ٍَالرئيسية

غزة وأوكرانيا ومكانة الأوروبيين لدى الرأي العام العربي

شفقنا-ربما تعرضت القوة الناعمة التي يتمتع بها الأوروبيون في العالم العربي لضرر لا يمكن إصلاحه. ففي الأشهر الخمسة الماضية، كان الأوروبيون متهمين باستمرار بتطبيق معايير مزدوجة في ردودهم على الهجمات الإسرائيلية في غزة (مقارنة بالهجوم الروسي على أوكرانيا). مما لا شك فيه أنه مر وقت طويل منذ أن كانت العلاقات بين الأوروبيين وحكومات الشرق الأوسط واقعية وموجهة نحو عقد الصفقات. فضلا عن ذلك فقد عملت العلاقات مع المجتمع المدني في مختلف أنحاء المنطقة على توفير قناة لتوجه أوروبي مبدئي، والذي كان مصدرا مهما للقوة الناعمة الأوروبية. وفي يوم الناس هذا انهار هذا الوضع إلى الأبد.

وسرعان ما أثيرت الاتهامات بتطبيق المعايير المزدوجة من جانب الدول العربية، والقوى الناشئة، والمنافسين الجغرافيين، ومسؤولي الأمم المتحدة، بل وحتى المسؤولين الغربيين أنفسهم. وعندما غزت روسيا أوكرانيا في عام 2022، فرض الأوروبيون عقوبات “واسعة النطاق وغير مسبوقة” على التجارة والاستثمار وحتى المقاطعة الرياضية ضد موسكو. وأثناء جهود الضغط العالمية الكبرى، صور الزعماء الأوروبيون دعمهم لأوكرانيا باعتباره دفاعا عن القواعد والأعراف العالمية.

وفي المقابل، كان رد فعل العديد من الزعماء الأوروبيين سلبيا على النداءات المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، فابتعدوا عموما عن إدانة انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي، وقدموا بدلا من ذلك وبدعم واسع النطاق لإسرائيل، حتى في مواجهة خطابات الإبادة الجماعية للوزراء الإسرائيليين، اتخذوا الصمت.

إن فشل أوروبا في احترام القانون الدولي في غزة يقوض بشدة مزاعمها باحترام هذه القوانين في أوكرانيا وأماكن أخرى. ويشكل هذا فقدان المكانة، ضربة لواحدة من الأصول الرئيسية في أوروبا، ألا وهي قوتها الناعمة. وكما وجدت دراسة مشتركة أجراها المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية وجامعة أكسفورد عام 2023، فإن أوروبا لديها “احتياطي ضخم” من القوة الناعمة، التي لم تولد من ازدهارها الاقتصادي النسبي فحسب، بل من القيم الاجتماعية المرتبطة به. لكن الحرب في غزة دمرت هذا الاحتياطي لأن الأوروبيين متهمون بالتواطؤ المحتمل في الإبادة الجماعية.

المعايير المزدوجة 

إن المعايير المزدوجة ليست اتهاما جديدا: فقد قال دبلوماسي بريطاني بارز في عام 2021: “لقد سئمنا باستمرار التناقضات التي لا نهاية لها بين مواقفنا (بشأن حقوق الإنسان) ويبدو أن المسؤولين الأوروبيين يعتقدون أنهم قادرون على إصلاح الضرر على المدى القصير”. وهم يعتقدون أن العلاقات بين أوروبا والعالم العربي سوف تعود إلى طبيعتها بمجرد أن يهدأ العنف في غزة، ولكن هذا مجرد سوء تقدير: فقد تراجعت المواقف العامة بشأن الغرب في مختلف أنحاء منطقة الشرق الأوسط. أظهر استطلاع أجراه معهد البارومتر العربي في تونس أن شعبية الولايات المتحدة انخفضت بشكل حاد خلال شهر أكتوبر 2023. هذه الظاهرة تحدث في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

بعض هذا الضرر قد يكون لا رجعة فيه. وخلافا لحالات فقدان المكانة السابقة، تبدو القوى الغربية الكبرى الآن متحدة إلى حد كبير. ورغم أن المواقف العامة تجاه الولايات المتحدة وبريطانيا تضررت بشدة بسبب “الحرب ضد الإرهاب” وغزو العراق عام 2003، إلا أن فرنسا وألمانيا حافظتا دائما على معدلات إيجابية أعلى كثيرا لأنهما عارضتا هذه التدخلات. لكن هذا الوضع لا ينطبق على حرب غزة. وقد توصلت دراسة أجراها معهد الدوحة مؤخرا في 17 دولة عربية إلى أن 8% إلى 10% فقط من المشاركين لديهم وجهة نظر إيجابية بشأن استجابة بريطانيا وفرنسا وألمانيا لأزمة غزة ـ أي أكثر إيجابية قليلا فقط من نسبة 3% في الولايات المتحدة.

كان النفور الاجتماعي من استجابة الغرب للحرب في غزة سببا في تغيير البيئة والظروف المحيطة بعلاقات أوروبا مع المجتمع المدني في العالم العربي بشكل جذري. إن الاتحاد الأوروبي يُعَد الجهة المانحة الأكبر على مستوى العالم لمنظمات المجتمع المدني ـ ومن وجهة نظر الأوروبيين فإن العمل الذي يقوم به شركاؤهم الإقليميون في مجال حقوق الإنسان وسيادة القانون والديمقراطية يشكل أساسا فعالا للأهداف الاستراتيجية لأوروبا.

وفي العالم العربي، تعد استراتيجية الاتحاد الأوروبي تحت عنوان “الأجندة الجديدة لمنطقة البحر الأبيض المتوسط” لعام 2021 بدعم “مشاركة المجتمع المدني في عملية الإصلاح”. وينظر الأوروبيون إلى شركاء المجتمع المدني باعتبارهم وسطاء رئيسيين لجسور التواصل، مما يوفر لهم إمكانية الوصول إلى المجتمعات ووجهات نظرهم.

العديد من الصعوبات

وبالنسبة للمجتمع المدني في العالم العربي، والذي يتعرض لضغوط مستمرة من حكوماته، فإن المعايير المزدوجة التي تطبقها أوروبا في التعامل مع غزة كانت سببً في خلق العديد من الصعوبات. وبينما تتهم الحكومات القمعية دائما نشطاء حقوق الإنسان بتنفيذ أجندات غربية، فإن هذه التهمة تحمل الآن مخاطر جديدة. على سبيل المثال، في تونس، قامت الحكومة، باستخدام الغضب العام (فيما يتعلق بمواقف الغرب) للسيطرة على أنشطة المنظمات غير الحكومية الناقدة، بتقديم مشروع قانون من شأنه أن يضع تحت المجهر حرياتهم وارتباطهم بالدول “الغربية المنافقة”. 

وقطعت بعض المنظمات غير الحكومية علاقاتها مع رعاتها الغربيين. وأعلنت منظمة مكافحة الفساد التي تحظى باحترام كبير في تونس، آي ووتش، في أكتوبر أنها لن تقبل المساعدات الأمريكية بعد الآن. توقفت العديد من المنظمات غير الحكومية عن قبول المساعدات الأمريكية بعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 ولم تقبلها مرة أخرى إلا عندما وصل باراك أوباما إلى السلطة ووعد بإنشاء أساس جديد لعلاقات الولايات المتحدة مع العالم العربي. يمكن أن تكون غزة علامة على فترة انفصال أعمق وأطول، على الرغم من أن قطع المساعدات الأوروبية على المدى القصير سيكون بالغ الأهمية بالنسبة للمجتمع المدني العربي.

وفي حين أن بعض المنظمات غير الحكومية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد تقطع علاقاتها مع الدول الغربية تماما، فقد تسعى منظمات أخرى إلى تنويع مصادر تمويلها لتقليل الاعتماد على الغرب. يقول مواطن مصري أوروبي يشغل منصبا مهما في إحدى منظمات المجتمع المدني الدولية: “في الماضي، أقنعنا أنفسنا بأن أموال الغرب مقبولة، لكن أموال الصين والخليج كانت كريهة، لأن أموالهم كانت “موجه نحو الفائدة”، لكن أموال الغربيين “موجهة نحو القيمة”.

إن استعادة صورة أوروبا لدى الرأي العام والمجتمع المدني في العالم العربي يتطلب محاسبة إسرائيل على انتهاكها للقوانين الدولية. ويتعين على الحكومات الأوروبية أن تعلن دعمها الثابت لآليات مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. ويبدو هذا بعيد المنال في الوقت الحالي، وخاصة في ضوء الانقسامات العميقة داخل الحكومات الأوروبية وفيما بينها. وفي الوقت نفسه، يجب على الرعاة الأوروبيين مراجعة تدابيرهم المشروطة بشكل عاجل ووقف أي إجراءات تقيد بشكل غير لائق حرية التعبير للشركاء الفلسطينيين وتشويه سمعتهم.

والأمر الأكثر أهمية هو أن ينتبه الأوروبيون إلى مدى وعمق سقوط صورتهم، وهي الصورة التي أصبحت سلبية إلى حد أن جماعات حقوق الإنسان قد تلجأ إلى أماكن أخرى لتمويلها. وسيكون لهذا الوضع تأثير ملموس على نفوذ أوروبا في الشرق الأوسط في ظل تآكل أسس قوتها الناعمة.

المصدر: موقع ديبلماسي ايراني

————————

المقالات والتقارير المنقولة تعبر عن وجهة نظر مصادرها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع

————————–

النهاية

 

المصدر
الكاتب:Shafaqna1
الموقع : ar.shafaqna.com
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2024-06-12 01:02:28
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى