فلتُغلق منشأة “سديه تيمان”، وليُشرع في التحقيق فيها
تاريخ المقال
18 أبريل 2024
المواضيع
إسرائيل والأراضي المحتلة سنة 1967
هآرتس
المؤلف
إيتاي ماك
منذ اندلاع الحرب في غزة، تم احتجاز الغزيين الذين اعتُقلوا في منشأة واقعة في قاعدة “سديه تيمان” العسكرية، بجانب بئر السبع، وتقريباً من دون رقابة من المحكمة، ومن دون إتاحة المجال أمام مندوبي الصليب الأحمر والمحامين للقاء المعتقلين. نشرت “هآرتس” أن عدداً من المعتقلين توفي (ورفض الجيش نشر معلومات عن ظروف وفاتهم)، كما نشرت الصحيفة أن الجنود يعتدون بالضرب على المعتقلين وينكّلون بهم (“هآرتس”، 4/4/2024). أيضاً أرسل طبيب يعمل في المنشأة رسالة إلى المستشارة القضائية للحكومة، حذّر فيها من أن ظروف الاعتقال في تلك المنشأة تعرّض صحة المعتقلين للخطر، وأن إسرائيل تخاطر بخرق القانون الدولي. فعلى سبيل المثال، كتب الطبيب “خلال هذا الأسبوع فقط، تم بتر ساقَي اثنين من المعتقلين نتيجة جروح أصابتهم بسبب تكبيلهم. ولأسفي الشديد، هذا مجرد حدث روتيني هناك”.
قبل أسبوع ونصف، قدمت جمعية حقوق المواطن التماساً إلى المدعية العامة العسكرية، الجنرال يفعات تومر – يروشالمي، وطالبتها بإغلاق المنشأة فوراً، بادّعاء وجود تعذيب وظروف تعرّض سلامة أجساد وحياة المعتقلين للخطر.
هذه ليست المرة الأولى التي تقدّم فيها جمعية حقوق المواطن التماساً بشأن الظروف التي يُحتجز فيها الأسرى الأمنيون في إسرائيل. ففي آذار/مارس 1990، قدم كلٌّ من جمعية حقوق المواطن ومركز “هموكيد” لحماية الفرد التماساً إلى المحكمة العليا بشأن أربعة معتقلين في سجن أقيم في قرية الخيام في الجنوب اللبناني. كانت إدارة السجن مشتركة ما بين الجيش الإسرائيلي و”جيش لبنان الجنوبي”، واستُخدم السجن من سنة 1985 وحتى الانسحاب من لبنان في أيار/مايو 2000. وبحسب الالتماس، لقد تم تعذيب معتقل اسمه سليمان رمضان بصورة خطِرة بالصعقات الكهربائية، والجَلد، والتعليق على عمود حديدي. وفي ظل غياب الرعاية الطبية، أصيب بنخر في ساقه اليسرى، وبعد مرور 12 يوماً، تم نقله إلى مستشفى إسرائيلي، حيث تم بتر ساقه هناك.
وعلى الرغم من أن الجيش الإسرائيلي و”جيش لبنان الجنوبي” [قوات أنطوان لحد التي تعاملت مع إسرائيل] قد حظرا على مندوبي الصليب الأحمر والمحامين والصحافيين زيارة سجن الخيام، فإن طرق التعذيب التي مورست هناك تم توثيقها في تقارير المنظمات الحقوقية. شملت تلك الطرق الحبس في زنازين شديدة الضيق (تم إطلاق اسم “قن الدجاج” عليها)، وحجمها نصف متر مربع، وارتفاعها 70 سنتيمتراً؛ واستخدام الأعمدة لتعليق المعتقلين في أثناء جلدهم بالكوابل الكهربائية؛ واستخدام أجهزة كهربائية لصعقهم في مواضع حساسة من أجسامهم (أصابع اليدين، أصابع القدمين، الأعضاء التناسلية، الأذنان، والحلمات، واللسان)؛ الحبس في ظروف اعتقال لا ضوء فيها في المطلق، وهو ما أدى إلى مشاكل في الرؤية.
إلى ذلك، تم حشر المعتقلين في غرف اعتقال صغيرة، وفي ظل عدم توفُّر مراحيض، اضطر المعتقلون إلى قضاء حاجاتهم، إمّا في دلاء، أو على أجسادهم، وهو ما أدى إلى تفشّي الأمراض الجلدية التي لم يتم علاجها. وعلى الرغم من وجود مستشفى على مسافة كيلومترات معدودة من السجن، لكن في كثير من الأحيان، وإلى أن يصدر القرار بشأن إرسال المعتقلين المصابين إليه، يصبح الوقت متأخراً، ولذا، فإن كل ما كان يمكن فعله، طبياً، هو بتر الأرجل، أو الأيدي، بسبب تفشّي النخر (الغرغرينا).
في أعقاب التماس قُدم إلى المحكمة العليا، كشف جهاز الشاباك في آذار/مارس 2022 وثائق سرية وثّقت حالات صعق سجينة بالكهرباء، والتجويع، والحرمان من العلاج الطبي، والاعتقالات إلى آجال غير مسماة، ومن دون وجود أيّ إجراءات قضائية، والتحقيق مع النساء من جانب رجال (“هآرتس”، 23/3/2022). وفي الوثيقة الصادرة سنة 1997، تمت مناقشة المشاكل الطبية التي عانى جرّاءها المعتقلون. وقد قال كاتب الوثيقة أنه التقى شخصاً، يبدو أنه كان مسؤولاً عن السجن، عيّنه “جيش لبنان الجنوبي”، وقد عبّر خلال اللقاء عن استيائه من حلّ المشاكل الطبية المتعلقة بالمعتقلين والأسرى الذين يتم التحقيق معهم، ومن كون المشاكل الطبية غمرت السجن، وهذا ما يدعو قيادة السجن إلى تأجيل قرارات متعلقة بالإفراج عنهم”.
وتمت الإشارة في الوثيقة المذكورة إلى “مشكلة المسؤولية الطبية، غير المعرّفة بصورة واضحة ومفصلة”، وهو أمر يظهر من خلال احتجاز معتقلين في السجن “حالتهم الصحية خطِرة”، من دون أن تكون الجهة المسؤولة عن الاعتقال “على علم بالأمر، ومن دون أن تكون لهذه الجهة [عناصر جيش لحد] ما يكفي من دعم من جانبنا [الشاباك] لإطلاق سراح هؤلاء”. وفي وثيقة أُخرى صدرت أيضاً في سنة 1997، كتب ضابط، تم شطب اسمه ومنصبه، أن “المشاكل الطبية…. معروفة على مدار السنوات”.
في الوثائق التي سمح الشاباك بنشرها أيضاً، مناقشات قانونية أجرتها شخصيات مختلفة في إسرائيل، تحدثت عن دستورية التحقيق مع السجناء الأمنيين اللبنانيين من طرف إسرائيل على الأراضي اللبنانية. وتفيد إحدى الوثائق الصادرة سنة 1996 بأن إسرائيل اعترفت بـ “الإشكالية السياسية/ القضائية” الكامنة في وجود منشأة اعتقال وتحقيق تديرها هي في لبنان. وورد في الوثيقة أنه “في الوقت الذي أعلنت الحكومة الإسرائيلية بصورة رسمية أنها انسحبت من المنطقة”، فإن إقامة هذه المنشأة الاعتقالية تُعد “عملاً سلطوياً واضحاً”. كانت المشكلة الأساسية، آنذاك، هي أن إسرائيل رغبت في مواصلة احتجاز المعتقلين والتحقيق معهم، لكن من دون أن تتحمل المسؤولية القانونية والسياسية عمّا يحدث بين جدران سجن الخيام.
في المناقشة التي عُقدت في المحكمة العليا في نيسان/أبريل 2022، استجاب الشاباك لتوصية رئيسة المحكمة العليا، إستر حيوت، بإعادة النظر في مسألة رفضه الكشف عن وثائق إضافية تم عرضها على القضاة بصورة سرية. وبعد مرور عامين، أي قبل أسبوعين، سمح الشاباك بنشر العشرات من الوثائق السرية الإضافية، التي تكشف كيف عملت المنظومة التي هدفت إلى إعفاء إسرائيل من المسؤولية عمّا حدث بين جدران سجن الخيام.
توضح وثيقة خاصة بجهاز الشاباك، صدرت في آذار/مارس 1989، بالتفصيل توجيهات العمل في السجن. وحددت هذه الوثيقة أنه يجب إجراء الجولة الأولى من التحقيق على يد طاقم محلي من المحققين، مكون من سكان “الحزام الأمني”، وأطلقوا عليه اسم “فلورنتين”. وعلى الرغم من أن الوثيقة حددت أن على هذا الطاقم إجراء تحقيقاته بصورة مستقلة داخل “قسم مخصص لهذا الأمر داخل منشأة الخيام”، فإن التوجيه المكتوب يوضح أن استقلالية هذا الطاقم كانت ظاهرية فحسب. إذ حددت الوثيقة أن طاقم “فلورنتين” سيتم إرشاده وتوجيه نشاطاته بواسطة مدرب إسرائيلي من الشاباك، يتمثل دوره في “توجيه الإرشادات في وسائل التحقيق المتعددة”، ومتابعة التحقيقات وتدقيقها، والمساعدة الاستشارية، وإجراء مداولات مهنية، وتشكيل حلقة اتصال بين الطاقم المحلي، وبين الشاباك، أو شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.
تفيد الوثيقة بأن “المرشد الإسرائيلي” التابع للشاباك، لا يجب أن يكون حاضراً جسدياً في غرفة التحقيق، لكن أنيطت به مهمات إدارية ورقابية كاملة في جولات التحقيق. كما حددت الوثيقة وجود جولة ثانية من التحقيقات، أُطلق عليها اسم “جولة أزرق أبيض”، يجري فيها التحقيق في موقع آخر تم نقل المعتقلين إليه بعد أن أنهى طاقم “فلورنتين” التحقيق معهم، عقب إثبات وجود حاجة ما تبرر استمرار التحقيق معهم بصورة مباشرة من طرف عناصر الشاباك (مثل وجود تقديرات تفيد بأنهم يملكون معلومات استخباراتية مهمة).
تم تحديد هذه المنظومة على الرغم من أن “توجيهات العمل” أشارت إلى أن الشاباك يعرف ما يجري خلال اعتقال هؤلاء، ونقلهم إلى الخيام، والتحقيق معهم (تم شطب التفاصيل). كما أشارت التوجيهات بصورة واضحة إلى أن الشاباك لا يُصدر أوامره إلى طاقم “فلورنتين” بالعمل وفقاً للتوجيهات المعمول بها لدى الطاقم الإسرائيلي، بل يوضح لهم “المخاطر المهنية.. إلى جانب الحاجة إلى التركيز الزائد في التحقيق على الحنكة في المعاملات الشخصية بين المحقِق ومَن يتم التحقيق معه”. كما أن الوثائق التي سُمح بنشرها في السابق تشير إلى أن الشاباك كان يعرف جيداً ما الذي يجري للمعتقلين على يد طاقم “فلورنتين”، لكنه لم يتحرك من أجل منع ذلك.
إن المنشأة الاعتقالية في “سديه تيمان” ليست سجن الخيام، لكنهما ليسا فقط نتاج سلوك شخصي مرفوض لجنود وعناصر محددين من الشاباك خدموا فيهما، بل نتاج مشكلة بنيوية معروفة يمكننا أن نسميها “الثقوب السوداء” في منظومة السجن الإسرائيلية. إن المنشأتين الاعتقاليتين المذكورتين أديرتا، أو تداران، خارج المنظومة القضائية العادية، ومن دون رقابة روتينية من جانب المحاكم، ومن دون زيارات الصليب الأحمر والمحامين وممثلي الإعلام. وعلى الرغم من وجود المشاكل من هذا النوع أيضاً في المرافق الاعتقالية العادية التابعة لمصلحة السجون الإسرائيلية الرسمية (شاباس)، فإن الجيش لا يُعد فيها هيئة مهنية ومؤهلة لاعتقال أعداد كبيرة من المعتقلين، وهو لا يملك المنظومة المتشعبة نفسها من القواعد القانونية التي تعمل مصلحة السجون وفقها، والتي من المفترض أن تضمن التوازن اللائق بين الحاجات الأمنية وحقوق السجين.
كان يجب على المدعية العامة العسكرية أن تعرف مسبقاً أن المنشأة الاعتقالية في “سديه تيمان” ستؤدي إلى كارثة. ولذا، ومن دون حاجة أصلاً إلى التماس مقدم للمحكمة العليا، وتقارير محرجة إضافية في وسائل الإعلام الإسرائيلية والدولية، يُنصح بأن تستجيب المدعية العامة الإسرائيلية فوراً لمطالب جمعية حقوق المواطن، وأن تُصدر أمرها بالإغلاق الفوري لهذا المرفق الاعتقالي، وفتح تحقيق شامل في كل ما حدث ويحدث بين أسوار هذه المنشأة حتى الآن.