ٍَالرئيسية

البعد الوجداني لثورة الاصلاح الحسينية في التصميم الكرافيكي

ثورة الإصلاح الحسيني
وهناك جملة من الآيات القرآنية تدعو الى ضرورة تمسك الإنسان بفعل الخير، وهي إشارة إلى أن الإسلام ثورة فكرية وأخلاقية، ثورة قيمية أبرزت حقائقا وأقرت تعاليما، وقد جسد الإمام الحسين (عليه السلام) في ثورته هذه القيم والمفاهيم الأخلاقية وضرب وأهل بيته وأصحابه أروع الأمثلة في درجات التكامل الخلقي، وقد بين الهدف من قيامه بنهضته المباركة، وهو إصلاح الأمة بعد انحرافها عن قيم الإسلام التي أتى بها الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله) في رسالته الإلهية، كما عبر الإمام عن ذلك في مقولته (…واني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله)، لقد ضرب الإمام الحسين (عليه السلام) أروع الأمثلة في الصمود والصبر في مواجهة القمع والإرهاب والسيطرة على العواطف والانفعالات وتحطيم جدران الخوف وحواجزه والتوكل على الله دون أن تتزعزع إرادته حتى وهو يرى تساقط الضحايا من أهل بيته وأصحابه ، ويرى الأطفال وهم يتضورون عطشاً ويذبحون ويروّعون، ويرى أمامه رهبة السلب ونهب الخيام والسبي والتشريد والتعرض لأشد الأخطار والإمام أراد أن يوقظ ضمير الأمة ووجدانها الذي يعبر عنه بالتعبير الإسلامي بـ(الفطرة)، أو بـ(العقل العملي) كما يعبر عنه الفلاسفة والكلاميون، فالإنسان بعقله العملي وبما أودع الله تعالى في فطرته من مدركات، يدرك الحسن من القبيح، وعندما لا يلتزم بالسلوك الحسن فان هذه الفطرة تنحرف وتتحول الى قاعدة سلوكية متسافلة، ويصبح المجتمع مجتمعاً منهاراً أخلاقياً كما كان ذلك حال المجتمع في عصر الإمام، وقد قام بثورته من أجل الحفاظ على هذه القيم وآثر بنفسه من أجل المصالح العامة.

فن القيم وأدبها وإعلامها
لقد نادت الثورة الحسينية بالإصلاح والقضاء على الانحراف الذي طال المجتمع الإسلامي بوجه خاص والكف عن الحرام بكل أشكاله والظلم بكل مستوياته، وحرمة التعدي على حقوق الآخر، وصون المرأة، فضلاً عن أخلاقية الثورة التي تحترم النفس البشرية، لعل ما مر به الإمام( عليه السلام)وأهل بيته وأصحابه من محن ومصائب وآلام وتقتيل ومُثلة وحرمان، يمثل جانباً من الجريمة الوحشية المروعة التي اهتز لها الضمير الإنساني، وتكشفت بها الحقيقة المرة في طغيان يزيد وانحراف حكمه، وهو سلوك كل سلطة فاسدة مستبدة، ولم تقف الثورة الحسينية عند استشهاد الإمام وأهل بيته واصحابه بل راحت جذورها تستمر لتقوض أركان عروش بني أمية، وراحت أصدائها تملأ أقطار الأرض وآفاق السماء لتعيش في ديمومة الخلود. ولقد كان السبب الرئيسي لديمومة الثورة واستمرارها وفي انجاحها هو الدور الخاص الذي قامت به البقية الباقية من أهل البيت(عليهم السلام) في تغطيتها وتوضيح معالمها وأهدافها من الناحية الإعلامية وإبلاغ رسالتها الى الناس، وتتمثل بالإمام زين العابدين وعمته السيدة زينب الكبرى (عليهما السلام) وبقية النسوة، اذ بينّوا للناس وهم في خضم معاناة مسيرة السبي والاضطهاد الوحشي من كربلاء الى الكوفة ومن الكوفة الى الشام – عبر خطبهم ومقالاتهم البليغة المؤثرة – حقيقة انتسابهم لأهل البيت ومظلوميتهم، فضلاً عن توضيح الأهداف السامية للثورة، والأمل بتحقيق النصر المستقبـــــلي لها.
لقد شكلت واقعة الطف بأهدافها وقيمها ومبادئها السامية مادة غنية لكثير من الأدباء والفنانين فانتقوا أعمالاً أدبية وفنية لا تخلو من استقراء لتداولية الواقعة وموروثها الشعبي، فوظفوا أبعادها في أعمالهم الفنية، إذ لم تكن عاشوراء مجرد مادة تاريخية عابرة، وإنما كانت ثورة دينية سياسية لها ابعادها الفلسفية التي تضمنت مفاهيم وقيم وتقاليد انسانية عالية، وهي أساس تخليدها عبر العصـور وقد كانت الواقعة دافعاً اساسياً لتمثلاتها في مختلف النشاط الإنساني على امتداد رقعته الجغرافية باختلاف أماكنها وديمومة زمانها، وإن أي نشاط لابد وأن يؤدي إلى بنية جمالية لاتحد من حيث التأويل، ذلك أن أي مبدع حين يلجأ إليها فهو يستمد منها العون في التغلب على ما يقوض إنسانيته، فيكون الحل الأمثل أن يحتذي بمجريات الطف ويغلف بها مقاصده الباطنية حتى وإن بدت في ظاهرها مسايرة للأوضاع العامة السائدة وبذلك يتحول إنتاجه الى وثيقة أخلاقية تعكس مبادئ وقيم عليا ساعدت بشكل أو بآخر على نشر ما نادت به الرسالة الإسلامية. فقد تنوعت النشاطات الشعبية لتمثلات الواقعة ، فمنها ماهي نشاطات شعرية ومسرحية (التشابيه)، ومنها ماهي فنون تشكيلية (رسوم شعبية) عبر مشاركة وجدانية تنتقل الذات من خلالها لتتمثل في شخوصها الحرية، والنبل والعظمة والخلاص من الجور، وجمال هذه التمثلات بصدقها وعفوية طرحها، ذلك لأن الطف وشعائره هو الممارسة الوحيدة التي يجتمع فيها كل الناس بمختلف تنوعاتهم ، وبتجرد كامل عن كل ما يلتصق بهم من ممارسات يومية قريبة أو بعيدة عن الدين ، وأحياناً كثيرة تذوب كل المستويات الثقافية والعلمية لتشارك عامة الناس في إحياء ذكر عاشوراء.

أيقونة الفن التشكيلي الحسينية
والفنون التشكيلية وسيلة لتفريغ الشحنات النفسية والمشاعر أو التجارب الإنسانية المختلفة في سياق أحداث تؤثر في الفنان كما يؤثر في المجتمع وبما يمتلكه الفنان الشعبي من موهبة فإنه يمتلك القدرة على إحداث تغيير في شكل الخامة الطبيعي فتتحول الى صورة مبتكرة ذات صفات جمالية محملة بالمعاني والمضامين الفكرية . وعلى الرغم من أن كل نتاج خاص بالواقعة غايته الأساسية خدمة قضية الطف بصيغة أو بأخرى، فقد تنوعت الرسوم في كيفية إنشائها وأشكالها ورموزها باختلاف أسلوب التعبير وكل ما يتضمنه من إيقاع وعلاقات، لذلك فإن من خصوصية الرسوم الشعبية الاتحاد بالمجموع، وهذا الاتحاد هو الذي أدامها وأدى الى تعلق الناس بها بأعتبارها (أيقون) يرسخ العقيدة والالتزام بها وبقضيتها، ويقلل من أهمية ما يثار من حولها من شبهات، وذلك أنها لا تحاول الاقتراب من الشبه الكلي قدر إقترابها من تمثيل الجوهر والدليل ارتباط رموزها بمجاورات ترتبط فيما بينها بعلاقات حميمية تؤدي مهمة الفهم والإدراك.
إن عرض الشعائر الحسينية ظاهرة اجتماعية مستعارة لها تأثيرها على صياغة سلوكيات الفرد وشخصيته الثقافية وهويته، فهي كمعطى ثقافي تعمل على توحيد السلوكيات الثقافية للفرد ضمن الجمالية وتضفي عليها طابعاً ثقافياً خاصاً لما تحمله من حمولات ثقافية موروثة ومكون ثقافي وماضٍ تاريخي وعقيدة دينية تلقي بظلالها المضمونية على الفرد والمجتمع في آن واحد، وبالقدر الذي تعمل فيه على تثبيت أنساقها الثقافية في وعي ولاوعي الفرد، فإن الفرد يعمل الى حد ما في تحديد سمات هذه الثقافة من خلال تكيفاته واختراعاته، فالشعائر الحسينية تعمل على دمج المجتمع في هوية واحدة تميزه عن الآخر، فضلاً عن أنها تعمل على إيصال البنية التاريخية لتكون مهمتها توثيقية، بمعنى أن السمات الثقافية للشعائر الحسينية غير منعزلة عن البنية العقائدية والإيمانية والخطاب التشريعي الإسلامي، وهي وسيلة لحفظ القوانين الاجتماعية وديمومة الخطاب وتوازن الجماعة وبقائها.
إن الانسان وهو يعيش إحياء الشعائر الحسينية وأربعينيته كأنموذج لها تجعله في تماس مباشر مع الفضيلة والخير والمثل والقيم السامية بل تجعله عنصراً فاعلاً ومتغيراً ذاتياً إلى الحالة الايجابية، وان الثورة الحسينية من خلال قيمها ومبادئها تؤسس لفضائل الدائمة وخير لا انقطاع فيه وتكامل اجتماعي تخلو الأرض من مثيل لها، واذا ما نظرنا الى مجمل العلاقات الرابطة بين الرسوم الشعبية الدينية بمنفذيها ومتلقيها، نجد هناك علاقات مختلفة منها عقائدية واجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، تلقي بظلالها وتجعل من الرسوم متنفساً يصرخ بداخله المبدع ليعبر عن رفضه أو قبوله لما يحيط به في العالم الخارجي.

إعادة صنع الحياة
وعندما يكون العالم الداخلي الخاص بنا مضطرباً وقد يكون ميتاً، عندما يكون مفتقراً الى الحب، عندما يتحول الاشخاص الذين أحببناهم الى شظايا ونثار بسبب الفساد وغياب العدالة الاجتماعية والتمثيل الديمقراطي لعموم الشعب، عندما نصبح نحن أنفسنا في حالة من اليأس والافتقار التام الى المعنى، حينئذٍ يكون علينا أن نبدع عالمنا مجدداً أيّ نعيد تجميع شظاياه وقطعه المتناثرة، ونبعث الحياة في البقايا الميتة منه ونعيد إبداع حياتنا من جديد ضمن ثورة إصلاحية سلمية تستمد جذورها وينابيعها الصافية من ثورة أبي الأحرار الامام الحسين(عليه السلام)في ملحمة ثورة أكتوبر2019 الإصلاحية الخالدة .
وإذا كانت الفنون ومنها فن التصميم الكرافيكي من نتاج العقل البشري الخلاق، الذي وهبه الله (سبحانه وتعالى) للإنسان ليكشف عن أسرار وجمال الطبيعة، فإن ميزة فن التصميم الكرافيكي قدرته على تحقيق الجمال في تداولية يومية مستمرة ومباشرة مع نشاط الإنسان وحاجاته المستمرة، كما أن الإحساس بالجمال لا يقف في حدود المنفعة وإنما تحولت دلالاته ورموزه الى لغة اتصال عالمية ترتبط هذه اللغة من النواحي الرمزية والتعبيرية بالبنية التصميمية القائمة على علاقات شكلية مبدعة ومعبرة عن الوجدان البشري، فالوظيفة الأساسية للفن هي نقل أو التعبير عن الحالات الانفعالية سواء كانت شخصية أو اجتماعية ، لعل فعل التعبير الفني يبدأ عندما تتظافر مجموعة من الظروف الداخلية والخارجية لكي تثير الفنان، فالتعبير لا يحدث بشكل آلي، بل على استثارة معقدة تمضي الى الأعماق، تهيج المعاني المختزنة والمواقف المدخرة، تخرج الى الوجود في إطار فني، إذ يشبه تولستوي انتقال المشاعر من إنسان الى آخر بواسطة التعبير بالعدوى، وهي وسيلة لتوحيد البشر بربط بعضهم ببعض بنفس المشاعر، وإذا كانت للمواد من حيث مرونتها وصلابتها وطواعيتها وإدراك الفنان لتلك المادة تأثير على الفنان فإن التعبير هو الذي ينظم هذه العملية، فيقوم الانفعال التعبيري بدوره الخلاق في الانتقاء والاختبار والتفضيل، فالتعبير يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالانفعال، والانفعال ذاتي خاص بشخص محدد في الزمان والمكان، وله وعي جمالي محدد، ينتمي الى طبقة أو فئة اجتماعية محددة، ونشأ في بيئة ما، كل هذه الأمور تؤثر في تلقيه للحدث، والمتلقي للعمل الفني يدرك تلك الحالات النفسية والفكرية والدلالات التعبيرية في باطن العمل، وهنا المتلقي يسقط على العمل الفني من المعاني والأفكار التي تروق له أو قريبة منه، وعندما تتباين الآراء حول المضمون التعبيري للعمل التصميمي الكرافيكي فإن ذلك ليس دليلاً على فشل العمل الفني أو خلل في التذوق، بل يعني ثراءً وغنى في المعنى، لقد غيرت واقعة الطف مجرى التاريخ فتغيرت وتحولت روح الماضي وفعلها التعبيري وكأنها روح مجتمعية تتجدد في النفس البشرية لتنبثق منها طهارة الذات وصلاحها في مارثون خالد يستذكره المسلمون في كل عام كروح جديدة معطرة بأصالة الماضي ومزخرفة بأسس ومبادئ نشوء الحضارات وتطور المجتمعات يستلهم منها أحرار العالم ومنهم أحرار ساحة التحرير خططهم ومناهجهم في تغيير أحوال شعبهم نحو مستقبل جديد مضيء ما أن تستلهمه النفس الأبية الحرة إلا وتنطلق برحلة إصلاحية تتحطم من خلالها قيود الاستبداد والتبعية والفساد ضمن ملحمة وطنية راهنة ترفع شعار (نريد وطن) تجمع بين حالتين الماضي الأصيل والروح الإصلاحية المتجددة، وكأننا أمام نظرية (البطل في التاريخ) تلك التي يبني عليها الغرب طروحاتهم في عملية التغيير والتجديد.
هي ثورة تختفي مع أحداثها أساطير الأنانية الفردية وجشع استغلال المناصب والمال العام ضمن لصوصية لا تحقق التكامل الأخلاقي أو الاجتماعي.

نشرت في الولاية العدد 136

د. أحمد عبيد كاظم

النهایة

المصدر
الكاتب:Shafaqna1
الموقع : ar.shafaqna.com
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2024-07-17 05:05:49
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى