روابط غير منطوقة: النازحون قسراً في غزة والمنازل التي يتوقون إليها | الصراع الإسرائيلي الفلسطيني
منذ حوالي 17 عامًا، تلقيت أول جهاز كمبيوتر محمول كهدية عائلية. وجاء معه حقيبة سوداء محمولة للكمبيوتر المحمول، بالإضافة إلى ملحقات أخرى.
وبينما كنت متحمسة بشأن الهدية، طلبت حقيبة ظهر بدلاً من الحقيبة لأنها “أسهل في الحمل في حالة اضطراري إلى الفرار”.
في ذلك الوقت، لم أكن قد شهدت التهجير. والآن، وأنا أجلس في ملجئي الثالث في دير البلح، بعد أكثر من عشرة أشهر من اضطراري إلى الفرار من منزلي، أدركت أن طلبي ربما كان مجرد همسة من الماضي، أو أصداء لجدودي ــ الذين طُردوا من منزلهم في القدس لإفساح المجال لإنشاء دولة إسرائيل في عام 1948 ــ تمتد عبر العقود.
خطوط النجاة إلى منزل بعيد
باعتبارك فلسطينيًا، فإن أحد الأشياء التي ورثتها هو الخوف الدائم والمستمر من فقدان منزلك دون سابق إنذار.
أنت تحاول باستمرار حماية ماضيك وحاضرك ومستقبلك، دائمًا على حافة الهاوية، وتستعد دائمًا لاحتمالية الاضطرار إلى الفرار في أي لحظة.
إن هذا الشعور بالوقوف على أهبة الاستعداد هو بمثابة تذكير دائم بالماضي الذي لم يختبره جيلنا جسديًا أبدًا ولكنه عاشه وراثيًا وأخلاقيًا وعاطفيًا.
إنه التهديد بنكبة أخرى، ويقظة لا تنتهي ضد فقدان ما هو عزيز عليك.
مع مرور الوقت، يعمل هذا الخوف على تعزيز الشعور العميق بالارتباط بممتلكاتك القديمة، في حين أن الأشياء الجديدة تثير شعوراً متزايداً بالخوف.
ربما اشترى أجدادك فيلا حديثة في مكان لجوئهم، لكنهم ما زالوا لا يشعرون بأنهم في “منزلهم”. سيظلون يشعرون بالحنين إلى مكانهم القديم المتواضع إلى الأبد.
في الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول، استيقظت في حوالي الساعة الثالثة فجراً على مكالمة هاتفية. رسالة صوتية مسجلة من جيش الاحتلال الإسرائيلي، تأمر سكان مدينة غزة وشمال قطاع غزة بمغادرة منازلهم على الفور والتوجه إلى جنوب وادي غزة، وتصنف الحي الذي أعيش فيه على أنه “منطقة قتال خطيرة”.
لقد كنت مترددًا في ترك منزلي، لذا استسلمت أخيرًا لضغوط الأسرة لإخلاء المنزل بمجرد شروق الشمس. ولأنني اعتقدت أن نزوحي لن يستمر سوى بضعة أيام، فقد حملت معي بعض الأشياء الأساسية فقط، وارتديت قميصًا مخططًا وبنطالًا أسود فوق بيجامتي، وتوجهت إلى ما سيصبح “ملجئي الأول”.
منذ أن انتقلت إلى ملجئي الثاني ثم الثالث، تحولت هذه العناصر إلى خطوط حياة تربطني بمنزل لم يعد بإمكاني الوصول إليه.
أصبحت المنطقة التي يقع فيها منزلي معزولة تمامًا الآن، حيث قطعتها إسرائيل عن المكان الذي ألتجئ إليه الآن.
اليوم، الوقت الوحيد الذي لا أرتدي فيه القميص المخطط الممزق الذي ارتديته أثناء فراري هو عندما يتعين علي أن أغسله.
لمدة أشهر، تمسكت بهذه القطعة الوحيدة من الملابس، رافضًا شراء أي شيء جديد. كانت بمثابة رابط رث بيني وبين حياتي المألوفة، وبقايا مريحة وسط الفوضى.
ولكن في النهاية، كان علي أن أواجه الواقع – لا أستطيع الاستمرار إلى ما لا نهاية بقميص واحد فقط.
ومع ذلك، لا أزال أهتم بشدة بالحقيبة الوحيدة التي تمكنت من الحصول عليها، وأصر على استخدام نفس الأحذية، ونفس النظارات، ونفس سجادة الصلاة والملابس.
خلال الشهر الثامن من نزوحي، اعتقدت أنني فقدت نظارتي الشمسية، التي اشتريتها في مدينة غزة قبل عامين.
مشيت في الشارع وأنا أبكي بصمت، ووعدت نفسي بأنني لن أشتري زوجًا آخر من منطقتي التي ألجأ إليها. شعرت بالخسارة وكأن قطعة من هويتي تتلاشى، ورائحة الوطن تتلاشى. كان قلبي يؤلمني جسديًا.
وفي محاولة أخيرة مني للأمل، اتصلت بعائلتي في الملجأ، وطلبت منهم البحث عن النظارات الشمسية. “نعم، لقد وجدناها”، كان شعوري عظيماً بقدر شعوري بالخبر الذي يفيد بأنه سيُسمح لنا بالعودة إلى المنزل.
وبمرور الوقت، تأخذ هذه المرفقات أبعادًا أكثر غرابة.
على مدى الأشهر التسعة الماضية، رفضت قص شعري كما كنت أفعل بانتظام في المنزل. ولم أفكر حقًا في السبب حتى وقت قريب.
لقد أدركت أنني لا أريد قص “شعر المنزل” والسماح لشعر “الملجأ” بالنمو في مكانه.
تضحيات لا تقدر بثمن
في بداية حربها المدمرة على غزة، أعلنت إسرائيل “حصار كامل“على الجيب المحاصر منذ 17 عامًا، مما أدى إلى منع دخول المواد الأساسية، بما في ذلك الغذاء والدواء. ماء.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت المياه شحيحة وغير متوفرة في كثير من الأحيان، مما أدى إلى تفاقم الأزمة. وقد أدى استهداف إسرائيل لمصادر المياه في جميع أنحاء القطاع، بما في ذلك الآبار والبنية الأساسية، إلى تفاقم الوضع المزري.
وبحلول نهاية الشهر الأول من النزوح، حيث لجأت مع نحو 70 شخصاً ــ ثلثاهم من النساء والأطفال ــ بدأنا ندرك أن أزمة المياه سوف تستمر لعدة أشهر.
لقد قضينا أيامًا بدون مياه شرب نظيفة و احتفل شاحنة توزيع المياه تمر بجانب ملجأنا كل أربعة أو خمسة أيام.
في الوقت الذي كان يتعين علينا فيه ترشيد كل قطرة ماء وحساب الجرعات التي نتناولها كل يوم حرفيًا، لم يكن لدينا رفاهية الاستحمام كل يوم، أو حتى كل أسبوع.
وقد دفع هذا العديد من النساء في ملجئي ــ وكما علمت لاحقا، في مختلف أنحاء القطاع ــ إلى قص شعرهن وشعر أطفالهن، حتى لا يستخدمن الكثير من الماء عند الاستحمام، أو لتقليل خطر الإصابة بالقمل عندما يضطررن إلى البقاء لأسابيع دون أن يتمكن من غسله.
عند التفكير في الأهمية العاطفية العميقة لشعري، لا أستطيع إلا أن أتخيل الضريبة العاطفية التي لابد أن يكون قد فرضها على هؤلاء النساء اللواتي اضطررن إلى قطع واحدة من آخر روابطهن مع حياتهن القديمة الطبيعية.
إن قطع جزء من هويتهم ومواجهة انعكاسات غير مألوفة في المرآة – وجوه لم تعد تشبه من كانوا عليه ذات يوم – لا بد وأن كان تضحية عميقة ومؤلمة قدموها للتعامل مع واقع قاسٍ يبدو غريبًا بشكل متزايد.
لا أستطيع أن أقول كم عدد النساء اللواتي لجأن إلى هذا منذ ذلك الحين، ولكن الشيء الوحيد الذي أعرفه على وجه اليقين هو أنه عندما نعود أخيرا إلى منازلنا في مدينة غزة وشمال قطاع غزة، في اللحظة التي نضع فيها أقدامنا على أرض الوطن، لن تحتفظ أي امرأة في غزة بشعرها الطويل.
نحن جميعًا نحمل وعدًا غير منطوق لأنفسنا بأنه بمجرد عودتنا، سنقوم أخيرًا بقص “شعر الملجأ” الخاص بنا، مما يسمح لشعر “المنزل” بالنمو مرة أخرى، وتغذيته بالسلام الذي نتوق إليه.
المصدر
الكاتب:
الموقع : www.aljazeera.com
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2024-09-02 09:24:50
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي
تم نشر الخبر مترجم عبر خدمة غوغل