هل يمكن هزيمة “حماس”؟
رغم أنه ستكون هناك استمرارية لأيديولوجية التنظيم، إلا أنه يمكن بشكل فعال تقييد الأدوات المستخدمة لتعزيز هذه الأيديولوجية من خلال التدابير التي من شأنها أن تحوّل التهديد الكبير إلى مصدر مضايقة هامشي.ف
غيث العمري هو زميل أقدم في برنامج الزمالة “مؤسسة روزاليند وآرثر جيلبيرت” ضمن “برنامج «عائلة إروين ليفي» حول العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل” في معهد واشنطن. وشغل العمري سابقاً كالمدير التنفيذي لـ “فرقة العمل الأمريكية المعنية بفلسطين”. وشغل قبل ذلك مناصب عدّة داخل السلطة الفلسطينية بما فيها وظيفة مستشار لفريق المفاوضات خلال محادثات الوضع الدائم التي أجريت بين عامَي 1999 و2001.ف
منذ هجوم “حماس” على إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر والحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل رداً على ذلك، أصبح من المسلَّم به أنه لا يمكن استئصال “حماس”، بما أن الأيديولوجيات لا يمكن هزيمتها عسكرياً. وكنتيجة طبيعية لذلك، كثيراً ما يقال إن القوة العسكرية تهدد بالعكس تماماً، أي: قيام جيل جديد من الفلسطينيين المتطرفين، وخاصة في غزة، مما يؤدي إلى تزايد عدد المجندين الجدد في صفوف “حماس”.
وكلتا الحجتين خاطئتان.
في حين أن العمل العسكري قد لا يقضي على أي أيديولوجية بشكل كامل، إلّا أن بإمكانه بالتأكيد أن يحرمها من الأدوات اللازمة لتكون فعالة ويجعلها غير ذات أهمية. أما الحجة المتعلقة بالتطرف فتقلل من جهتها من حرية التصرف البشرية، تماماً كما تقلل من الكثير من الحالات التاريخية المشابهة التي أدت فيها الحرب إلى مستقبل أفضل وأكثر استقراراً.
يقال إن “الفكرة أقوى من الرصاص”. وهذه الشعارات جذابة وصحيحة على المستوى السطحي. ولكنها مضللة أيضاً. فالأيديولوجيات نادراً ما تزول. وفي هذا الصدد، فإن “حماس” ليست فريدة من نوعها.
هناك حالات قليلة، إن وُجدت، يتم فيها القضاء بالكامل على أيديولوجية معينة بالطرق العسكرية. فقد واجه كل من النازيين، وتنظيمي “القاعدة”، و “الدولة الإسلامية” (“داعش”) هزيمة عسكرية ساحقة وفقدوا مصداقيتهم الأخلاقية تماماً، ولكن لم يتم القضاء على أي منهم. فسيبقى هناك دائماً أشخاص يؤمنون بمثل هذه الأيديولوجيات البغيضة، ودائماً ما ستبقى هناك ظروف قد تؤدي إلى ظهورها من جديد .
وحتى في الحالات الأقل تطرفاً، مثل جماعة “الإخوان المسلمين”، لم تنجح المحاولات المتتالية لهزيمتها أو استمالتها في القضاء عليها أو منع ظهورها مجدداً بشكل دوري. فمن يعترضون على الحرب على أساس أنها غير قادرة على القضاء على “حماس” بشكل دائم، يستندون بتقييمهم إلى معيار غير قابل للتحقيق.
من التهديد إلى المضايقات
من الممكن هزيمة هذه الأيديولوجيات والمنظمات (ومن بينها “حماس”) بما يكفي لتحويلها من تهديدات كبرى إلى مضايقات هامشية، ولو كانت خطيرة، ومن الممكن أن تتجسد بأساليب تسبب خسائر بشرية مأساوية. إن ما يجعل “حماس” والمنظمات المسلحة المماثلة فعالة ليس إيديولوجياتها، بل قدرتها على التصرف بناءً على ذلك. وبالنسبة لـ “حماس”، كانت قدرتها المستدامة على استخدام العنف أمراً أساسياً ساعدها على بناء قوتها السياسية.
في تسعينيات القرن الماضي، كانت شعبية “حماس” عند أدنى مستوياتها، إذ آمن أغلب الفلسطينيين أن التحرير قابل للتحقيق بالسبل السلمية والدبلوماسية. وقد أدى استخدام الحركة للعنف إلى تحريف هذا المفهوم، إلا أنه أسفر في المقابل عن ترسيخ “حماس” كبديل سياسي.
ومنذ ذلك الحين، أصبح استخدام القوة والعنف جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية “حماس”. فاستخدام الحوافز السياسية أو الاقتصادية فشل مراراً وتكراراً في تحويل الحركة أو دفعها إلى الاعتدال أو تهميشها لسبب بسيط هو أن قدرتها على استخدام العنف أثبتت أنها وسيلة فعالة لتحقيق أهدافها، سواء فيما يتعلق بإفشال عملية السلام أو السيطرة بالعنف على غزة في عام 2007.
وبالفعل، وفقاً لأحد الدروس المستخلصة من أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، طالما تحتفظ “حماس” بقدراتها العسكرية والعنفية، فستظل قادرة على تحديد معالم الواقع السياسي. ولكي تتم هزيمتها، يجب حرمانها من هذه القدرات ولا يمكن إنجاز ذلك إلا باستخدام القوة.
تكلفة سياسية باهظة
لا شك أن هناك تكلفة سياسية باهظة للحرب، وخاصة تلك التي لا تقل دموية عن حرب إسرائيل في غزة. فاستخدامها المفرط للقوة وتقييدها لوصول المساعدات الإنسانية سيترك بصمة لا تمحى. ولسنوات قادمة، وبغض النظر عن المبررات، ستوجَه أصابع اللوم إلى إسرائيل من قبل الفلسطينيين الذين عاشوا مرارتها، والفلسطينيين الذين عانى مواطنوهم من جرائها، والعرب الذين وقفوا عاجزين وهم يشاهدون الدمار الذي يلحق بأقاربهم. فحتى الحجج الإسرائيلية المنطقية المتعلقة بطبيعة حرب المدن المعقدة ضد عدو مثل “حماس” الذي لا يحمي شعبه، لن تبرر بنظر العرب وبنظر الفلسطينيين، في غزة أو في أي مكان آخر، الهدف الإسرائيلي المتمثل في ضمان عدم قيام “حماس” مجدداً بتكرار ما حدث من الفظائع التي ارتكبتها في 7 تشرين الأول/أكتوبر.
يجب تبديد أي أوهام بأنه بإمكان المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي أن يثقا الآن ببعضهما البعض أو أن يتوصلا حتى إلى درجة من التعايش المشترك في أي وقت قريب. فإذا تحققت هذه النتيجة يوماً ما، ستكون في أفضل الأحوال مسعىً يمتد عبر الأجيال. وهذا لا يعني أنه لا يمكن التوصل إلى حل الدولتين في نهاية المطاف، ولكن الحل سيكون متجذراً في الانفصال، وليس التعاون.
ومع ذلك، فمن الصحيح أيضاً أنه بغض النظر عن مشاعر الفلسطينيين والعرب تجاه إسرائيل، فلن يرغب أحداً منهم في تكرار هذه المأساة. فقد أشعلت “حماس” شرارة الحرب وما زالت تصر على أنها سوف تفعل ذلك مجدداً إذا أتيحت لها الفرصة، وبالتالي ستجد صعوبة بالغة في حشد تأييد الفلسطينيين في غزة الذين عانوا الأمرّين من جراء قرارها، حيث أن عمق الصدمة التي تعرضوا لها سيطبع حياة جيل كامل.
وكثيراً ما يُقال إن العمل العسكري لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج دائمة أو مستدامة، وهذه حقيقة بديهية منذ الحرب العالمية الثانية. فمع مرور الوقت، ستصبح صدمة حرب غزة ذكرى غامضة، والعبر التي استخلصها كل من عايشها ستصبح طي النسيان لدى من سيقرأون عنها في كتب التاريخ فقط.
شراء الوقت لإعادة البناء
لا تقتصر عدم الاستمرارية على فترة ما بعد العمل العسكري. فقليلة هي الأمور الدائمة (إن وُجدت). وإذا تم الحكم على السياسات وفقاً لديمومتها، فمن غير المرجح أن يصمد أي منها أمام اختبار الزمن.
إن ما يمكن أن توفره الهزيمة العسكرية لـ “حماس” هو الوقت، ويجب عدم الاستخفاف بهذا الأمر. فالوقت ثمين، وبدونه لا يمكن تنفيذ أي سياسات سياسية أو اقتصادية أو مدنية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ليس ما إذا كانت الوسائل العسكرية ضرورية لهزيمة “حماس”، بل ما الذي يجب فعله في الوقت الذي تتيحه هذه الوسائل.
وهنا يقدم التاريخ نموذجين. يشمل الأول، الذي كثيراً ما يُسمع عنه هذه الأيام، أمثلة مثل العراق أو حتى الفصول المختلفة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويخلص إلى أن الحرب لا تؤدي سوى إلى التطرف.
ومع ذلك، هناك نموذج آخر تتجاوز فيه الدول الحرب وتعيد بناء مستقبل ناجح ومستقر. ومن الأمثلة على ذلك ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام ورواندا. فعلى الرغم من عدم وجود تشبيه مثالي وعدم خلو أي من هذه الأمثلة من العيوب، إلا أن هناك قواسم مشتركة أساسية تجمع بين هذه النماذج.
ففي العراق، أنتجت نهاية الحرب سياسات خاطئة ولّدت المزيد من البؤس والخلل الوظيفي. وفي ظل حالة عدم الاستقرار، والفساد، والفراغ في الحكم الذي أعقب الغزو الأمريكي، من غير المستغرب أن نشهد ترسخ التطرف وتوق بعض العراقيين اليوم، لا سيما الشباب الذين لم يعرفوا الحياة في ظل حكم صدام حسين، إلى ماضٍ من نسخ الخيال.
وفي النموذج الآخر يتم إنشاء بديل مفعم بالأمل، حيث يحل الأمل محل الغضب. ومع تركيز الطاقات الوطنية على بناء المستقبل، تصبح مظالم الماضي ثانوية. وبطبيعة الحال، لا تزول الأيديولوجيات والمظالم القديمة، إلا أنها لا تحدد المستقبل أيضاً.
وفي الحالة الفلسطينية، سيكون هناك دائماً مَن يدعم “حماس” أو ما يشبهها من الناحية الأيديولوجية. فالإسلاميون هم سمة من سمات السياسة العربية. ويكفي طرح السؤال على جميع الدول العربية التي أمضت القرن الماضي وهي تحاول استئصال جماعة “الإخوان المسلمين”.
ومع ذلك، فإن المتطرفين العنيفين موجودون في كل مجتمع، الأمر الذي يتطلب عملاً مستمراً في المجالات الأمنية والاستخباراتية، والعسكرية (في الحالات القصوى).
سؤال المليون دولار
هل يمكن القضاء على “حماس” بالكامل؟ الجواب هو لا مدوّية. لكن الهدف القابل للتحقيق هو تحويلها إلى ظاهرة هامشية غير قادرة إلا على ممارسة أعمال عنف متفرقة، وليس تغيير المشهد السياسي والأمني.
لكن ليس من السهل بلوغ هذا الهدف حتى لو كان قابلاً للتحقيق. فهو يتطلب إنشاء بديل مقنع وذو مصداقية يضم ثلاثة عناصر مترابطة.
أولاً: يجب أن يكون هناك تحرك أمني مستمر، حتى بعد الحرب، لضمان عدم قدرة “حماس” على إعادة تشكيل نفسها. فمن الضروري أن لا تعيد الحركة قوتها ما قبل الحرب، بل فقط إعادة بناء قدرة كافية لإفشال جهود ما بعد الحرب.
ثانياً: من الضروري أن تستتبع الحرب جهود إنعاش وإعادة إعمار فورية وكبيرة. فالحزن والغضب لن يزولا، ولكن التغيير الحقيقي والملموس للواقع يشير إلى أن سكان غزة قادرين على البدء في لملمة شتات حياتهم.
ثالثاً: يجب إعادة تنشيط “السلطة الفلسطينية”. وطالما أن غالبية الفلسطينيين يعتبرونها غير شرعية، فباستطاعة “حماس” طرح نفسها كبديل عملي. ويعني تنشيط “السلطة الفلسطينية” معالجة الفساد وسوء الإدارة. وفي حين ينظر الفلسطينيون إلى قادتهم باعتبارهم لصوصاً عاجزين، فإنهم لن يكتسبوا المصداقية اللازمة للتصدي لـ”حماس”.
ولكن من المهم بنفس القدر إعادة تأهيل الفرضية الأساسية “للسلطة الفلسطينية”، وهي أن الدبلوماسية قادرة على تحقيق نتائج لصالح الفلسطينيين. فالفوز بدولة فلسطينية ليس أمراً واقعياً في الوقت الحالي، وبالتالي تحتاج “السلطة الفلسطينية” إلى إثبات قدرتها على توجيه شعبها نحو الاستقلال.
إن تنفيذ مجموعة التدابير السياسية والدبلوماسية والإدارية والاقتصادية اللازمة لإلحاق الهزيمة بـ”حماس” يشكل مهمة معقدة تتطلب اتخاذ قرارات وإجراءات كبيرة من جانب “السلطة الفلسطينية”، وإسرائيل، والدول العربية، والمجتمع الدولي.
وهذه مهمة شاقة ومحفوفة بالمخاطر، ويمكن أن تفشل. ولكن إذا لم يتم تحييد “حماس” أولاً، فلن يكون من الممكن حتى التفكير في أي من هذه الأمور. ويبقى الصعب أفضل من المستحيل.
تم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع “المجلة”.
Copyright © 2024 The Washington Institute for Near East Policy