مستقبل الاقتصاد الإبداعي في عصر الذكاء الاصطناعي
فرص وتحديات:
مستقبل الاقتصاد الإبداعي في عصر الذكاء الاصطناعي
11 يونيو، 2024
وعلى الرغم من عدم وجود تعريف مُوحد مقبول عالمياً، فإن منظمة “مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية” (الأونكتاد) تصف “الاقتصاد الإبداعي” –والذي يُشار إليه أيضاً بمصطلح “الاقتصاد البرتقالي”– باعتباره مجموعة من الأنشطة التي تُحوِّل الأفكار إلى مُنتجات وخدمات ثقافية وإبداعية ذات قيمة، تتم (أو تُمكن) حمايتها بموجب حقوق الملكية الفكرية. ويؤكد كل من “الأونكتاد” و”برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” أن عناصر الإنتاج الحاسمة لهذا الاقتصاد تتلخص في الأفكار الإبداعية ورأس المال الفكري، والتي يتم استخدامها عبر عملية يتفاعل بموجبها الإبداع مع الثقافة والاقتصاد والتكنولوجيا. فكيف يُعزز هذا الاقتصاد النمو والاستدامة، وما مستقبله في عصر الذكاء الاصطناعي؟
ماهية الاقتصاد الإبداعي وديناميكيته:
في مؤلفه “الاقتصاد الإبداعي: كيف يُحول المُبدعون الأفكار إلى أموال؟” –الصادر عام 2001– حدد هوكينز خمسة عشر قطاعاً تنتمي إلى الاقتصاد الإبداعي. تتمثَّل هذه القطاعات في: الإعلان، والهندسة المعمارية، والفنون البصرية، والحرف اليدوية، والتصميم، والأزياء، والأفلام، والموسيقى، والفنون الأدائية، والنشر، والبحث والتطوير، والبرمجيات، ولعب الأطفال والألعاب، والراديو والتلفاز، وألعاب الفيديو. ومنذ عام 2004، عكفت منظمة “الأونكتاد” على تعزيز الوعي العالمي المؤيد للاقتصاد الإبداعي؛ لتحسين جهود التنمية من خلال الإبداع. ومن جانبها، قامت المُنظمة بتصنيف الاقتصاد البرتقالي إلى أربع مجموعات تنطوي كل منها على عدد من الأنشطة الاقتصادية على النحو الموضح بالشكل رقم (1) وهي التراث، والفنون، والإعلان، والإبداعات الوظيفية؛ الأمر الذي يُسلط الضوء على أهمية التفاعل بين الإبداع والثقافة؛ على النحو التالي:
1. منطق الإبداع: يصف عالم الفيزياء الأشهر ألبرت آينشتاين الإبداع بأنه “رؤية ما يراه الآخرون، والتفكير بما لم يُفكر فيه أحد من قبل”، ولتحقيق ذلك، وصف ستيف جوبز، الرئيس التنفيذي الأسبق لشركة “آبل” ديناميكية العملية الإبداعية بأنها إيجاد روابط ما بين عدة أمور مختلفة بطريقة غير تقليدية. بعبارة أخرى، يرى المُبدع شيئاً ما يُلهمه ويقوده لصُنع توليفة أو مزيج مُبتكر من العناصر التي لا يتوقعها الآخرون.
2. نسج الروابط المؤيدة بالمعرفة: حتى يتسنى للمُبدع تأسيس هذه الروابط بين أمور عدة مُختلفة، فإنه يحتاج إلى امتلاك رصيد كبير من الخبرات والمعارف وأن يقوم بالتفكير فيها بشكل أعمق من الآخرين. إنه يقوم بتحري أمور عدة واستكشافها، حتى لو بدت عديمة الأهمية في بادئ الأمر. وهكذا، تتحول هذه الخبرات والمعارف إلى مجموعة كبيرة من نقاط المعرفة التي غالباً ما تستمد روافدها من تخصصات علمية وممارسات متعددة؛ ما يفتح المجال لمسارات غير مطروقة لم يتصورها أحد من قبل.
3. الثقافة وقود الإبداع: تُعد الثقافة رافداً لا ينضب للخبرات والمعارف الإنسانية؛ ومن ثم العملية الإبداعية. إنها بمثابة المُحفز الذي يُنمي الخيال ويُطلق العنان للأفكار. وهنا تجدر الإشارة إلى أهمية تبني مفهوم أكثر رحابة للثقافة؛ لأنها لا تقتصر فقط على الفنون والآداب، بل تتسع لتشمل أنماط الحياة المُعاشة، وأنظمة القيم والتقاليد والمعتقدات والسلوكيات والطموحات، كما تمتد لتشمل ثقافات الآخرين في المحيط الدولي؛ التي باتت ذات تأثير عميق في المجتمعات المحلية.
4. العلاقة التكافلية بين الثقافة والإبداع: يُمكن القول إن ثمة علاقة سببية إيجابية ثُنائية الاتجاه بين الثقافة والإبداع. فمن جهة، عندما يستكشف الأفراد مجموعة أوسع وأكثر تنوعاً من التدفقات والروافد الثقافية، فإن أفكارهم الإبداعية تنمو وتتكاثر؛ مما يؤدي إلى إثراء المجتمع ككل. ومن جهة أخرى، تسهم الأفكار الإبداعية في تعزيز المشهد الثقافي الوطني والدولي، خاصة في ظل عالم مُعوْلم؛ مما يزيد من المحتوى الثقافي المُتاح. وهكذا، تضمن هذه العلاقة تلازم النمو الديناميكي والتطور الأصيل لكل من الثقافة والإبداع.
الدور التنموي للاقتصاد الإبداعي:
لما كان الاقتصاد الإبداعي نِتاجاً للتفاعل بين الإبداع والثقافة والاقتصاد والتكنولوجيا، فإن المُكون الاقتصادي يؤدي دوراً رئيساً في ازدهاره، بوصفه المسؤول عن تحويل الأفكار الإبداعية إلى مُنتجات وخدمات ذات قيمة وقابلة للتداول عبر أنشطة ريادية، ويُعرف الاتحاد الأوروبي ريادة الأعمال بأنها أسلوب تفكير وعملية إنتاجية تجمع بين تحمل المُخاطرة والإبداع مع الإدارة الحصيفة، وهو ما يتماشى مع تفسير الاقتصادي جوزيف شومبيتر، حين أوضح خمسة أنماط لريادة الأعمال، وهي: تقديم منتج جديد إلى السوق، وتنفيذ أسلوب جديد لعملية إنتاجية، وفتح سوق جديدة، واستخدام مصدر جديد لإمدادات المواد الخام، وإنشاء منظمة/ منشأة جديدة في صناعة ما. وفي هذا السياق، يُمكن الإشارة إلى ما يلي:
1. قاعدة الارتكاز: يستند الاقتصاد الإبداعي إلى نظرية “الفرصة وريادة الأعمال” التي طرحها أستاذ الإدارة والاقتصادي بيتر دراكر؛ إذ يخوض رائد الأعمال المخاطر لإحداث تغيير ما، أو استغلال فرصة ناشئة عن تغيير ما، ويتوافق ذلك مع نظرية “ريادة الأعمال والابتكار” للاقتصادي شومبيتر، والتي تخلص إلى أن الوظيفة الفعلية لرائد الأعمال تتمثل في العمل كمُنسق للإنتاج وعامل للتغيير.
2. المساهمة الاقتصادية والأثر الاجتماعي: يؤدي الاقتصاد الإبداعي دوراً مهماً في تعزيز الاقتصادات وازدهارها، فضلاً عن معالجة عدم المساواة والتفاوتات في الدخول في كل من الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء؛ إذ:
وفقاً لتقديرات الأمم المُتحدة، يُسهم هذا الاقتصاد بما يتراوح بين 2 إلى 7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتتوقع مجموعة العشرين أن ترتفع النسبة إلى 10% بحلول عام 2030.
يُوفر الاقتصاد الإبداعي ما يقرب من 50 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم، نصفها تقريباً للنساء، كما أن غالبية العاملين به ينتمون للفئة العمرية (15 إلى 29 عاماً).
يتميَّز الاقتصاد الإبداعي بارتفاع العائد على الاستثمار في صناعاته؛ إذ إن كل دولار أمريكي يتم استثماره فيه يُولد 2.5 دولار أمريكي في المتوسط.
أسهمت التكنولوجيات الحديثة في “التحول اللامادي” لبعض المنتجات الإبداعية لتصبح في هيئة خدمات إبداعية؛ مما أدى إلى زيادة قيمة الصادرات العالمية من الخدمات الإبداعية من 487 مليار دولار أمريكي عام 2010 إلى ما يقرب من 1.1 تريليون دولار أمريكي عام 2020، وفي الفترة نفسها، ارتفعت فيمة الصادرات العالمية من المنتجات الإبداعية من 419 مليار دولار إلى 524 مليار دولار أمريكي، وذلك وفقاً لإحصاءات منظمة “الأونكتاد”، واللافت للانتباه أن منتجات التصميم (Design products) تُهيمن على صادرات المُنتجات الإبداعية؛ إذ تُمثِّل 62.9% من الإجمالي العالمي في عام 2020، تليها منتجات الوسائط المتعددة بنسبة 13.4% من الإجمالي.
3. الإبداع يتخطى حدود اقتصاده: يُمكن القول إن الاقتصاد الإبداعي يتخطى حدود الصناعات الإبداعية التي حددتها منظمة “الأونكتاد”؛ لأنه يؤثر بشكل مباشر و/أو غير مُباشر في جميع الأنشطة الاقتصادية. ولتحقيق أقصى استفادة منه، أطلقت بعض البلدان استراتيجيات وطنية لتنمية الاقتصاد الإبداعي. على سبيل المثال، تتبنى دولة الإمارات العربية المُتحدة “الاستراتيجية الوطنية للصناعات الثقافية والإبداعية”؛ بهدف زيادة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي إلى 5% بحلول عام 2031.
4. اعتراف عالمي بدورها التنموي: مع تنامي تأثيره التنموي، أطلقت الأمم المُتحدة السنة الدولية للاقتصاد الإبداعي عام 2021، لتأكيد ضرورة إيجاد حلول إبداعية للتغلب على التحديات المتزايدة التي يُواجهها العالم. كذلك، يُسلط قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 74/ 198 الضوء على الدور الرئيس للاقتصاد الإبداعي في تحقيق أهداف التنمية المُستدامة، ولاسيما الأهداف 1 (القضاء على الفقر)، و5 (المساواة بين الجنسين)، و8 (العمل اللائق والنمو الاقتصادي)، و9 (الصناعة والابتكار والبنى التحتية)، و10 (الحد من أوجه عدم المُساواة)، و11 (المدن المُستدامة)، و12 (ضمان وجود أنماط استهلاك وإنتاج مُستدامة)، و16 (السلام والعدل والمؤسسات القوية)، و17 (عقد الشراكات لتحقيق الأهداف).
الاقتصاد الإبداعي في عصر الذكاء الاصطناعي:
تُعد التكنولوجيا العنصر الرابع في مزيج الاقتصاد الإبداعي –إلى جانب الإبداع والثقافة والاقتصاد– إذ تعمل كمحفز للابتكار وتنمية المهارات وصقل المواهب. لقد كان يُنظر غالباً إلى الإبداع بوصفه سمة إنسانية فريدة وهبة استثنائية حصرية للبشر، وهكذا، كانت الثورات التكنولوجية السابقة بمثابة أداة سمحت للبشر بإطلاق العنان لمزيد من الإبداعات، ودفع النمو الاقتصادي والتنمية والابتكار إلى مستويات غير مسبوقة. ولا شك في أن الذكاء الاصطناعي يؤدي الآن دوراً رئيساً في تحويل الاقتصاد الإبداعي من خلال مهام عدة مثل: أتمتة المهام المتكررة وتوفير رؤى وتحليل يعتمد على البيانات وتوليد محتوى إبداعي. ورغم أن هذه التكنولوجيات قد أتاحت فرصُاً هائلة؛ فإنها في الوقت نفسه فرضت تحديات عدة في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ إذ:
1. النمو السوقي: وفقاً لتقديرات شركة (Allied Market Research) المنشورة في فبراير 2024، بلغت قيمة السوق العالمية للذكاء الاصطناعي التوليدي المُستخدم في الصناعات الإبداعية 1.7 مليار دولار أمريكي في عام 2022، ومن المتوقع أن تصل إلى 21.6 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2032، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 29.6% خلال الفترة من 2023 إلى 2032.
2. سيناريوهات المستقبل: يُواجه العالم ثلاثة سيناريوهات مستقبلية مُحتملة على الأقل لتأثير الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد الإبداعي، وفقاً لما أوضحه ديفيد دي كريمير وآخرون، في مقالهم الصادر في إبريل 2023 بمجلة “هارفرد بيزنس ريفيو”؛ إذ:
السيناريو الأول: يدعم الذكاء الاصطناعي البشر في أنشطتهم الإبداعية مما يتيح تدفقاً هائلاً وغير مسبوق مع الإبداع والابتكار في وقت أقل، مع موثوقية أعلى وتكلفة أقل؛ ومن ثم زيادة معدلات الإنتاجية.
السيناريو الثاني: يُزاحم الذكاء الاصطناعي الإبداع البشري الأصيل؛ نتيجة المنافسة غير العادلة والحوكمة غير الكافية له؛ مما يؤدي إلى تواري المُبدعين الموهوبين وخروجهم من السوق وسط “تسونامي” من المُحتوى المُنشأ خوارزمياً. ورغم تقليص دور الإنسان في هذا السيناريو؛ فإنه سيُقدم توصيات فيما يتعلق بالمُحتوى الذي يُنشئه الذكاء الاصطناعي.
السيناريو الثالث: يعود التقدير المُتجدد للإبداعات “من صنع الإنسان”، ما يُعد تطوراً طبيعياً للصراع الإبداعي بين الإنسان والآلة؛ إذ تدفع هيمنة الاقتصاد الإبداعي الاصطناعي البشر إلى تقدير الإبداع الأصيل مرة أخرى. وهكذا يحافظ البشر على قدرتهم التنافسية الإبداعية ضد الآلة.
3. تحديات التزييف العميق والمعلومات المُضللة: يفرض الذكاء الاصطناعي تحدياً آخر على الاقتصاد الإبداعي، يتمثل في استخدام تقنية “التزييف العميق” (Deepfake) لإنشاء مُحتوى إبداعي مُزيف، بالإضافة إلى ذلك، فإن إنشاء واستخدام محتوى يعتمد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي دون التحقق من دقته يمكن أن يؤدي إلى تسارع معدلات انتشار “المعلومات الخاطئة” (Misinformation) و”المعلومات المُضللة” (Disinformation)، والتي يُمكن أن تحجب الحقائق الموضوعية أو تُشوهها.
4. مخاوف الأمن السيبراني: شأنه في ذلك الاقتصادات الأخرى، يواجه الاقتصاد الإبداعي تحديات كبيرة في مجال الأمن السيبراني؛ إذ يعتمد جانب كبير من عملياته على أجهزة الحوسبة والشبكات والحوسبة السحابية والأجهزة المتصلة بشبكة الإنترنت والتطبيقات الرقمية، ومع النمو السريع لمشهد التهديدات السيبرانية، فمن المتوقع أن تصل تكلفة الجرائم السيبرانية عالمياً إلى ما يقرب من 10.5 تريليون دولار أمريكي سنوياً بحلول عام 2025.
في الختام، ولما كانت التنمية، كما عبر عنها الأستاذ أمارتيا سن، الاقتصادي الهندي الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد –تدور حول “توسيع نطاق الخيارات المتاحة لأفراد”-. يُمكن القول إن هذا المنظور يتوافق تماماً مع جوهر الاقتصاد الإبداعي، الذي يزدهر بتضافر الإبداع والثقافة والتكنولوجيا عبر نسق اقتصادي مؤيد. فكل من التنمية والاقتصاد الإبداعي يصبو إلى تعزيز إمكانات البشرية ورفعة المجتمعات؛ ما يجعلهما وجهان لعملة واحدة.
وحتى يتسنى إطلاق إمكانات الاقتصاد الإبداعي بشكل كامل ومستدام، تبدو أهمية تعميقه وتطوير نظامه البيئي بشكل مستمر؛ ليصبح أكثر ذكاءً واستدامة، وأكثر شمولاً، ويتطلب ذلك أيضاً تسخير القوى الإيجابية التي تدفع الإبداع والابتكار، مع إدارة المخاطر وتخفيفها بشكل فعَّال. وهكذا، يُمكن للاقتصاد البرتقالي أن يؤدي دوراً محورياً في تشكيل مستقبل زاخر أكثر ديناميكية ومرونة.