدى الأراضي اللبنانية إلى مناطق أخرى يتواجد بها حزب الله.
سياقات التصعيد واستراتيجياته بين الطرفين
تأسس التصعيد الأخير بين إسرائيل وحزب الله بفعل سلسلة من التوترات المتراكمة والمواجهات المحدودة بينهما مع بدء الحرب في قطاع غزة، إلا أنها تفاقمت بشكل كبير نتيجة القراءات المتباينة للطرفين حيالها، فانتقل التصعيد من مرحلة جبهة الإسناد والاستنزاف المحدود الذي بادر حزب الله بها لدعم الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة منذ 8 أكتوبر 2023، إلى مرحلة معقدة من التوازن بالتصعيد المتبادل ضمن قواعد الاشتباك، وصولاً إلى استعادة إسرائيل للمبادرة على الجبهة اللبنانية بعد أن وجهت ضربات إلى الحزب وضربات “غير متكافئة” قضت على هيكله القيادي واستهدفت مواقع عدة لتخزين السلاح، وصولاً إلى العملية البرية والتوغلات اليومية للقوات الإسرائيلية في قرى لبنان الجنوبية.
فمن ناحية، اعتبر “حزب الله” أنّ دخوله في الحرب كجبهة إسناد لجبهة قطاع غزّة قد يمثل حالة استنزاف لإسرائيل ويحافظ على معادلة الردع والدفاع بينهما وبما يجنبه الدخول في حرب شاملة؛ فتبنّى في مواجهاته طريقة التوازن والردع في أي ردود عسكرية لإظهار امتلاكه قدرة على الردع، ولعكس استعداده للحرب إن وقعت، خاصةً وأنّه اعتمد على الإعلام في إظهار كشفه للمناطق الحيوية في إسرائيل في إطار تأكيد جاهزيته للردّ واستعداده لأي مواجهة محتملة. ومن جهة أخرى؛ اعتمد على إطلاق محدود للصواريخ تجاه أهداف إسرائيلية عسكرية فقط حفاظًا على عدم إتاحة الفرصة أمام إسرائيل لجرّ الحزب إلى حرب لا يمكن التحكم بمسارها ونتائجها، لا سيما في ظلّ كلّ الأزمات التي يعاني منها لبنان وفي ظل رئيس حكومة مؤقت، وفراغ في منصب الرئيس ومحافظ البنك المركزي.
قرأت إسرائيل في انخراط الحزب في الحرب، بأنه جزء من هدف إيراني أوسع لتقويض المنظومة الإسرائيلية، خاصة بما يمتلكه من أسلحة متقدمة ومسيّرات وصواريخ دقيقة ومختلفة المدى ما دفعها إلى تبني سياسة الضربات الاستباقية، منعاً لامتلاك الحزب المبادرة في تنفيذ هجمات مماثلة لأحداث 7 أكتوبر من جهة الجليل، ولذلك ركزت خلال الشهور الأولى على اغتيال القادة الميدانيين لوحدات الحزب في الجنوب اللبناني، قبل أن تنتقل إلى ضرب مختلف المستويات القيادية والعملياتية والتشغيلية بهدف إحداث فراغ هيكلي في الحزب لا يُقيد فحسب من قدرته على المُبادرة، بل ويضعه أمام مخاطر جدية على وجوده. وهو ما دفع إسرائيل لتجاوز مطالبها السابقة بتطبيق القرار 1701 إلى محاولة تجريد الحزب من سلاحه وإضعافه إلى أقصى حد سواء في الساحة اللبنانية أو الإقليمية.
العملية البرية الإسرائيلية في لبنان
بدأ الجيش الإسرائيلي مطلع أكتوبر 2024 توغلات برية محدودة في الجنوب اللبناني، وقد أعلن أن الهدف من العملية التي أطلق عليها “سهام الشمال” هو تدمير البنية التحتية لحزب الله المحاذية للحدود، والحد من تهديد الحزب المتمثل في إطلاق الصواريخ، خاصة قصيرة المدى، بما يُهيئ لإعادة المستوطنين إلى مستوطناتهم في شمال إسرائيل. جاء ذلك بعد أن نقلت إسرائيل زخمها العسكري من القيادة العسكرية الجنوبية المسؤولة عن القتال في قطاع غزة، إلى الشمالية، المسؤولة عن لبنان، حيث تعمل تحت قيادتها خمسة فرق عسكرية وهي (الفرقة 98 و91 و36 و146 و210).
في الواقع؛ تتشابه التكتيكات الإسرائيلية في القرى المحاذية للحدود، مع إجراءاتها في قطاع غزة، إذ أصدرت أوامر إخلاء إلى سكان تلك القرى، وفي 16 أكتوبر فجرت القوات الإسرائيلية “بلدة محيبيب” الواقعة على الحدود بالكامل، فيما يبدو أن إسرائيل تحاول إفراغ تلك القرى من البنى التحتية، لخلق واقع صعب على عناصر حزب الله في التحرك بتلك المناطق، والحد من قدرتهم على الوصول إلى الشريط الحدودي، ومستقبلاً يرفع هذا التكتيك على الحزب كُلف استهداف إسرائيل انطلاقاً من القرى الواقعة على طول المسافة من الليطاني إلى الحدود، والتي ستتعرض لأوامر إخلاء وتدمير من قبل إسرائيل. بالإضافة إلى محاولات إسرائيل إبقاء الحزب وأنصاره في حالة من الصدمة والإحباط، إذ تكشف بين الحين والآخر عن مقاطع فيديو لأنفاق تحت الأرض، وأسلحة تم مصادرتها، وأسرى نُشرت محاضر التحقيق معهم.
في المقابل؛ بينما فقد حزب الله هيكله القيادي، إلا أنه يُظهر تماسكاً على المستوى الميداني، فيما يبدو أن الكتائب المنتشرة على الأرض تعمل باستقلالية وبتواصل محدود مع غرف العمليات، ولا يزال قادراً على إطلاق هجمات صاروخية واسعة النطاق ضد مناطق الشمال الإسرائيلي وحيفا، وكذلك هجماته ضد القوات الإسرائيلية المتركزة على الحدود ومرابض المدفعيات، وتنفيذ هجمات نوعية مثل تلك التي استهدفت معسكر تدريب للواء غولاني في 14 أكتوبر. وذكر الأمين العام المؤقت للحزب نعيم القاسم، في خطاب له، أن قدرات الحزب العسكرية لا تزال سليمة، وبأن إسرائيل لم تتمكن من التقدم منذ أن توغلت برياً في لبنان.

المسارات المتوقعة للعملية البرية الإسرائيلية
لا تزال العملية البرية في بدايتها وهي مُحاطة بالكثير من الضبابية من قبل طرفيها، من جهة الأهداف الإسرائيلية، والنقطة التي تُريد إسرائيل التوقف عندها، والخطوة التالية لها، وكذلك من جهة القدرات الكامنة التي يُمكن لحزب الله استخدامها لرفع كُلف ذلك التوغل، خاصة أن المواجهات على الأرض تبدو أكثر تعقيداً من النتائج السريعة للعمليات الجوية، خاصة في ضوء البيئة الجبلية في الجنوب التي تمنح المُدافع ميزة على الخصم، بالإضافة إلى الخبرات التي امتلكها مقاتلي الحزب من خلال مشاركتهم الخارجية في سوريا وخاصة قوة الرضوان التي لا تزال قادرة على استدراج الجنود الإسرائيليين وتنفيذ الكمائن، بالرغم من اغتيال هيكلها القيادي بالكامل. وفي الواقع؛ يُحدد نطاق القدرات العملياتية للطرفين سيناريوهات ومستقبل العملية البرية الإسرائيلية ومضمون أهدافها كما يلي:
المسار الأول: إنشاء حزام أمني تُسيطر عليه إسرائيل
تعكس عمليات التوغل والتدمير الممنهج للقرى الحدودية النوايا الإسرائيلية بإنشاء حزام أمني على طول الحدود الممتدة على مسافة 100 كيلومتر، وبعمق قد يصل إلى 5 كيلو متر، وقد بدأ العمل على هذا المسار منذ اندلاع التصعيد، إذ تركزت أغلب الضربات الإسرائيلية على هذه المساحة الجغرافية، واستخدمت فيها الفسفور الكيميائي بحسب تحقيق نشرته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية أواخر يونيو، ما جعل من تلك المنطقة غير صالحة للعيش أو الزراعة. وفي الواقع؛ تعززت لدى إسرائيل فكرة الأحزمة الأمنية منذ اندلاع الحرب، إذ تعمل على توسعة المنطقة الآمنة على الحدود بين قطاع غزة وغلافه، بعمق كيلومتر داخل القطاع، وتُشير التقارير أن القوات الإسرائيلية تعمل على إنشاء “سياج آمن” على عمق 200 متر داخل الأراضي السورية، وما يُرجح من الاكتفاء في هذا المسار؛ الإعلان المتكرر من المسؤولين الإسرائيليين عن محدودية توغلها، وأن القوات البرية تواجه العديد من القيود في تنفيذ حملة برية واسعة، نتيجة النقص في الدبابات وفق ما أعلنه الجيش الإسرائيلي في 15 يوليو، وإعلانه عن إجراءات جديدة لاستخدام الذخائر الثقيلة بسبب نقص مخزوناتها في 13 أكتوبر، بالإضافة إلى التعب الذي لحق بالجنود النظاميين والاحتياطيين جراء انخراطهم لمدة عام في الحرب في قطاع غزة، وقد تتفاقم بتلك المشاكل حالة الدخول بتوغل بري واسع في لبنان.
المسار الثاني: الانسحاب مع الحفاظ على حرية إسرائيل العملياتية
يتحدد هذا المسار في ضوء الصعوبات التي قد تواجه الجيش الإسرائيلي في توغله البري، واحتمالات ارتفاع كُلف التوغل المادية والبشرية والعسكرية، وصعوبة الحفاظ على المناطق اللبنانية الحدودية أو السيطرة على الأرض أو النجاح في إنشاء منطقة آمنة، وذلك قد يُعزز المخاوف الإسرائيلية من الانجرار إلى حرب استنزاف قد تمتد لسنوات، وفي ظل رغبة الحزب في إعادة تنظيم صفوفه، وتلويح الأمين العام بالوكالة بقبول الحزب تطبيق القرار 1701، فمن المحتمل أن تُوافق إسرائيل على تطبيق القرار لكن بإضافة تعديلات عليه، تُتيح للجيش الإسرائيلي حرية عملياتية في مناطق الجنوب الحدودية، وبما يمنع حزب الله من إعادة ترميم بُنيته التحتية على الحدود، خاصة وأن مسؤولين إسرائيليين اتهموا قوات المراقبة التابعة للأمم المتحدة “اليونيفيل” بأنها بلا فائدة، واستدعى الجيش صحفيين أجنبيين لتصوير فتحة نفق تبعد 200 متر عن مُعسكر لقوات اليونيفيل، وقد تكون تلك مقدمات لإضافة تعديلات على قرار الأمم المتحدة 1701، الذي تم تبنيه في يوليو 2006.

المسار الثالث: التوغل في الجنوب اللبناني
تُشير الوتيرة المنخفضة والبطيئة للتوغلات البرية الإسرائيلية في جنوب لبنان، بأن الجيش لا يزال في مرحلة الاستطلاع، من خلال مُراقبة سلوك وتكتيكات حزب الله الدفاعية، ومحاولة الكشف عن المخابئ والأنفاق والمواقع العسكرية، وذلك للبدء في هجوم بري باستخدام كبير للقوات الإسرائيلية بمختلف تشكيلاتها، والتوغل وصولاً إلى عمق الجنوب اللبناني، وتحديداً معاقل حزب الله التقليدية في الجنوب، حيث تُدرك إسرائيل أن المسارين الأول والثاني، لن يحققا الأمن الكامل للمستوطنات خاصة من الأسلحة بعيدة المدى مثل الصواريخ والمسيرات، وهذا يستلزم عملاً عسكرياً في كامل الجنوب، وبما يؤدي إلى إضعاف الحزب ميدانياً ويستكمل إضعافه هيكلياً، خاصة وأن القضاء على قوة الرضوان يعتبر هدفا إسرائيلياً واضحاً، وكان هيكلها القيادي من أبرز عمليات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل بدءاً من قائدها الميداني وسام الطويل في يناير 2024، وقائد القوة إبراهيم عقيل الذي قُتل إلى جانب 20 آخرين من قيادة الوحدة من بينهم مسؤول التدريب فيها أحمد وهبي في سبتمبر 2024.
المسار الرابع: التوسع العملياتي في العمق اللبناني
في حالة النجاح العملياتي في تنفيذ المسار الأول والثالث، وفي حالة استمرار رد الفعل المحدود لحزب الله، فقد تتوسع الأهداف الإسرائيلية، للعمل عسكرياً في العمق اللبناني بما يتضمن العاصمة بيروت، حيث توسعت الأهداف الإسرائيلية من الحرب، ولم تعقد مقتصرة على الفصائل المسلحة في قطاع غزة، أو حزب الله في لبنان، وإنما بتقويض “وحدة الساحات” التي يعتبر حزب الله ركيزة أساسية فيها، خاصة ان إسرائيل تُوسع من استهداف الحزب في كافة مناطق تواجده لا سيما في سوريا، ما يجعل من الضاحية الجنوبية هدفاً لإسرائيل تُضعف به الحزب إلى أقصى حدوده وتسلبه شرعيته عند حاضنته، وتضعف موقفه أمام القوى اللبنانية الأخرى. كما أن الهجوم على معاقل الحزب في الضاحية قد لا يتم بصورة توغل بري مُباشر بل قد يأخذ شكل الإنزالات الجوية والغارات الخاطفة والسريعة للقوات الخاصة الإسرائيلية والقوات المحمولة جواً.
مع ذلك؛ بالرغم من التفوق العملياتي والاستخباراتي الإسرائيلي، فإن هذه المسارات تُحاط بتعقيدات عدة منها ميدانية ومنها ما يتعلق بالمواقف الإقليمية والدولية، فمن جهة لا يزال حزب الله يظهر قدراته في التصدي للتوغلات البرية الإسرائيلية، وتتزايد المؤشرات عن تعافيه من سلسلة الضربات السابقة، كما باتت الدول الإقليمية والمجتمع الدولي يُدركون اتساع الأهداف الإسرائيلية وبشكل قد يُدخل المنطقة وسط حالة اضطراب غير مسبوقة، فمثلاً عارضت الولايات المتحدة الغارات التي تنفذها إسرائيل على بيروت، وتحاول منعها من استهداف العاصمة لا سيما الضاحية الجنوبية، وهذه الضغوط ستتزايد كلما طالت فترة التوغل البري في لبنان، والذي لا يُرجح أن يكون سريعاً بالنظر إلى تعقيدات ميدانية عدة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى