القمة العربية في المنامة والاستجابة لثلاثة تحديات
15 مايو، 2024
استمع
تُعقد القمة العربية الدورية في المنامة يوم الخميس 16 مايو 2024، لتكون تأكيداً جديداً على انتظام دورية القمم بعد أن تعثر هذا الانتظام عقب قمة تونس 2019، حتى عُقدت قمة الجزائر في نوفمبر 2022، وتلتها قمة جدة في مايو 2023، التي تأكدت فيها عودة الحياة لدورية القمم؛ بطلب البحرين استضافة قمة 2024، والعراق استضافة قمة 2025.
وتتميز قمة المنامة بأنها تأتي تالية لقمتين وليس قمة واحدة؛ وهما: قمة جدة الدورية، وقمة الرياض العربية الإسلامية الطارئة التي انعقدت في نوفمبر 2023 لمواجهة الموقف الناشئ عن المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر 2023. ويُعلق كل مخلص للأمة العربية وأهدافها في الأمن والاستقرار والتنمية، آمالاً كبيرة على القمم العربية لمواجهة التحديات التي تعترض تحقيق هذه الأهداف. وأُحاول في هذا المقال الاجتهاد في رسم صورة لما ينتظره الرأي العام العربي والنخب العربية من القمة التي تستضيفها العاصمة البحرينية، وأُحدده في الاستجابة لتحديات ثلاثة هي: تحدي الفاعلية، وتحدي المتابعة، وتحدي المستقبل.
تحدي الفاعلية:
تبنت قمتا جدة (مايو 2023) والرياض (نوفمبر 2023)، منظومة من القرارات الهادفة لتقديم استجابات سليمة للتحديات التي واجهت الأمتين العربية والإسلامية وقت انعقادهما. وقد كان في صدارة هذه القرارات في القمتين، تأكيد ثوابت الموقف العربي المعروفة من القضية الفلسطينية، وإن كانت قمة الرياض العربية الإسلامية الطارئة قد تفردت بأنها واجهت الموقف الناجم عن عملية 7 أكتوبر 2023 والرد الإسرائيلي عليها، وانعكس هذا في قراراتها التي استخدمت لغة دبلوماسية قوية بشأن القضية الفلسطينية وآخر تطوراتها المتمثلة في المواجهة الحالية في قطاع غزة، فأكدت قرارات القمة أن هذه القضية هي القضية المركزية، ولا سلام من دون حلها الذي يتمثل في حل الدولتين؛ بمعنى أن تنشأ إلى جوار إسرائيل دولة فلسطينية تضم غزة والضفة معاً، فلا حل منفرد لغزة. كذلك أدانت هذه القمة العدوان الإسرائيلي بكل أبعاده بأشد العبارات، وأدانت بصفة خاصة تهجير سكان غزة من الشمال إلى الجنوب، ودعاوى تهجيرهم خارج القطاع، وأكدت ضرورة العودة الفورية للنازحين لبيوتهم ومناطقهم، مع تأكيد ضرورة اتخاذ المجتمع الدولي خطوات فورية لوقف قتل المدنيين واستهدافهم.
وفي هذا السياق، طالبت قمة الرياض العربية الإسلامية مجلس الأمن بإصدار قرار بالوقف الفوري لإطلاق النار، وكبح ممارسات الاحتلال في غزة، وكسر الحصار على القطاع، وإدخال قوافل المساعدات الشاملة، وأكدت ضرورة إطلاق سراح جميع الأسرى والمعتقلين والمدنيين، وطالبت جميع الدول بوقف تصدير الأسلحة لإسرائيل. كما طالبت المُدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتفعيل جهود التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية، ودعمت مسار طلب الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في جرائم الاحتلال، وطالبت المجتمع الدولي بوضع جمعيات المستوطنين ومنظماتهم في الضفة على قوائم الإرهاب، وأكدت ضرورة احترام الوضع التاريخي للمقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية، وأن المسجد الأقصى مكان عبادة خاص بالمسلمين.
ومن السهولة بمكان ملاحظة أن معظم مطالب قمة الرياض هذه لم تتحقق، وعلى رأسها وقف إطلاق النار، بل إن إسرائيل مضت في اتجاه توسيع الحرب على غزة، كما يجري الآن في رفح، وواصلت ممارساتها كافة ضد الفلسطينيين ومقومات حياتهم، وواصل المستوطنون جرائمهم ضد أهل الضفة في ظل حماية من الجيش الإسرائيلي، وانتهاكاتهم للمسجد الأقصى، كما أن النازحين لم يعودوا إلى بيوتهم ومناطقهم. وقد تحقق تقدم طفيف في بعض مطالبات قمة الرياض، مثل وقف عدد من الدول مبيعات سلاحها إلى إسرائيل بشكل أو بآخر على نحو جزئي في الغالب، وهذه الدول هي: هولندا وكندا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة التي شهدت جدلاً حاداً بين أنصار إسرائيل والمعترضين على سياستها. كذلك عقدت محكمة العدل الدولية جلسة في فبراير الماضي، في سياق طلب الرأي الاستشاري في ممارسات الاحتلال الإسرائيلي. كما أنه من الواضح أن المحكمة الجنائية الدولية قطعت شوطاً طويلاً في تحقيقاتها، بدليل التقارير عن قرارات محتملة بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه ورئيس أركانه، والتهديدات الأمريكية للمحكمة.
ويعني هذا أن قمة المنامة مطالبة بالبحث عن أدوات بعيداً عن الدبلوماسية الهادئة لفرض مطالبها العاجلة، وعلى رأسها وقف إطلاق النار الذي من شأنه أن يوقف عملية القتل الجماعي للفلسطينيين، ويسمح بعودة النازحين ودخول المساعدات. كذلك من الضروري أن تُرحب القمة بقرارات الدول التي أوقفت بيع الأسلحة لإسرائيل كلياً أو جزئياً، وتعمل على توسيع نطاق هذه القرارات ليكون المنع بموجبها كلياً، وليتسع ليشمل عدداً أكبر من الدول. أيضاً من الواجب أن تدعم القمة المحكمة الجنائية الدولية في مواجهة الضغوط والتهديدات التي تتعرض لها، وتنسق مع مجلس حقوق الإنسان الأممي بشأن الموقف مما يجري في غزة، وتدعم محكمة العدل الدولية سواء في النظر في دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، أم في طلب الرأي الاستشاري بشأن الاحتلال الإسرائيلي.
تحدي المتابعة:
حددت قمة الرياض الطارئة ثلاث آليات لمتابعة قراراتها؛ وهي تكوين لجنة وزارية، ووحدتي رصد قانوني وإعلامي، فضلاً عن المتابعة من الأمينين العامين للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. وهذا إجراء محمود بالنظر إلى أن متابعة القرارات العربية عبر الزمن تُظهر بصفة عامة ضعف عملية متابعة تنفيذها إن لم يكن غيابها أحياناً بالكامل. وكانت أهم هذه الآليات، تكوين لجنة من وزراء خارجية السعودية ومصر والأردن وفلسطين وقطر وتركيا وإندونيسيا ونيجيريا، وأية دول أخرى مهتمة، بالإضافة إلى الأمينين العامين للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي؛ وذلك للقيام بتحرك فوري لوقف الحرب والضغط من أجل إطلاق عملية سياسية لتحقيق السلام وفق المرجعيات الدولية المعتمدة.
كما كلفت هذه القمة الأمانتين العامتين بإنشاء وحدتي رصد قانونيتين لتوثيق الجرائم الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر، وإعداد مرافعات قانونية حول انتهاكات إسرائيل، على أن تقدم كل من الوحدتين تقريراً بعد 15 يوماً من إنشائهما للعرض على مجلسي وزراء الخارجية في المنظمتين، وبعد ذلك بشكل شهري. أيضاً، كلفت القمة أمانتي المنظمتين بإنشاء وحدتي رصد إعلامي لتوثيق جرائم الاحتلال، ونشر نتائج عملهما على منصات رقمية، وهي خطوة بالغة الأهمية؛ لأن استخدام الأسلحة القانونية والإعلامية في المواجهة الحالية يوفر إمكانات إيجابية هائلة من المنظور العربي نظراً لافتضاح الممارسات اللاإنسانية لإسرائيل في العالم كله. وأخيراً، كلفت القمة الأمينين العامين للمنظمتين بالمتابعة وعرض نتائجها على الدورة القادمة لمجلسيهما.
وقامت اللجنة الوزارية للمتابعة مشكورة بجولات في عواصم الدول الكبرى من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، لكن تحركاتها لم تسفر في حينه عن شيء ملموس فيما يتعلق بوقف العدوان. وأعتقد أن الظروف صارت مهيأة الآن على نحو أفضل بكثير لمتابعة هذا العمل ودفعه نحو نتائج عملية بعد أن بدأت بعض التحولات المهمة في مواقف الرأي العام العالمي، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة، والتي انعكست على إرهاصات تحول في المواقف الرسمية لدول عديدة. ومن الأهمية بمكان أن تعطي قمة المنامة دفعة لعمل هذه اللجنة، وأن تزودها بتوجيهات تستفيد من التطورات التي حركت دوائر الرأي العام العالمي باتجاه تأييد القضية الفلسطينية، وتطرح على الجهات المعنية في الدول التي ستتصل بها رؤية متكاملة للتوصل إلى وقف إطلاق النار، وبداية خطوات لحل سياسي.
أما وحدتا الرصد القانوني والإعلامي، فقد كان إيجابياً دون شك أن يصدر الأمين العام للجامعة العربية قراراً بعد خمسة أيام من القمة بتأسيس الوحدتين المذكورتين، ولكني لاحظت أنهما أُلحقتا بهيكل قطاع فلسطين والأراضي المحتلة، وهذا منطقي بطبيعة الحال، غير أني خشيت أن تواجه الوحدتان مصير مجلس السلم والأمن العربي الذي لم يتمكن من الوفاء بمسؤولياته نتيجة شح الموارد ونقص الكوادر. وسوف تكون قمة المنامة مطالبة بمتابعة جادة لعمل الوحدتين، خاصةً أن نتائج هذا العمل يمكن أن يكون لها مردود بالغ الإيجابية في الظروف الحالية التي يضيق فيها الخناق على إسرائيل في دوائر الرأي العام العالمي من ناحية، ومؤسسات العدالة الدولية من ناحية أخرى. وسوف يكون مهماً، على سبيل المثال، أن توجه القمة رسالة دعم للمحكمة الجنائية الدولية في مواجهة التهديدات التي تتعرض لها بسبب التقارير عن نية إصدار أوامر اعتقال قد تطول رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه ورئيس أركانه.
تحدي المستقبل:
تحديات المستقبل العربي كثيرة، ولا شك أن قمة المنامة مطالبة بالنظر في أهمها وأكثرها إلحاحاً، وأتخير من هذه التحديات اثنين؛ يتعلق أولهما بالمواجهة الحالية في غزة، والثاني بالصراعات الداخلية في عدد من الأقطار العربية.
أما عن التحدي الأول، وبالإضافة إلى المهمة العاجلة التي سبقت الإشارة إليها بخصوص الإسراع في التوصل لوقف إطلاق النار وما يرتبط بذلك من مهام إنسانية عاجلة، فإن ثمة مهمة مستقبلية أخرى بالغة الأهمية لما بعد الحرب التي لا بد وأن تنتهي يوماً، وأن هذا اليوم أغلب الظن لن يكون بعيداً إن لم يكن بحساب الأسابيع ففي شهور قليلة، لأن حجم العنف والقتل والتدمير بلغ أشده مع استمرار صمود الفلسطينيين وقدرتهم على إلحاق خسائر بإسرائيل، وهو وضع غير قابل للاستمرار طويلاً بمتابعة تطورات الوضع الداخلي في إسرائيل والساحة الدولية. وسوف يكون من غير المقبول أن نستقبل اليوم التالي لنهاية حرب غزة باستمرار الانقسام الفلسطيني، وأعلم صعوبة استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية على نحو فعلي لاعتبارات عديدة لا مجال لذكرها في السياق الحالي، لكن قمة المنامة مطالبة بنهج مختلف للضغط على الفصائل الفلسطينية باتجاه استعادة وحدتها، وبطبيعة الحال فإن المسألة ليست مجرد ضغط ولكنها بالأساس بلورة صيغ متوازنة تقبلها الأطراف كافة، وبضمانات كافية من أطراف عربية وازنة.
ويتعلق التحدي الثاني باستمرار الصراعات الداخلية في عدد يُعتد به من الدول العربية على نحو يهدد كيانات الدول الوطنية ويضرب الاستقرار فيها، بالإضافة إلى التداعيات الإنسانية والاقتصادية الكارثية فيها، فضلاً عن فتح الباب على مصراعيه للاختراقات الخارجية. ولذلك فإن قمة المنامة مطالبة بوضع مسألة استعادة الدولة الوطنية القوية المتماسكة أولوية تتناسب وخطورة التداعيات المترتبة على استمرار الأوضاع الراهنة، والاجتهاد في التوصل لصيغ حلول متوازنة ومقبولة من الأطراف كافة. ولا يبقى في النهاية سوى أن نتمنى لقمة المنامة النجاح في النهوض بمسؤولياتها والاضطلاع بمهامها على خير وجه.