لا تدخلوا إلى رفح، بل اخرجوا إلى الشوارع
تاريخ المقال
المواضيع
المصدر
- بعد أكثر من نصف عام على حرب من الجو، والبحر، والبر، وتحت الأرض، يمكن للمرء أن يقدّر أن الجزء الأكبر من قدرات “حماس” العسكرية تم تدميره. وقُضيَ على أغلبية الصواريخ ومنصات إطلاقها. ومنذ أكثر من أربعة أشهر، لم يتم، في المطلق تقريباً، إطلاق صواريخ من قطاع غزة. الأمر لا يعود إلى قرار تكتيكي صادر عن “حماس”، يهدف، ظاهرياً، إلى تضليل القوات الإسرائيلية ومغافلتها، لكي تعود وتفاجئنا بهجوم غير متوقع يتسبب بأضرار خطِرة للجبهة الداخلية ووحداتنا المقاتلة. من المعقول الافتراض أن “حماس” بقيت تقريباً من دون صواريخ، أو منصات إطلاق، ومن دون قدرات على استخدام القليل المتبقي لديها بصورة عملانية، بسبب سيطرة الجيش الإسرائيلي على أغلبية المواقع التي يمكن أن تُستخدم كقواعد صاروخية.
- لقد تم القضاء على عدد كبير من مقاتلي “حماس”، وهذا إنجاز مهم للغاية. هذه الخسائر لم تقتصر على الصفوف الأمامية المقاتلة للحركة ، بل طالت التسلسل القيادي، ابتداء من كبار القادة، وصولاً إلى المقاتلين الميدانيين. وعلى الأرجح، فإن كبار قادة “حماس”، وعلى رأسهم السنوار والضيف، لا يزالون أحياء. إنهم يختبئون في أماكن قد يكبّدنا اقتحامها أثماناً باهظة جداً، ليس من الصواب أن نتطوع لدفعها.
- سيكون من الممكن القضاء على السنوار والضيف، مستقبلاً، في عمليات محددة ودقيقة، ولو طال الزمن، ولو لم يكن توقيت الاغتيال ملائماً لجدول أعمال رئيس الحكومة الخاص. فبالنسبة إلى نتنياهو، يُعتبر اغتيال قادة “حماس” فرصة لإطلاق مهرجان نصر يهدف إلى إخفاء حجم الإخفاق الذي يتحمل هو نفسه مسؤوليته. لكن، وحسبما قال كثيرون غيري، فإنه من المحظور أن يكون مسار الحرب وأولوياتها خاضعَين لحاجات نتنياهو الخاصة. لا يوجد شخص واحد في إسرائيل لا يتمنى أن يسمع خبر القضاء على الضيف والسنوار… وطالما نحن عاقدون العزم على القضاء عليهما، فعلينا التعامل بانضباط مع هذه المسألة، والتحلي بالصبر والحكمة.
- خلال حرب لبنان الثانية، تم تحديد زعيم حزب الله حسن نصر الله، كهدف للتصفية. لقد رغبنا كثيراً في اغتيال ذلك نصر الله، لكننا لم نكرس الحرب لتحقيق هذا الهدف وحده. في نهاية المطاف، جاء كلام نصر الله أمام شاشات التلفزة اللبنانية، الذي قال فيه أنه لو كان يعلم حجم الدمار الذي ستتسبب به الضربة الإسرائيلية، رداً على اختطاف وقتل إيهود غولدفاسر وإلداد ريغف وجنود آخرين، والهجوم الصاروخي الذي شنّه حزبه، لما أقدم على تلك الخطوة.
- كان صدور هذا الكلام من فم نصر الله الحيّ، يعادل تقريباً اغتياله وعرض جثمانه كإنجاز عسكري إسرائيلي. إن الـ 17 عاماً التي مرت، والتي تجنب خلالها المبادرة، ولو إلى شنّ هجوم واحد على إسرائيل، ولو بالسلاح الفردي، فضلاً عن الصاروخي، هو تعبير هائل عن حجم الإنجاز العسكري المحقق من حرب لبنان الثانية، والردع الذي خلقته هذه الحرب على الحدود الشمالية. ولو كان بيننا أفراد ما زالوا يتمتعون بتوجيه الانتقادات إلى إنجازات الحرب، بعد مرور كل هذه السنوات، فنقول لهم: يكفي أن نصر الله بنفسه يدرك حجم الهزيمة التي مُني بها، لكي نعرض تلك الحرب، بأبعادها الحقيقية.
- في هذه اللحظة الزمنية، نشهد في ساحة غزة مستوى الإنجاز العسكري والردعي نفسه الذي توصلنا إليه لدى انقشاع غبار حرب لبنان الثانية. لقد وضع رئيس الوزراء، منذ بداية الاجتياح البري، هدفاً غير واقعي، لا توجد طريقة لتحقيقه، ولا يوجد إمكان لتقدير مدى نجاحه،أو فشله. لقد قام نتنياهو بالأمر، في اعتقادي، بدوافع شريرة وتآمرية، لا يمكن للمرء أن يفوّت ملاحظتها. لقد كان يعلم بأن الحديث عن “نصر مؤزّر” وتام، على “حماس”، ليس سوى شعار فارغ. لن تتمكن إسرائيل من تحقيق نصر كهذا، وفي ظلّ عدم تحقيق مثل هذا الهدف، يمكن لنتنياهو دائماً توجيه أصابع الاتهام نحو الجيش بسبب عدم قدرته على تحقيق الهدف المذكور.
- أمّا على الأرض، وعملياً، لقد حققنا نصراً واقعياً ومبهراً وغير مسبوق. إذ لم يسبق أن اضطر جيش نظامي من ذي قبل إلى محاربة تنظيم “إرهابي” يختبئ بشكل شبه كامل في شبكة من الأنفاق التحت أرضية، والتي تصل أعماقها إلى عشرات الأمتار، وفي مراكز حضرية كثيفة السكان، يعيش فيها مئات الآلاف من المدنيين غير الضالعين في القتال. لقد تعرّض هؤلاء المدنيون لقصف الطيران وإطلاق الرصاص من جانب وحدات الكوماندوس التي تطارد القادة “الإرهابيين”، وتسببت هذه العمليات بوقوع ضحايا بصورة مأساوية.
- في ظلّ هذا التشابك المعقد، وتحت سمع وبصر المجتمع الدولي النقدي، بما يشمل أصدقاءنا ومؤيدينا الطيبين، عمل الجيش الإسرائيلي بصورة تبعث على الإعجاب. إنكم لن تجدوا معركة عسكرية بهذا التعقيد، تحدث من دون وقوع أخطاء، ومن دون إطلاق نار غير ضروري نحو جنودنا، ونحو المدنيين الأبرياء، على حد سواء. كان هناك مظاهر مزعجة تدل على التراخي في الالتزام بقواعد إطلاق النار، وكان من ضحاياها أيضاً مخطوفون إسرائيليون، ومدنيون غزّيون علقوا في مناطق القتال، ودفعوا حياتهم ثمناً لتلك الصدفة. لا يمكننا أن ننكر أن مقاتلينا أظهروا في العديد من الحالات تهوراً غير ضروري. لكن من الصعب اتهامهم، في ضوء الظروف الشديدة الخصوصية المتعلقة بمثل هذا النوع من القتال، في فوضى المعارك في حروب الشوارع المسكونة، وفي فوهات أنفاق الموت التابعة لحركة “حماس”.
- لكن يوجد هدف واحد لم نتمكن من تحقيقه بعد: إنه إطلاق سراح المخطوفين. منذ البداية، لم يكن هذا الهدف في مركز اهتمام نتنياهو، الذي يبدو أنه قام بإحباط احتمالات توسيع شبكة التفاهمات التي تمت مناقشتها بين إسرائيل و”حماس”، عبر الوسطاء، وصولاً إلى التقدم نحو صفقة شاملة تضمن إطلاق سراح جميع المخطوفين.
- وعلى الرغم من أنه من الصعب، بل من المستحيل، عاطفياً، تقبُّل الأمر، فإنه يجب علينا أن ندرك التالي: إسرائيل لن تخرج منتصرة من هذه المواجهة. إن تلك الثرثرة المتعجرفة التي نسمعها بشأن “النصر المؤزر”، لا تعبّر سوى عن الحماقة، والغطرسة، والأهم: محاولة الهروب من صورة عدم تحقيق النصر، للتهرب من المحاكمة العلنية الحتمية التي من المفترض أن تأتي فور انتهاء الحرب.
- لقد توقف نتنياهو منذ فترة طويلة عن التفكير في مصلحة دولة إسرائيل، ومستقبلها، ومصالحها الاستراتيجية، وواجبها الملزم بالشروع منذ الآن في تقليص آثار الضربة الخطِرة التي تلقيناها، وإرساء أسس إعادة بناء الدولة والجيش وقوى الأمن، والأهم: المجتمع الإسرائيلي والتكافل الاجتماعي فيه، تلك العناصر التي كانت سابقاً سرّ القوة الحقيقية لدولة إسرائيل.
- نتنياهو يعيش في فقاعة منفصلة عن الحياة الحقيقية. وهو يقنع نفسه، داخل فقاعته تلك، ويقنع الذين يعيشون فيها معه، بأنه يحارب دفاعاً عن وجود دولة إسرائيل، وأن هناك خطراً حقيقياً مصلتاً فوق عنقها، وأنه منتخب لأداء رسالة تاريخية تتمثل في التصدي للعالم بأسره، وحماية إسرائيل، بجسده تماماً، وقوفاً في وجه الذين ينكّلون بالدولة ويسعون لخرابها.
- لا توجد طريقة لتفسير سلوك نتنياهو، باستثناء الاستنتاج أنه يعتقد أن كثيرين في الدولة ممن يعارضونه يرغبون في تدمير إسرائيل، عن سبق إصرار وترصّد. أنا أفترض أن أولئك المتحصنين في ذلك النفق البشري المغلق، الذي يحبس نفسه فيه مع أفراد أسرته وبعض مؤيديه، مقتنعون بأن أغلبية مؤيدي إسرائيل في العالم، وعلى رأسهم الرئيس الأميركي جو بايدن، وربما بعض زعماء أوروبا أيضاً، من شأنهم أن يتسببوا بدمار إسرائيل بسبب الضغط الذي يمارسه عليهم اليساريون وكارهو إسرائيل في بلادهم، وشركاؤهم الموزعون على جهات العالم الأربع.
- من هذه الناحية، يبدو أن نظرة نتنياهو إلى العالم تفيد بأن أعداء إسرائيل الأشد شراسة هم بالذات أشجع وأجرأ مقاتلي إسرائيل، بالإضافة إلى أعضاء المعارضة السياسية المنتخَبين في الكنيست. وأضم إلى هؤلاء أيضاً كلاً من بني غانتس وغادي أيزنكوت، اللذين يستغل نتنياهو استقامتهما وإخلاصهما للدولة، في حين يحتقرهما في داخله، ويعتبرهما كما لو كانا عدوَّيه وخصمَيه.
- ها قد وصلنا، في هذه اللحظة التاريخية، إلى مرحلة حسم مفصلية: فهل نحن ذاهبون إلى صفقة، تمكّننا من إنقاذ حياة المخطوفين، أم أننا مندفعون بسرعة جنونية نحو التحطم في شوارع رفح؟
- لا ينطوي احتلال رفح على أيّ أهمية استراتيجية من ناحية مصالح إسرائيل الحيوية. يدرك نتنياهو ذلك، ويدرك ذلك أيضاً بعض ضباط الجيش، أولئك الذين يتقلدون المناصب القيادية الرئيسية الآن، ومعهم مَن استقالوا. كان في إمكاننا القول إن القضاء على أربع كتائب إضافية تابعة لمقاتلي “حماس”هو خطوة صحيحة، لو كان الأمر منفصلاً عن السياق الأوسع للأحداث. لكن الدخول الآن في مناورة برية تستمر شهوراً، سيترتب عليه سقوط عدد كبير من القتلى في صفوف جنودنا، وقتل الآلاف من المدنيين غير الضالعين في القتال في صفوف الفلسطينيين، وهي خطوة ستؤدي إلى تهشيم ما تبقى من مكانة إسرائيل أمام المجتمع الدولي، وتحريض التظاهرات في كلّ حرم جامعي في الولايات المتحدة والعالم، والتسبب بإصدار أوامر جلب واعتقال ضد زعماء إسرائيل ومقاتليها، وعلاوةً على هذا كله: إنها تشكل خطراً حقيقياً على حياة المخطوفين.
- سيكون الأمر بمثابة تهوّر إجراميّ، والرد عليه سيكون الطرد الفوري لمجموعة المتهورين من السلطة، وعلى رأس هؤلاء نتنياهو، أولئك المستعدين لتهشيم أسس وجودنا، لا لشيء، إلا لكي يواصلوا التشبث بمقاعدهم، وبقوتهم المتآكلة، وبمفاصل التحكم بدولة إسرائيل.
- لقد كنت رئيساً لحكومة إسرائيلية اتخذت قرارات قوبل بعضها بأحجام هائلة من النقد. لقد كانت حرب لبنان الثانية، على مشارف نهايتها، مصدراً للهجوم الذي لا يتوقف على شخصي، وعلى أعضاء حكومتي، وعلى قادة الجيش الذين خاضوا القتال. هذا الأمر لم يعد مهماً إطلاقاً، بالعودة إلى الوراء، وبعد أن ثبت أن هذه الحرب شكلت انتصاراً بالنسبة إلينا، على الرغم من أنها لم تخلُ من الإخفاقات والأخطاء، فقد كانت أيضاً مكللة بإنجازات استراتيجية، صارت أوضح بعد مرور أعوام طويلة. لكن يمكن القول أنه لم يدُر في خلد أحد من أولئك الذين كانوا يتحفظون عن الحرب، آنذاك، الادعاء أن ما حرّك تلك الحكومة في تلك الحرب، كانت مصالح شخصية ضيقة لمن كان على رأسها.
- في هذه الأيام، يتوفر إجماع بين الأغلبية العظمى من مواطني إسرائيل، مفاده بأن الدافع الوحيد الذي يقف وراء تصعيد الحملة العسكرية واجتياح رفح، ليس مصلحة إسرائيل، بل إن الأمر قرار مقصود للتضحية بحياة المخطوفين، من أجل إنقاذ الحياة السياسية لمن يواصل دفع إسرائيل نحو الهاوية.
- لقد آن الأوان لوقف نتنياهو وحكومة بن غفير وسموتريتش. لقد آن الأوان لإغراق الشوارع بملايين المعارضين الثابتين، الذين سيحاصرون عصابة الزعران التي تقود دولة إسرائيل نحو الدمار. لقد آن أوان إيقاف تلك العصابة قبل أن يفوت الأوان.