راغدة عسيران
منذ بداية العدوان الهمجي الصهيوني على قطاع غزة الذي تحوّل الى حرب إبادة جماعية، انطلقت المظاهرات في عواصم ومدن عدة في العالم، استنكارا للعدوان وتأييدا للشعب الفلسطيني الصابر والمقاوم. تُعدّ المظاهرات أو المسيرات الشعبية تعبيرا عن الغضب والأسى بالوقت ذاته، وعن التضامن مع الضحية الفلسطينية ومع المقاومة. فهي بالتالي رسالة الى الحكام أولا والى العالم و”المجتمع الدولي” المشارك في العدوان ثانيا، وآلة ضغط على كل من يشارك بطريقة ما في المذبحة.
ما الذي يميّز المظاهرات في الدول العربية والإسلامية عن تلك التي انطلقت في العواصم والمدن الغربية والعالمية ؟
الناس في الشوارع والهتاف للمقاومة
منذ اليوم الأول من معركة “طوفان الأقصى”، نزلت الناس الى الشوارع تهتف للمقاومة وللعملية التي نفذتها المقاومة في يوم 7 أكتوبر 2023 في “غلاف غزة”، وتتابع أخبارها ساعة بساعة، في بعض الدول العربية والإسلامية في حين كانت الدول الغربية (الولايات المتحدة والدول الأوروبية) تعيش حالة صدمة معتبرة أنها تلقّت ضربة مزعزعة لأمنها.
كانت أغلب المظاهرات التي انطلقت في الدول العربية والإسلامية داعمة للشعب الفلسطيني ولمقاومته، ورافضة لحرب الإبادة الصهيو-أميركية والغربية، والمثال الأبرز هو المظاهرات في الأردن التي استجابت لنداء المقاومة للخروج الى الشوارع.
لم تكتف معظم المظاهرات بتأييد الشعب الفلسطيني والمقاومة وبالتنديد بالمجازر التي يرتكبها الجيش الصهيوني، بل وسّعت شعاراتها ومطالبها، مثل الأردن (إلغاء اتفاقية وادي عربة، إزالة القواعد الأميركية في البلاد)، والمغرب (إلغاء التطبيع)، وتونس (تجريم التطبيع)، وتركيا (إزالة القاعدة العسكرية الأميركية من البلاد)، والبحرين (إلغاء التطبيع)، في حين كانت معظم المظاهرات تندّد بالمشاركة الأميركية خاصة والغربية عموما في حرب الإبادة (باكستان، ماليزيا، لبنان وغيرها من الدول).
احتشدت الجماهير (بضعة مئات أحيانا) أمام السفارات الغربية المشاركة في العدوان: في الأردن، أمام السفارة الأميركية في عمان، رغم الحظر الرسمي وحماية ذلك الوكر التجسسي من قبل الأمن الأردني. في لبنان، أمام السفارتين الأميركية والفرنسية، في بداية العدوان الصهيوني، لكنها لم تستمر بسبب القمع والمنع، من ناحية، وانقسام الشارع حيال المصالح الغربية في هذا البلد، من ناحية أخرى. في تركيا، احتشدت الجماهير أمام القاعدة العسكرية الأميركية وحاولت اقتحامها، مطالبة بإزالتها عن الأراضي التركية. في ماليزيا، احتشدت الجماهير أمام السفارة الأميركية وحاول البعض اقتحامها، فتدخّل الأمن الماليزي لحماية السفارة.
لم تستمر المسيرات المؤيدة لفلسطين وشعبها ومقاومتها (أسبوعيا على الأقل) إلا في الأردن واليمن، لكن خرجت الجماهير بمسيرات حاشدة مرة واحدة أو أكثر: المغرب (مئات الألوف في الرباط)، العراق، ايران، الجزائر، مصر، باكستان، ماليزيا، أول يوم العدوان، وحين تم قصف مستشفى المعمداني، وفي يوم التضامن العالمي مع فلسطين. كما خرجت مظاهرات عدة، في مدن مختلفة، تندّد بالمجازر وحرب الإبادة وتعلن تأييدها لفلسطين ومقاومتها (تونس، تركيا)، لكنها لم تكن مركزية ولا حاشدة.
رُفعت شعارات مختلفة في المظاهرات في الدول العربية والإسلامية، أولها التنديد بحرب الإبادة والمطالبة بالوقف الفوري للعدوان، ثم التنديد بالموقف الغربي، وخاصة الأميركي المؤيد للعدوان والمشارك فيه (ماليزيا، الجزائر، تونس حيث طالب المشاركون بطرد السفير الفرنسي، المغرب)، ثم المطالبة بإخلاء القواعد العسكرية الأميركية (العراق، الأردن، تركيا حيث توجد قاعدة إنجرليك العسكرية الأمريكية في ولاية أضنة)، وقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني (الأردن، تركيا، المغرب والبحرين) وتجريم التطبيع (تونس، العراق وموريتانيا). لم تطالب الوقفات الشعبية الداعمة لفلسطين في قطر بإزالة القواعد العسكرية الأميركية من البلاد.
رغم قلة المظاهرات المركزية الحاشدة، أقامت الجمعيات والأحزاب في بعض الدول العربية والإسلامية وقفات أو مسيرات احتجاجية أسبوعية أو أقل، لفئات مهنية معيّنة (الأطباء، الصحافيين، المحامين، طلاب وأطفال،) للمطالبة بوقف العدوان واحترام القانون الدولي الإنساني، والمطالبة بإدخال المساعدات الى قطاع غزة (مصر، الأردن ولبنان) أو مسيرات مميّزة (باكستان مسيرة درّاجات نارية)
الى جانب المظاهرات المركزية والمناطقية، سارعت القوى المجتمعية (نقابات وجمعيات) الى عقد لقاءات تنسيقية من أجل تقديم المساعدات الى الفلسطينيين في قطاع غزة، أي انتقل الضغط الشعبي على الحكومات من خلال المسيرات من أجل كسر الحصار العربي على المقاومة الى تنظيم إدخال المساعدات الى قطاع غزة، وانتقلت المطالب السياسية الى مطالب إنسانية (مصر خاصة). ولكن، يبقى السؤال: هل دخلت المساعدات بشكل كاف، في ظل تحكّم العدو بدخولها؟..
حملة المقاطعة
استبدلت جماهيرالأمة المسيرات المندّدة بالعدوان وبمشاركة الدول الغربية فيه بحملة مقاطعة واسعة للشركات الغربية الداعمة لكيان العدو، لاعتقادها أن هذه المشاركة الواسعة أكثر فعالية من المسيرات، لأنها تمس اقتصاد الدول الغربية (مصر، الأردن الى جانب المسيرة المركزية الأسبوعية) من ناحية، ولأنها أرادت من ناحية أخرى تتجنّب مواجهة السلطات وأجهزة أمنها، دون الاعتبار أن السلطات العربية مشاركة عموما بالحصار على فلسطين والمقاومة، وأنها غير مستعدة للتحرر من القرار الأمريكي.
اصطدمت المسيرات الشعبية في عدة دول عربية وإسلامية بقوات الأمن التي اعتقلت العديد من المشاركين (مصر)، وبخاصة عند اقترابها من السفارة الأميركية (الأردن، لبنان) وأمام القواعد العسكرية (تركيا).
خصوصية بعض التحركات الشعبية في الدول العربية والإسلامية :
- لم تكن التحركات الشعبية في دول “محور المقاومة” على ذات المستوى: تشارك الحكومة اليمنية في معركة “طوفان الأقصى” وتشارك الجماهير اليمنية في المسيرات المليونية دعما للمقاومة.
- في لبنان، تشارك المقاومة الإسلامية (حزب الله أساسا وقوات الفجر وغيرها من القوى اللبنانية والفلسطينية) في المعركة، في حين تبدو المظاهرات الشعبية قليلة، وشعاراتها متباينة وفقا لتباين القوى والأحزاب، وتتراوح التحركات الشعبية الداعمة للمقاومة بين المشاركة الشعبية في تشييع الشهداء وبين الوقفات الرمزية الشبه يومية من الشمال الى الجنوب الداعمة للمقاومة والمندّدة بالعدوان.
- تنطلق الجماهير الإيرانية في مسيرات تجوب الشوارع في عدة مدن من البلاد، بين الحين والآخر، وخاصة إيام الجمعة.
- في العراق، حيث تشارك المقاومة الإسلامية في معركة “طوفان الأقصى” بضرب القواعد العسكرية الأميركية، لم تخرج مظاهرات حاشدة الى الشوارع بعد الإيام الأولى للعدوان، لكن انتقلت الشعارات الى البرلمان العراقي الذي دعا الحكومة، مجدداً لإزالة القواعد الأميركية من البلاد.
- شاركت الجماهير السورية في المسيرات والوقفات الشعبية في بعض المناطق، دعما للمقاومة، في بداية المعركة.
في الدول العربية والإسلامية الأخرى
- مصر: تزامنت الانتخابات الرئاسية المصرية مع بداية العدوان، وبسبب الدور المصري في معبر رفح، ومكانتها في الترتيبات التصفوية الأميركية- الصهيونية للقضية الفلسطينية، تأثرت الاحتجاجات الشعبية وشعاراتها بالوضع الداخلي. قمعت السلطات المصرية المسيرة المركزية التي خرجت في القاهرة، تأييدا للمقاومة وفلسطين، وحاولت تحويلها الى مظاهرة تأييد للرئيس السيسي برفع شعارات مثل “التفويض”. لم تستمر الوقفة الاحتجاجية أمام معبر رفح والمطالبة بفتحه الدائم أمام أهل القطاع، حيث تم قمعها وطردها من المكان منذ الإيام الأولى للعدوان. لكن استمرت المظاهرات والوقفات الاحتجاجية ضد العدوان داخل الجامعات، وخاصة الأزهر.
- الأردن: لا شك أن الأجواء الشعبية مسانِدة لفلسطين ومقاومتها، كما عبّرت عنها المسيرات الأسبوعية الشعبية في أنحاء البلاد والعديد من المبادرات الشعبية. وحاول المئات من الجماهير التوجه الى الحدود مع فلسطين المحتلة، في بداية العدوان، فتصدّت لهم القوى الأمنية الأردنية وأبعدتهم الى الوراء. تعيش البلاد في حالة ترقب وتوتر بسبب الغضب الشعبي من جهة، ومأزق السلطات الواقعة بين الضغط الأميركي والغربي من جهة وبين الضغط الشعبي من جهة أخرى.
- السنغال: يعتبر هذا البلد الإفريقي الإسلامي، الذي كان دوما مناصرا لفلسطين، شعبيا وحكوميا، مثالا للدول التي تعيش أزمة سياسية خانقة، حيث لم تخرج جماهيرها الى مسيرة مؤيدة لفلسطين إلا في يوم التضامن العالمي (29 نوفمبر)، ومن خلال المئات من طلاب الجامعات فقط، وذلك بعد سنتين من المسيرات الصاخبة التي خرجت خلال “معركة سيف القدس”.
بين “سيف القدس” و”طوفان الأقصى”
مقارنةً مع المسيرات والمظاهرات الشعبية التي انطلقت في العالم دعما للمقاومة الفلسطينية ورفضا للعدوان الصهيوني في أيار / مايو 2021 خلال معركة “سيف القدس”، يمكن ملاحظة التالي:
أولا: انطلقت المسيرات الداعمة لفلسطين ومقاومتها بعد عدة أشهر من الاعتداءات الصهيونية الفاضحة على القدس والمسجد الأقصى، وخاصة خلال شهر رمضان المبارك، وأمام العالم كله، والتي تسببت بإطلاق معركة “سيف القدس”. لم تكن الدول الغربية متواطئة كليا، مع العدوان الصهيوني كما هي اليوم.
في الدول العربية والإسلامية، رحّبت الجماهير بالمقاومة، التي توحّدت ووحّدت الشعب الفلسطيني كله، على كل أراضيه، من النهر الى البحر. ولم تمنع حكومات هذه الدول التضامن الشعبي مع المقدسات والمقاومة. فلم تطرح في المسيرات شعارات مندّدة بالتواطؤ الغربي والأمريكي مع كيان العدو وعدوانه، بل كانت موجّهة ضد كيان العدو والأنظمة المطبّعة معه.
رغم أنه يمكن اعتبارمعركة “طوفان الأقصى” معركة دفاعية ردا على جرائم العدو المستمرة ضد القدس والضفة الغربية والأسرى، بعد استلام الحكم في الكيان الصهيوني من قبل الفئات الأكثر همجية وإرهابية في العالم، أثارت هذه المعركة الهجومية الفريدة من نوعها موجة كراهية غربية وبمستوى أقل، عالمية، ضد المقاومة الفلسطينية، بسبب الدعاية الصهيو-أميركية الكاذبة، وبسبب تأثيراتها على معنويات الشعوب المقهورة في العالم. لم تتأثر شعوب الأمة بالاكاذيب الصهيو-أميركية حول معركة “طوفان الأقصى”، فاعتبرت أن المقاومة انتصرت رغم كل ما فعله ويفعله الإرهاب الصهيو-أميركي، وبقيت صورة العبور التاريخي ماثلة أمامها، لكن مارست القوى الغربية ضغطا معنويا وسياسيا، كبيرا جدا على الأنظمة العربية والإسلامية ونخبها المتنفذة، وخاصة على تلك التي تتنفس وفقا لاملاءات الغرب، لمنع أي تحرك “غير اعتيادي” ضد المصالح الغربية.
ثانيا: لم تكن شعوب الأمة مستعدة لتلك المعركة الفذة والجريئة، حيث تم العبور الى المناطق المحتلة عام 1948 وتدمير القوة الصهيونية في “غلاف غزة” وخطف الصهاينة لاستبدالهم بالأسرى. وهي العملية الأولى من نوعها منذ احتلال فلسطين وصعود المقاومة الفلسطينية. ورغم الترحيب الواسع من قبل شعوب الأمة لهذه العملية، لم تستوعب بعد كافة جوانبها. فوجب على الحركات السياسية وإعلامها توضيح هدفها وأهميتها، ومحاربة الرواية الكاذبة الغربية بفضحها وتوضيح مكانة الكيان الصهيوني في المنظومة الدولية الحاكمة اليوم، ودور شعوب الأمة في المعركة، انطلاقا من أن القضية الفلسطينية قضية مركزية للأمة، والنضال من أجل فلسطين يعني التخلص من الهيمنة الغربية والتجزئة الاستعمارية لبلادنا.
لقد شاركت الجاليات العربية والإسلامية، المتواجدة في الدول الغربية، في أنشطة مختلفة، كالمشاركة في المظاهرات والوقفات المندّدة بالعدوان الصهيو-أميركي، والداعمة لتحرير فلسطين، وأقامت ندوات وجلسات نقاش في الأوساط الأكاديمية، كمساهمة منها لكسر الطوق الغربي على الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة.
الانتقال من التضامن الى المشاركة
في الخلاصة، بعض الأسئلة: تشكل المظاهرات الشعبية إحدى أهم أشكال المشاركة في المعركة، لأنها مرئية وضاغطة على الرأي العام العالمي ولأنها تظهر الغضب والالتفاف الشعبي الواسع حول فلسطين، إضافة الى أنها وسيلة لترسيخ الوعي، خاصة لدى الأجيال الشابة، بالقضية الفلسطينية عموما.
لكن هل هي الوسيلة الوحيدة اليوم للتعبير عن التأييد للمقاومة؟ وما هي آليات العمل من أجل ترسيخ الوعي جماهيريا والانتقال من رفض العدوان الى المشاركة في المقاومة؟ كيف يمكن تجاوز التضامن مع الضحايا في فلسطين والانتقال الى المشاركة الفاعلة في هذه المعركة المفصلية؟
تشارك اليوم الولايات المتحدة والدول الغربية عامة بشكل واضح في العدوان الهمجي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وفي الوقت ذاته، تستبيح معظم الدول العربية والإسلامية بجيوشها وقواعدها وجواسيسها وشركاتها ومراكزها الثقافية والإعلامية. هل ستتمكن شعوب الأمة وقواها السياسية من التقاط هذا الحدث العظيم الذي شكلته معركة طوفان الأقصى، للقضاء على عناوين الهيمنة والذل؟ نظرا الى أن لشعوب الأمة تاريخ طويل في مقارعة الغزو الاستعماري في بلادها والمشاركة في مقاومة العدو الصهيوني الى جانب المقاومة الفلسطينية.
المصدر
الكاتب:وكالة شمس نيوز الإخبارية – Shms News || آخر أخبار فلسطين
الموقع : shms.ps
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2023-12-13 11:59:00
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي