كيف يمكن الإفلات من المأزق الاستراتيجي؟
تاريخ المقال
المواضيع
المصدر
- تضررت صورة إسرائيل كثيراً في الغرب، حيث يتم توصيفنا في الجامعات، وعلى تطبيق TikTok، وفي وسائل الإعلام الرئيسية، بأننا دولة وحشية تنتهك القانون، ويجب وضع حدّ لها من أجل تحقيق السلام العالمي. لكن الانطباع الغربي عن إسرائيل ليس الانطباع الوحيد الذي يهمّ الإسرائيليين، إذ أننا نهتم أيضاً بطريقة نظرة القوى الجهادية في الشرق الأوسط إلينا. هكذا تصبح لدينا صورتان نشعر بالحاجة إلى الحفاظ عليهما: فنحن نحتاج إلى أن يرانا الغرب دولة أخلاقية تعمل وفقاً لقواعد اللعب المعمول بها، لكننا نحتاج أيضاً إلى أن ينظر إلينا الشرق الأوسط على أننا دولة حازمة، وهجومية، وغير متوقعة، بل متوحشة أحياناً.
- ما يشغلنا شعوران: الحب والخوف. نحن نرغب في أن يحبنا الغرب، كما نرغب في أن يخشانا الشرق الأوسط. والمشكلة هي أن ما ينطبق علينا في هذه الحال هو مقولة “لا يفلح الساحر، حيث يفلح”، لأنه لا يمكننا الإمساك بالعصا من طرفيها: فكل إجراء نتخذه بهدف ترميم الردع الإسرائيلي وخوف الشرق الأوسط من إسرائيل، يقوّض الدعم والتعاطف الغربيَين تجاه إسرائيل، وفي المقلب الآخر: فكل ما نمتنع من القيام به من أجل الحفاظ على تعاطُف الغرب تجاه إسرائيل، سيؤدي، بالضرورة، إلى تقليل رهبة الشرق الأوسط من إسرائيل.
- لو تسنى لكم اختيار شعور واحد فقط من هذين الشعورَين، فأيهما ستختارون؟ الخوف أم الرعب؟ فمَن يشهد الأجواء العامة في إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، يدرك أننا نحن، كإسرائيليين، تهمنا معرفة أن الشرق الأوسط يخاف منا، أكثر كثيراً من محبة الغرب لنا.
- بالنسبة إلينا، إن صورتنا في الشرق الأوسط تمثل أهمية أكبر من انطباع الغرب عنّا، لكن المشكلة كامنة في أننا لن نتمكن من ترميم صورتنا المرعبة في الشرق الأوسط، من دون دعم الغرب. نحن نعتمد على الغرب، وعلى الذخائر، وعلى التسلّح، وعلى المظلة القانونية والدبلوماسية التي يوفرها الغرب لنا، فإذا ما فقدنا تعاطُف الغرب معنا تماماً، فسنفقد القدرة على ترميم صورتنا الباعثة على الخوف في الشرق الأوسط. وبعبارة أُخرى، نحن في مأزق منطقي واستراتيجي: إذ إن مصائرنا معلّقة بانطباع الغرب عنّا، ومن دون هذا الانطباع، لا يمكننا شنّ حرب في المدى الطويل، من شأنها تقويض صورتنا في الغرب.
- والآن، بعد مرور ثمانية أشهر، تحولت هذه المعضلة إلى فخ. ففي تشرين الأول/أكتوبر، قمنا بإطلاق حرب تهدف إلى استعادة المخطوفين، وكسر قدرات “حماس” العسكرية والسلطوية، وإعادة الأمن إلى مواطني إسرائيل. لقد انتهى ائتمان الشرعية الذي وفّره العالم لإسرائيل لكي تشن الحرب، قبل أن تحقق إسرائيل أهدافها، وقبل أن تنهي الحرب. لقد استنفدنا هذا الائتمان قبل أن نتمكن من القضاء على “حماس”، وفقدنا تعاطُف الغرب معنا، قبل إعادة ترسيخ صورتنا المرعبة في الشرق الأوسط. إن الوضع الذي وجدنا أنفسنا فيه، هو الأسوأ بكل المقاييس: إذ بات الغرب يعتبرنا غير أخلاقيين، وبات الشرق الأوسط يستخف بقدرتنا على الردع.
- الشعب الإسرائيلي شعب مميز. فمنذ اندلاع الحرب، بلغت نسبة الإسرائيليين الذين يثقون بالحكومة مستوى منخفضاً يبلغ نحو 30%. لماذا نحن شعب مميز إذاً؟ لأن الإسرائيليين، على الرغم من أن معظمهم لا يثق بالحكومة، فإنه يدعم الحرب. إن الأغلبية العظمى من الإسرائيليين تدعم أهداف الحرب، وتؤيد الإجراءات الصعبة التي يتعين علينا القيام بها من أجل الانتصار.
- لا توجد سوابق كثيرة لهذه الظاهرة الغريبة: شعب يكون كثيرون من أبنائه وبناته على استعداد للمخاطرة بأنفسهم في حرب تعلنها قيادة لا يثقون بها. لسوء الحظ، يفتقر بعض أصدقاء إسرائيل الأهم في العالم إلى المرونة العقلية التي يتمتع بها الإسرائيليون. فالجناح البراغماتي في الحزب الديمقراطي الأميركي، على سبيل المثال، يواجه صعوبة في تقديم الدعم لاستمرار الحرب في المدى الطويل، ولا يثق بالقيادة الإسرائيلية التي تقود هذه الحرب، في آن معاً.
- المشكلة هنا هي أنه كلما مرّ الوقت، كلما بات الإسرائيليون أنفسهم يواجهون مصاعب في الحفاظ على هذا النموذج الذي يمثلونه. فقد بتنا شهوداً على بوادر انطلاق عملية يتحول فيها انعدام الثقة بالحكومة، إلى انعدام دعم للحرب. فإذا لم نفعل شيئاً في هذا الصدد، فقد نجد أنفسنا أمام وضع لن يكون فيه انهيار شرعيتنا في العالم، سوى نذير سوء لِما هو أكثر شراً، يتمثل في الشرخ آخذ في الاتساع، في إصرار الإسرائيليين وقدرتهم على الصمود.
- لعلنا نسأل هنا: ما هو النصر؟ إنه تحقيق معقول لأهداف الحرب. إن الطريق إلى تحقيق النصر طويلة، ونجاحها يعتمد على الوصول إلى موردَين بعيدَي المنال: تحقيق الوحدة الإسرائيلية وضمان الشرعية الدولية. فإن لم تكن إسرائيل موحدة وعاقدة العزم، فلن يتحقق النصر؛ وإن لم يدافع أصدقاء إسرائيل في العالم عنها في الساحة الدبلوماسية ويدعمونها عسكرياً، فلن يتحقق النصر.
- في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر، انطلقت آلة الحرب الإسرائيلية في وقت كان مخزوننا من الشرعية الدولية مليئاً في خزاناتها، ومخزن الصمود والوحدة الوطنية فائضاً. وبمرور الأشهر الثمانية من الحرب، انخفض مخزن الإرادة والوحدة، في حين استنفدنا مخزون الشرعية الدولية بالكامل تقريباً. واليوم، إذا ما نظرنا إلى مؤشر وقود الصمود والوحدة الإسرائيليَّين، فسنكتشف أنهما على الرغم من أننا استنفدناهما إلى حد معين، فإن لدينا ما يكفي من إصرار على خوض هذه الحرب إلى آخرها، لكن، إذا نظرنا إلى مؤشر وقود الشرعية الدولية، فسنكتشف أن رأس عقربه قارب التأشير إلى الصفر. إن ماكينة الحرب الإسرائيلية، في جميع الحملات التي يخوضها الجيش الإسرائيلي الآن، سواء في غزة، أم في لبنان، تسير الآن على ما تبقى من بخار وقود الشرعية في تجويف الخزان.
- كيف يمكننا إعادة ملء هذين الخزانَين؟ تُعقد على مدار الأشهر الأخيرة محادثات بشأن خطوة سياسية قد تؤدي إلى تغيير الحالة الاستراتيجية الإسرائيلية. هناك حديث عن هذه الخطوة في أوساط الناشطين. وتكتب عنها شخصيات عامة، وتناقَش في الغرف السياسية المغلقة. إذا ما نظرنا إلى الخطوط العامة لهذه الخطوة، فسنكتشف أنها مؤلفة من قسمين: تحديد موعد مبكر ومتفق عليه لإجراء الانتخابات، وفي هذه الأثناء، ينضم كلٌّ من لبيد وليبرمان إلى غانتس، وينضمان إلى الحكومة حتى موعد الانتخابات.
- احتمالات النجاح منخفضة طبعاً. ففي أوساط مؤيدي الحكومة، يمكن للمرء أن يشعر بخوفهم الشديد من الانتخابات المبكرة، فهؤلاء لا يريدون خسارة كرسي الحكم. أمّا في أوساط معارضي الحكومة، فهناك خوف من الانضمام إلى الحكومة، إذ إنهم لا يرغبون في توفير الشرعية لمن هم في السلطة. لكن الطرفين يدركان أننا نعيش الآن منعطفاً تاريخياً خطِراً، وكل ما تبقى أمامنا من خيارات إشكالي.
- إذا ما تحققت هذه الخطوة، بشقَّيها، بصورة مفاجئة، فإنها ستطلق رسالتين قويتين نحو المجتمع الإسرائيلي:
- بعد انتهاء الحرب، يمكننا أن نعيد انتخاب الحكومة، وإطلاق عملية استشفاء للمجتمع الإسرائيلي وولادته المتجددة.
- إلى أن يحين موعد الانتخابات، ستقودنا في هذه المرحلة الحساسة والخطِرة حكومة تتمتع بشرعية شعبية واسعة.
- سيكون تأثير هاتين الرسالتين فورياً: إذ ستنخفض حدة الاستقطاب، وترتفع نار الصمود والتصميم. والأهم من ذلك، فإن توسيع صفوف القيادة الإسرائيلية، ورفدها بمعتدلين، وإلغاء تعليق مصيرها باليمين المتطرف، أمور كلها قد تخفف أزمة الثقة بين قادة الدول الغربية وحكومة إسرائيل، وتوفر لدولة إسرائيل شرعية إضافية على الساحة الدولية.
- هل سنستنفد هذه الحصة من الوقود أيضاً؟ نعم! صحيح أن شعورنا بتجدُّد القوى سيكون كبيراً، لكنه سيخلق حالة محدودة وقصيرة المدى من الشرعية. ومع ذلك، فإن الأشهر المعدودة التي سنكسبها ستوفر فرصتنا التاريخية، وسيكون في إمكان إسرائيل استغلالها من أجل تسريع عملية تفكيك “حماس”، وإعادة المختطفين، ومواجهة التحدي على الحدود الشمالية، وإعادة ترميم صورة إسرائيل في الشرق الأوسط كدولة صارمة، هجومية، وباعثة على التهديد.
- لقد عشنا الحرب بطولها، ونحن ننتظر ونصلي من أجل حدوث خطوة عسكرية غير متوقعة، كاسرة للتوازنات، تقلب مصير المعركة. من المحتمل أن تكون الخطوة المفاجئة التي ستعيد إسرائيل إلى الذروة، سياسية، لا عسكرية. وهذه الخطوة ستعيد ملء خزانَي الموردَين الحيويَّين: الشرعية الدولية والوحدة الداخلية، وتقلص من المخاطر الاستراتيجية التي تواجه إسرائيل. المشكلة هنا هي أن مثل هذه الخطوة يُفاقم المخاطر السياسية المحدقة بشخصيات الزعماء الذين من المفترض أن يسعوا لها.
- إن حسم المعركة يتطلب من مقاتلي الجيش الإسرائيلي المخاطرة بحياتهم، لكنه يتطلب أيضاً من رؤساء الأحزاب الكبرى المخاطرة بحياتهم السياسية. وعندما تتضافر شجاعة الساسة مع بطولة الجنود، سنحقق النصر.