مخاطر الانفلات:
خيارات إيران للرد على استهداف قنصليتها في دمشق
أفادت وسائل إعلام إيرانية بأن غارة جوية إسرائيلية، بطائرات “أف-35″، استهدفت بالصواريخ، مساء يوم الاثنين الموافق الأول من إبريل 2024، مقر القنصلية الإيرانية ومنزل السفير الإيراني في حي المزة الراقي بالعاصمة السورية دمشق، وأضافت أن الاستهداف أسفر عن تدمير مبنى القنصلية ومنزل السفير بالكامل، ومقتل كل من كان بداخلهما. وقدّرت بعض وسائل الإعلام عدد القتلى بـ11 شخصاً، هم ثمانية إيرانيين وسوريان ولبناني واحد، وأن جميعهم عسكريون، بالإضافة إلى إصابة آخرين.
ومن جانبه، أعلن الحرس الثوري الإيراني، في بيان، تعليقاً على هذا الحادث، مقتل اثنين من قادته وهما: محمد رضا زاهدي ومحمد هادي حاجي رحيمي، وخمسة من مرافقيهم من الضباط. فيما أشارت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية إلى أن الغارة استهدفت اجتماعاً سرياً بين مسؤولي المخابرات الإيرانية وقادة حركة الجهاد الفلسطينية، وأنه تم انتظار مغادرة القنصل الإيراني ثم تنفيذ الهجوم. ولا تُعلق إسرائيل عادة على الهجمات التي تُتهم بشنها في سوريا. ورداً على الهجوم الأخير في سوريا، قال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي: “لا نعلق على التقارير الواردة في وسائل الإعلام الأجنبية”.
دلالات الهجوم:
ينطوي حادث استهداف مقر القنصلية الإيرانية في دمشق على عدد من الدلالات، أبرزها ما يلي:
1- الهجوم الأول من نوعه: يُعد هذا الهجوم الأول من نوعه الذي تتهم إسرائيل بتنفيذه على مبنى دبلوماسي إيراني، في تاريخ الصراع بين البلدين، ما قد ينقل التوتر بينهما إلى مستوى جديد ومختلف. ووفقاً لهذه التُّهم، اكتفت إسرائيل في السابق بقصف أهداف عسكرية أو استراتيجية واضحة سواء داخل سوريا أم داخل إيران ذاتها. صحيح أن القتلى الذين أسفر عنهم الهجوم الأخير، هم قادة في الحرس الثوري الإيراني، إلا أن ذلك لا ينفي صحة أن المكان المستهدف هو مقر دبلوماسي، وإلا فكان الأولى أن يتم انتظار خروج تلك الشخصيات، واغتيالهم في مقار سكنهم أو في سياراتهم، كما حدث في حالات مُشابهة من قبل.
ويبدو أن إسرائيل رغبت، من خلال ذلك الهجوم، في إيصال رسالتين لإيران؛ الأولى: هي التأكيد على أن تعقب أهدافها في سوريا سوف يطال حتى المقرات الدبلوماسية، والثانية: هي إحراج طهران من خلال استهداف قنصليتها في دمشق، وذلك في ضوء إدراك تل أبيب، أن طهران ربما لن لا تقدم على الدخول في مواجهة مباشرة معها، وهي الاستراتيجية التي اتبعتها الأخيرة منذ بداية الصراع في قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023.
2- الرد على استهداف وكلاء إيران لإسرائيل: شهدت الفترة الأخيرة ارتفاع وتيرة هجمات المليشيات والجماعات الموالية لإيران ضد إسرائيل نفسها، وليس مصالحها فقط، في تغير واضح في النهج الذي كان تتبعه هذه المليشيات خلال الفترة الماضية. فعلى سبيل المثال، استهدفت تلك المليشيات مطار بن غوريون في تل أبيب، بطائرات مُسيّرة، في 20 مارس 2023، كما استهدفت ما تُسمى “المقاومة الإسلامية في العراق”، في اليوم التالي، محطة توليد الكهرباء في تل أبيب بواسطة الطيران المُسيّر. وجاء الهجوم على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، بعد ساعات من تبني “المقاومة الإسلامية في العراق” لهجمات عنيفة على قاعدة بحرية في إيلات، في هجوم قالت إسرائيل إنه تم بطائرات مُسيّرة إيرانية وتوجيه ممن جانب طهران، وكأنها رسالة من تل أبيب لإيران وأذرعها بأن المساس بالأراضي الإسرائيلية ستكون تكلفته عالية.
3- التركيز على استهداف القادة العسكريين: يأتي هذا الهجوم ربما ليؤكد استراتيجية استهداف كبار قادة الحرس الثوري الإيراني في سوريا، بدلاً من التركيز خلال السنوات السابقة على استهداف المعدات ومخازن الأسلحة والذخيرة. ففي الشهرين الماضيين، أسفرت غارات اُتهمت إسرائيل بشنها عن مقتل عدد من قادة الحرس الثوري في سوريا؛ إذ أدت غارة على مشارف العاصمة دمشق إلى اغتيال القيادي في الحرس الثوري، رضي موسوي، وهو مسؤول الإمداد بين الحرس والمليشيات في سوريا ولبنان، وكان يُلقب بالرجل الثاني بعد قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني. كما أدت غارة أخرى إلى مقتل قائد استخبارات فيلق القدس في سوريا، صادق أوميد زاده، وغيرهم.
ويؤكد الهجوم على القنصلية الإيرانية الاستمرار في استهداف قادة الحرس الثوري، سواء وجدوا في مقرات سرية أم مقار دبلوماسية. وجدير بالذكر أن محمد رضا زاهدي كان يمثل قيادة كبيرة ذات خبرة واسعة داخل الحرس الثوري، فضلاً عن كونه مسؤول نشاط فيلق القدس -الذراع الخارجية للحرس الثوري الإيراني- في سوريا ولبنان لعقود طويلة، وكان دائم التنقل بين دمشق وبيروت، وكان على اتصال دائم بالأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصر الله.
4- إفشال نتائج زيارة وزير الدفاع السوري لطهران: يأتي الهجوم على قنصلية إيران في دمشق، بعد أيام من زيارة وزير الدفاع السوري، اللواء علي محمود عباس، إلى طهران، في 16 مارس الماضي، وهي الزيارة التي جرى خلالها تأكيد التنسيق بين الجانبين عسكرياً وأمنياً إزاء الهجمات المتكررة التي تنفذها إسرائيل داخل سوريا. وربما رأت تل أبيب، أن هذه الزيارة قد تدشن لمرحلة جديدة من التعاون بين الجانبين يقضي بإمداد إيران لسوريا بمنظومات دفاعية، مثل: “آرمان” المضادة للصواريخ البالستية، ومنظومة “آذرخش” للدفاع الجوي منخفض الارتفاع، واللتين تم الإعلان عن عنهما، قبيل أيام من زيارة عباس لطهران، أو منظومة الدفاع الجوي “خرداد 15″، التي تنامى الحديث حول إمكانية أن تسلمها إيران لسوريا، وتدرك إسرائيل أن تلك المنظومات الدفاعية التي قد تسلمها إيران لسوريا، ربما تُسهم في تقويض تأثير الضربات الموجهة للجماعات الإيرانية داخل الأراضي السورية.
5- انتقائية الاستهداف: تركز إسرائيل على انتقائية الاستهدافات التي تنفذها داخل سوريا، في محاولة لإيصال رسائل للأخيرة بأنها ليست معنية بتلك الهجمات، وأن تقول لدمشق إن الحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل “ليست حربك ولا تتدخلي”، وإن الهدف هو الوجود الإيراني الذي يمثل تهديداً لأمن إسرائيل، من وجهة نظر تل أبيب.
وعلى الرغم من إدانة وزارة الخارجية السورية للحادث، ووصف الوزير فيصل المقداد، الهجوم بـ”الإرهابي”، من داخل السفارة الإيرانية في دمشق؛ بل وتصدي الدفاعات الجوية السورية لبعض الغارات التي استهدفت مبنى القنصلية؛ فإن ذلك ربما لا ينفي تذمر دمشق من الوجود العسكري والاستخباري الكثيف لإيران داخل سوريا، وخاصةً بعد أن تبين لها أن هدف إيران هو تأمين بقاء دائم في سوريا؛ وفق استراتيجية إيرانية لمواجهة إسرائيل، وهو وضع يربك النظام السوري ويجعله في موقف محرج.
6- تبرؤ أمريكي من المشاركة في الهجوم: كان لافتاً تصريح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي بأن بلاده “لم يكن لها أي دور في الضربة (الإسرائيلية)، ولم تكن على علم بها في وقت مُبكر”، مضيفاً أن واشنطن أبلغت طهران مباشرة بذلك. وجاء هذا الموقف الأمريكي بعد إعلان وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، أنه تم استدعاء مسؤول السفارة السويسرية لدى طهران باعتباره راعي المصالح الأمريكية في إيران، وتسليمه رسالة إلى الإدارة الأمريكية باعتبارها داعمة لإسرائيل و”يجب محاسبتها”.
كما يعزى هذا النفي الأمريكي إلى ما تردد في الساعات الأولى للهجوم، بأن إسرائيل قد أبلغت الولايات المتحدة به، فضلاً عن أن الهجوم ذاته قد تم تنفيذه بواسطة ستة صواريخ من مقاتلات “أف-35″، والتي زودت بها واشنطن تل أبيب. وقد يكتسب هذا الافتراض بعض الوجاهة عند النظر إلى استمرار الرسائل والتفاهمات بين إيران والولايات المتحدة، منذ اندلاع الصراع في غزة، وهو ما تؤكده تصريحات المسؤولين الإيرانيين ولم تنفه واشنطن. لذا فليس مرجحاً تورط الولايات المتحدة في هذا الهجوم، لكن إسرائيل أخطرت به واشنطن، دون انتظار موافقتها.
الرد الإيراني:
يمكن الإشارة إلى أبرز السيناريوهات التي قد تترتب على حادث استهداف مقر القنصلية الإيرانية في دمشق، على النحو التالي:
1- الرد المباشر: قد يُسفر الحادث، خاصةً عند النظر إلى أنه استهداف مباشر للقنصلية الإيرانية ومنزل السفير الإيراني في سوريا، عن رد مُباشر من جانب طهران، باعتبار أن هذا الحادث يضعها في موقف محرج ويمثل انتهاكاً لسيادتها. بيد أن هذا الرد المباشر لا يعني أن يكون داخل إسرائيل؛ إذ إن ذلك يظل احتمالاً غير مرجح، بالنظر إلى حرص إيران على عدم الانجرار إلى مواجهة مُباشرة مع الجانب الإسرائيلي، خاصةً أن الأخير يُثبت أنه لا يضع في الحسبان خطوطاً حمراء، وأنه على استعداد للانخراط في أي مواجهة وعلى أي جبهة من الجبهات والرد خارج حدوده. ومن هنا، فإن الرد الإيراني المباشر قد يكون من خلال استهداف سفن تابعة لإسرائيل في الخليج أو البحر الأحمر، أو استهداف مقار دبلوماسية أو مراكز دينية كما حدث من قبل في بعض دول أمريكا اللاتينية، أو استهداف مقرات تتبع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وفق المنظور الإيراني، كما فعلت من قبل باستهداف مقرات في كردستان العراق.
2- إرجاء الرد: بالتمعن في التهديدات الصادرة عن الجانب الإيراني، يُلاحظ أن أغلبها يدور في التهديد بـ”الرد في الوقت والزمان المناسبين”، وهي صيغة قد تحمل في مضمونها تعليق الرد في الوقت الحالي، وإمكانية الرد مستقبلاً. وبالنظر إلى الحوادث السابقة التي هُوجمت فيها أهداف إيرانية، فإنها ترجح هذا السيناريو، إلا أن تكلفته سواء الداخلية أم الخارجية ربما تكون مرتفعة؛ إذ إنه قد يصوّر إيران على أنها “دولة ضعيفة” لا تستطيع حماية مصالحها، وهو أمر قد يسفر عن ردود فعل شعبية واسعة ساخطة على النظام، ولاسيما أن تظاهرات انطلقت بالفعل في طهران للتنديد بالهجوم. كما أن عدم الرد لن يكون في صالح الأصوليين، الذين يتبنون سردية متشددة تجاه إسرائيل، وخاصةً بعد أن سيطروا على نتائج الانتخابات البرلمانية في مارس الماضي.
3- التصعيد من خلال الوكلاء: ربما يكون هذا هو السيناريو المفضل لدى إيران، على الأقل في الوقت الحالي؛ إذ قد تدفع طهران حزب الله اللبناني إلى إطلاق مزيد من الصواريخ على أهداف إسرائيلية، وتشجع الحوثيين على المُضي قُدماً في استهداف السفن الإسرائيلية والأمريكية، إلى جانب حث وكلائها في العراق وسوريا على مهاجمة الأهداف الإسرائيلية والأمريكية. وقد بدأت إرهاصات هذا السيناريو فعلياً؛ إذ هاجمت فصائل مدعومة من إيران قاعدة التنف الأمريكية في سوريا بطائرة مُسيّرة، مساء يوم 1 إبريل الجاري، بعد أن تجنبت المليشيات استهداف تلك القاعدة، منذ الهجوم على قاعدة “البرج تي 22″، والذي أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أمريكيين في 28 يناير 2024. كما تم إطلاق صاروخ “كروز” نحو الجولان قبل أن تسقطه الدفاعات الجوية الإسرائيلية.
ختاماً، يمكن القول إن حادث استهداف القنصلية الإيرانية في سوريا يدشن مرحلة جديدة من الصراع بين طهران وتل أبيب، والذي يُرجح أن يظل محكوماً بسياسة الفعل ورد الفعل، دون خروج الأمور عن السيطرة؛ لأن ذلك ليس في صالح أي من الطرفين. بيد أن ذلك لا يمنع من وجود مخاوف أن تؤدي تلك الهجمات إلى انفلات غير محسوب لهذا الصراع، وبما ينعكس سلباً على الوضع في الإقليم.