“أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرِةٌ، حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ([1])، وَتَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ([2])، وَرَاقَتْ بِالْقَلِيلِ، وَتَحَلَّتْ بِالآمَالِ([3])، وَتَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ، لاَ تَدُومُ حَبْرَتُهَا([4])، وَلاَ تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا، غَرَّارَةٌ([5]) ضَرَّارَةٌ([6])، حَائِلَةٌ([7]) زَائِلَةٌنَافِدَةٌ([8]) بَائِدَةٌ([9])، أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ([10])، لاَ تَعْدُوـ إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا([11]) والرضى بِهَا ـ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى: (كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماَءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً([12]) تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء مُقْتَدِراً)([13]).لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَة([14]) إِلاَّ أَعْقَبَتْهُ([15]) بَعْدَهَا عَبْرَةً([16])، وَلَمْ يَلْقَ منْ سَرَّائِهَا بَطْناً([17]) إِلاَّ مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً([18])، وَلَمْ تَطُلَّهُ([19]) فِيهَا دِيمَةُ([20]) رَخَاء إِلاَّ هَتَنَتْ([21]) عَلَيهِ مُزْنَةُ([22]) بَلاَء. وَحَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً، وَإِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ([23]) وَاحْلَوْلَى([24])، أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى([25]) لاَ يَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا([26]) رَغَباً([27])، إِلاَّ أَرْهَقَتْهُ([28]) مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً! وَلاَ يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْن، إِلاَّ أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ([29]) خَوْف! غَرَّارَةٌ، غُرُورٌ مَا فِيهَا، فَانِيَةٌ، فَان مَنْ عَلَيْهَا، لاَ خَيْرَ في شَيْء مِنْ أَزْوَادِهَا([30]) إِلاَّ التَّقْوَى. مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ! وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ([31])، وَزَالَ عَمَّا قَلِيل عَنْهُ. كُمْ مِنْ وَاثِق بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ([32])، وَذِي طُمَأْنِينَة إِلَيْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ، وَذِي أُبَّهَة([33]) قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً، وَذِي نَخْوَة([34]) قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلاً! سُلْطَانُهَا دُوَّلٌ([35])، وَعَيْشُهَا رَنِقٌ([36])، وَعَذْبُهَا أُجَاجٌ([37])، وَحُلْوُهَا صَبِرٌ([38])، وَغِذَاؤُهَا سِمَامٌ([39])، وَأَسْبَابُهَا رِمَامٌ([40]) حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْت([41])، وَصَحِيحُهَا بَعَرَضِ سُقْم([42]) مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ([43])، وَعَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ([44])، وَمَوْفُورُهَا([45]) مَنْكُوبٌ([46])، وَجَارُهَا مَحْرُوبٌ([47]). أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وَأَبْقَى آثَاراً([48])، وَأَبْعَدَ آمَالاً([49])، وَأَعَدَّ عَدِيداً([50])، وَأَكْثَفَ جُنُوداً تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّد([51])، وَآثَرُوهَا أَيَّ إِيثَار([52])، ثُمَّ ظَعَنُوا([53]) عَنْهَا بَغَيْرِ زَاد مُبَلِّغ([54]) وَلاَ ظَهْر قَاطِع([55]). فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ([56]) لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَة([57])؟ أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَة؟ أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً؟ بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بَالْفَوَادِحِ([58])، وَأوْهَنَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ([59])، وَضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ([60])، وَعَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرَ([61])، وَوَطِئَتْهُمْ بَالْمَنَاسِمِ([62])، وَأَعَانَتْ عَلَيْهِمْ (رَيْبَ الْمَنُونِ) ([63])، فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَان لَهَا([64])، وَآثَرَهَا وَأَخْلَدَ إِلَيْهَا([65])، حِينَ ظَعَنُوا([66]) عَنْهَا لَفِرَاقِ الأبَدِ. هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلاَّ السَّغَبَ([67])؟ أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلاَّ الضَّنْكَ([68])؟ أوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلاَّ الظُّلْمَةَ؟ أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلاَّ النَّدَامَةَ؟ أَفَهذِهِ تُؤْثِرُونَ؟ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ؟ أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ؟ فَبِئْسَتِ الدَّارُ لَمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا([69])، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَل مِنْهَا! فَاعْلَمُوا ـ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ـ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَظَاعِنُونَ([70]) عَنْهَا، وَاتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ (قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً): حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلاَ يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً([71])، وَأُنْزِلُوا الأجْدَاثَ([72]) فَلاَ يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً([73])، وَجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ أَجْنَانٌ([74])، وَمِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ، وَمِنَ الرُّفَاتِ([75]) جِيرَانٌ، فَهُمْ جِيرَةٌ لاَ يُجِيبُونَ دَاعِياً([76])، وَلاَ يَمْنَعُونَ ضَيْماً([77])، وَلاَ يُبَالُونَ مَنْدَبَةً([78])، إِنْ جِيدُوا([79]) لَمْ يَفْرَحُوا، وَإِنْ قُحِطُوا([80]) لَمْ يَقْنَطُوا، جَمِيعٌ وَهُمْ آحَادٌ([81])، وَجِيرَةٌ وَهُمْ أَبْعَادٌ([82])، مُتَدَانُونَ لاَ يَتَزَاوَرُونَ([83])، وَقَرِيبُونَ لاَ يَتَقَارَبُونَ، حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ([84])، وَجُهَلاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ([85])، لاَ يُخْشَى فَجْعُهُمْ([86])، وَلاَ يُرْجَى دَفْعُهُمْ([87])، اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الأرْضِ بَطْناً([88])، وَبِالسَّعَةِ ضِيقاً، وَبِالأهْلِ غُرْبَةً، وَبِالنُّورِ ظُلْمَةً، فَجَاؤُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا، حُفَاةً عُرَاةً، قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ الْدَّائِمَةِ وَالدَّارِ الْبَاقِيَةِ، كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْق نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)”([89]).
[1] مزينّة بالشهوات.
[2] تحبّ العجلة في كلّ أحوالها.
[3] تزينت بالآمال، أي بالأوهام.
[4] حبورها، أي سرورها.
[5] تغرّ النّاس، فيطمئنوا إليها.
[6] مضرّة.
[7] متحوّلة.
[8] ليست كافية، فرزقها ينفد.
[9] زائلة.
[10] لا تشبع. متغولة.
[11] أي أنها في أفضل حالاتها تكون وهماً وسراباً زائلاً.
[12] حطاماً، كبقايا التبن بعد الحصاد.
[13] سورة الكهف، الآية 45.
[14] سرور.
[15] تلتها. لحقتها.
[16] حزن وبكاء.
[17] من أفراحها.
[18] أبدلته بالضّراء.
[19] تصله، وتمطره.
[20] غيمة رخاء.
[21] أمطرته.
[22] غيمة بلاء.
[23] أصبح جانب منها عذباً لذيذاً.
[24] أصبح حلواً.
[25] أصبح جانب آخر منها مراً كالوباء.
[26] رغد عيشها.
[27] رغبة.
[28] أتعبته.
[29] خاف مما هو آت.
[30] زادها.
[31] يهلكه.
[32] كم أفجعت الواثقين بها، والمستأمنين شرّها.
[33] عظمة.
[34] صاحب مروءة، وعطاء.
[35] متداول، على مبدأ لو دامت لغيرك ما وصلت إليك.
[36] مكدّر، غير صاف.
[37] شديد الملوحة.
[38] مرّ.
[39] مليء بالأمراض.
[40] حبالها بالية. أي من تمسّك بها سقط.
[41] الحيّ فيها ينتظر موته.
[42] والمعافى فيها ينتظر زوال صحّته.
[43] الأملاك فيها عرضة للسلب والنّهب، لذلك يبقى صاحبها في حالة خوف عليها، ويقضي الكثير من الوقت في حراستها.
[44] العزيز الذي ينتصر له الكثيرون، سيأتي عليه يوم ويغلب ويذلّ.
[45] وفرتها.
[46] تأنيها النكبات وتبددها.
[47] الجار عند العرب آمن، لا أحد يحاربه، لأنه بحمى جيرانه، غير أنّ من يجاور الدنيا لا تجيره، بل على العكس تتركه لمصيره.
[48] آثارهم وأوابدهم أبقى وأدوم من آثاركم.
[49] خططوا للمستقبل أكثر منكم.
[50] أكثر عدداً.
[51] عظّموا الدنيا بشكل لم يسبقهم إليه أحد.
[52] وفضّلوها على الآخرة.
[53] ارتحلوا.
[54] يسد الرّمق. أي يشبع.
[55] ظهر مطيّة يُرتحل عليه.
[56] تكرّمت عليهم، من السّخاء.
[57] افتدتهم بشيء ما.
[58] الفادح من المصائب.
[59] المصائب.
[60] أضعفتهم.
[61] عفر الأنف، أي مرّغ أنوفهم بالتراب وذلّتهم.
[62] داستهم بالأحذيّة.
[63] المنايا والرزايا.
[64] تنكّرت لأحبابها وعبيدها، وتخلّت عنهم.
[65] استكان لها.
[66] رحلوا.
[67] الجوع.
[68] التّعب.
[69] بئس الدار لمن لم يعتبرها عدواً له، ولم يأتمنها على نفسه.
[70] راحلون.
[71] صحيح أنّهم محمولون إلى قبورهم، ولكن لا يعتبرون ركباناً، فالراكب له وجهة يذهب ويعود إليها، أم المحمول إلى قبره فسيبقى إلى البعث.
[72] القبور.
[73] صحيح أنّهم نزلوا القبور ولكن لا أحد يدعوهم ضيوفاً، فالضيف يُكرم، ويحتفى به، وهؤلاء متروكون لحشرات الأرض تأكل أجسادهم.
[74] الصخور المسطّحة توضع فوقهم لتحجبهم عن الأحياء.
[75] جاورهم الأموات.
[76] جيران لا يجيبون داعياً يستغيثهم.
[77] ولا يمنعون ظلماً ألمّ بأحد الأجداث في المقبرة. كالنبش وسرقة الجثث.
[78] لا يهمهم ما تعارف النّاس عليه.
[79] جاءتهم مكرمات من الأحياء.
[80] إن تُركوا فتيبست قبورهم.
[81] رغم امتلاء المقابر بهم، لكنّ كلّ واحد منهم في قبره وحيداً.
[82] جيران لكن متباعدون.
[83] لا يمكنهم زيارة بعضهم رغم تلاصق قبورهم.
[84] أصبحوا حلماء، لأنهم لم يعودوا يحملون الضغينة لأحد.
[85] جهلاء لكن لم يعودوا قادرين على الحقد.
[86] لا أحد يخشى غضبهم.
[87] لا أحد يرتجي منهم دفاعاً عنه.
[88] استبدلوا مساكنهم الجميلة على سطح الأرض، بقبور موحشة في باطنها.
[89] شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد – ج ٧ – الصفحة ٢٢٦-228.
النهایة
المصدر
الكاتب:Shafaqna1
الموقع : ar.shafaqna.com
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2024-06-24 23:07:36
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي