اغتيال العاروري..هروب من الهزيمة أم بدء المرحلة الثالثة؟
-بقلم العميد محمد الحسيني.
-وكالة نيوز
بعد السابع من أكتوبر، يوم “طوفان الأقصى”، وصل مباشرة إلى الكيان المحتل ضباط أمريكيون ليقدموا لنظرائهم الإسرائليين “المشورة العسكرية” لما يملكون من تجارب سابقة في قتال “المجموعات غير النظامية”، وتحديداً في فيتنام، أفغانستان والصومال، بالإضافة إلى تجاربهم في “قتال المدن” في الفلوجة والموصل، ناصحين العدو بعدم التهور في الهجوم سريعاً على “قطاع غزة” خشية التورط داخل بلداته ومدنه في “حرب عصابات” (عُرف هذا المصطلح “Guerrilla” أول مرة خلال حرب الإستقلال الإسبانية في القرن 19)، دامية وطويلة الأمد يمكن أن تُسفر عن آلاف الضحايا من دون الوصول إلى هدفهم الإستراتيجي وهو القضاء على “حماس” وباقي الفصائل (سرايا القدس، كتائب الأقصى، كتائب المجاهدين،..) وقد شدد الخبراء الأمريكيين على قادة العدو ضرورة تطبيق التكتيك الذي أعتمدوه خلال معركة الموصل عام 2016, كي لا يقع جيشهم في الأخطاء التي حصلت مع الأمريكيين في معركة الفلوجة عام 2004، معتمدين على العمليات الخاصة ضد الفصائل وقادتها إن في الداخل او الخارج وبأقل خسائر ممكنة من المدنيين، لكن العدو صمّ آذانه غير آبه بالنصائح، فلم يُقدّر الموقف لاتخاذ القرار المناسب مطلقاً العنان لطائراته ومدافعه كمرحلة أولى من الهجوم على القطاع، حاصداً عشرات الآلاف من القتلى والجرحى المدنيين، ومن ثم أنتقل إلى المرحلة الثانية زاجاً بقواته في قتالٍ مرير، يُسمى “القتال في الأماكن المأهولة”، حيث هاجم جيش الاحتلال غزة على جبهة طولها 51 كم وعرضها من 6 الى 12 كم (قوامها الفرقتان المدرعتان 80 و 162 مُعززة ب 6 ألوية من الوحدات الخاصة وأبقى على الفرقة 252 إحتياط) تتعاون فيها القوات البرية للعدو مع القوات الجوية والبحرية بما يُسمى “قتال مشترك”.
في حين أنّ “كتائب القسام” قد قرأت جيداً تاريخ حروب العدو المتكررة ضدهم وضد المقاومة الإسلامية في لبنان، وتحديداً:
1 -2006 حرب لبنان الثانية/ حرب تموز.
2- 2008 – 2009 عملية الرصاص المصبوب/معركة الفرقان.
3- 2012 عامود السحاب/حجارة السجيل.
4 – 2014 الجرف الصامد/العصف المأكول.
استوعبت “كتائب القسام” تكتيكات جيش الإحتلال مستطلعة في كل مرة نقاط القوة والضعف لديه، مستخلصة منهم الدروس والعبر، فقَدّرت الموقف التكتي وأخذت قرارها الإستراتيجي ونفذته فكان “سلاح الأنفاق”. واستكمالاً في التحضير لعملية “طوفان الأقصى” أجرت “كتائب القسام” مقارنة بين قدرات العدو وإمكاناتها المتاحة، فأعدت مقاتليها لليوم المنشود من حيث التدريب، التجهيز والعقيدة. وشكّلتهم ضمن كتائب (ليس من الضروري أن يكون عديدها مماثل للكتيبة النظامية) والكتيبة إلى مجموعات قتال صغيرة، يتراوح عديد كل مجموعة من 3 إلى 10 مقاومين حد أقصى وذلك وفقاً لكل مهمة. ووضعت مع باقي الفصائل في غزة خطة عملياتها بناءً على تكتيك: “قتالي ثلاثي الأبعاد”، تدمج فيه هذه المجموعات بين القتال داخل المباني وخارجها وفوق سطح الأرض وباطنها، لتأتيهم من كافة الجهات ومن حيث لا يشعرون، عبر تنفيذ الكمائن والإغارات، متخذين من أسلوب المناوشات المحدودة والكّر والفّر وعدم خوض مواجهة مباشرة معه بل العمل على استدراجه كأفضل تكتيك لمقاومته كما حصل في الكمين الثلاثي في الشجاعية، يهدف هذا النوع من القتال إلى إرهاق جيش الإحتلال واستنزافه لإجباره على الإنسحاب، معتمدين في هذا كله على دعم السكان وولائهم.
للسير بهذا التكتيك جزأت المقاومة القطاع إلى عدة مربعات كبيرة منحتها أسماء رمزيّة ضمنها مربعات أصغر، تم إسقاط هذه المربعات نسبة لحجم ومساحة المدن والمخيمات والبلدات ووفقا للأهمية الإستراتيجية لكل منطقة، وقد جرى توزيعها بعد دراسة محاور تقدم العدو و”النقاط الحاكمة”.
إعتمدت المقاومة هذا التكتيك مستفيدة من:
1-الإستخدام الآمن للأنفاق (حوالي 500 كم) التي أنشأتها تحت الأرض تسمح بحرية مناورة أوسع وأشمل، فهي قادرة على التنسيق بين القتال تحت الارض وفوقها مستفيدة من أكوام الركام والمنازل الفارغة، بعد أن تحولوا إلى موانع ومراكز رمي للمقاومين بقدر ما أعاقت العدو في السيطرة.
2- حرية المناورة مفتوحة للمجموعات الصغيرة، فالمبادرة القتاليّة بيدها ترصد، تستطلع، تنفذ ثم تُفيد لاسلكياً.
3- مبدأ “أضرب واهرب”، مع الإبقاء على السُبل مفتوحة بين المجموعات ضمن كافة المربعات حتى لو توغل العدو ضمنها فذلك لا يعني سقوط المجموعة، بل تواصل نشاطها من مربعات مجاورة.
4- القدرة على التسلل الإنفرادي حتى مسافة صفر من الهدف.
5- الروح المعنوية العاليه للمقاومين فهم أبناء المنطقة يعرفون بعضهم البعض، وعلى دراية تامة بطبيعة أرضهم، قد لعبوا في أزقتها، وكبروا في أحيائها فأدركوا سجنهم الكبير وعلموا أن لا خيار لديهم سوى الإستبسال في الميدان.
6- إستخدام الإعلام العسكري على أوسع نطاق في إطار الحرب الإعلامية والتأثير السيكولوجي على مجتمعات المستوطنين.
7- مصانع الأسلحة والذخيرة التي أنشأتها تحت الأنفاق تعزز من قدراتها على الصمود وبالتالي إطالة أمد الحرب، فأنتجت القناصات وأسلحة م/د وقذائفها والهواوين بمختلف عياراتهم والصواريخ على أنواعها..
إذاً لماذا نصح “البنتاغون” العدو بسيناريو الموصل وليس الفلوجة؟ وهل في التاريخ الحديث ما يشبه التكتيك القتالي ل”غزة” وصمودها؟
لكي نعلم لماذا “معركة الموصل” لا بد من أن نعرج على ما حصل مع الجيش الأمريكى في “معركة الفلوجة 2” عام 2004، إعتمد المقاتلون في المدينة على تكتيك “قتال العصابات” بعد بناء دفاعات معقدة في جميع أنحاء المدينة مستفيدين من تعاطف السكان معهم. لم يستطع الأمريكيون فهم التكتيك وأدى هذا إلى إعتماد القصف العشوائي للمنازل، أسفر عن مقتل عدد كبير من المدنيين، وإرباك في صفوف قوات التحالف التي استغرقت 6 أسابيع للسيطرة على الفلوجة. أما “معركة الموصل عام 2016” فقد قام “مسلحي تنظيم الدولة الإسلامي” بعد إحتلال الموصل ببناء الأنفاق (انفاق عادية لا تقارن بانفاق غزة) في جميع أنحاء المدينة، معتمدين على التكتيك ذاته، لم يتعاطف المدنيون مع “داعش” وجرى إخلاء معظم السكان، وكنتيجة لإستخلاص العبر من “معركة الفلوجة2”، إستعاد الجيش العراقي المدينة من قبضة مسلحي “داعش” واستغرقت عملية الإستعادة 9 أشهر من القتال داخل المدينة وقد اعتمدت القوات المهاجمة بشكل أكبر على تكتيك “قوات العمليات الخاصة” بإشراف أمريكي، فكان القتال صعباً، لكن بخسائر في المدنيين أقل.
قد يكون هناك تشابه في التكتيك القتالي للمقاومين في غزة مع المقاتلين الفيتناميين من حيث مبدأ إستخدام الأنفاق, أو القليل من التشابه مع تكتيك المقاتلين بمعركة الفلوجة 2 في اعتماد مبدأ “القتال بمجموعات صغيرة في الأماكن المأهولة” لكن مع دقة فائقة في التنظيم واختلاف في النمط القتالي لكتائب القسام والفصائل، الذين اعتمدو نموذجاً خاصاً للقتال في هكذا أماكن، متماهين مع الأرض ظاهرها وباطنها بإندماج كلي، فغدت استراتيجية صمودهم، خاضوا من خلالها معارك ضارية أنهكت العدو واستنزفته. فكانت الأقرب إلى معركة ستالينغراد في صمودها مع تشابه في بانوراما المدينتين قبل وبعد الحرب.
الآن وبعد 90 يوماً من حربه على غزة يعود العدو للنصيحة الإستراتيجية الأمريكية ويعلن عن التحضير للمرحلة الثالثة، فيما وصفها مراقبون “هروب من الهزيمة”. فهل بدأ مرحلته هذه من الضاحية الجنوبية بإغتيال صالح العاروري القيادي في حركة حماس؟ أم هو هروب إلى لبنان من دون إشهار هزيمته في غزة على يد مقاومين كان باطن الأرض سلاحهم الإستراتيجي؟