وبينما كانت الأنظار متجهة إلى لندن بعد السجال الذي فجرته وزيرة الداخلية سويلا برافرمان ضد التظاهرة ورفض الشرطة التجاوب مع مقترحاتها بمنعها، كانت بروكسل على موعد مع مسيرة جديدة بعد أن سبقتها عواصم عدة في الأيام الماضية، بينها باريس وروما، إلى جانب التحركات المستمرة في الولايات المتحدة.
وباتت التظاهرات والفعاليات التضامنية مع فلسطين تشكل تحدياً حقيقياً لحكومات غربية على ضفتي الأطلسي، الأميركية والأوروبية.
ويثبت اتساع العمل التضامني ورفض جرائم الحرب والإبادة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية، أن ما يشبه تمرداً شعبياً عالمياً بات يتشكل في وجه السياسات الرسمية لبعض الحكومات الغربية، التي اندفعت، بصورة تبدو اليوم غير محسوبة، لتأييد دولة الاحتلال، خصوصاً مع الخشية من أن تجرى ملاحقة بعضها قانونياً، تحت بند المشاركة في جرائم حرب محتملة، بسبب دعمها الاحتلال ببعض التقنيات العسكرية.
وتشير المديات المتوسعة من التضامن الأوروبي مع فلسطين إلى ذلك التمرد الشبابي الغربي الرافض للسردية الرسمية والإسرائيلية في اعتبار أن التعاطف مع الضحايا الفلسطينيين نوع من “دعم الإرهاب”، وعدم قبولهم رواية “حق الدفاع عن النفس”.
اتساع التضامن مع فلسطين في أميركا
وحتى البيت الأبيض، الذي أعلن رئيسه جو بايدن دعمه المطلق لجيش الاحتلال في جرائمه ضد غزة، يجد نفسه في مأزق أمام اتساع هذا التضامن مع فلسطين.
ويعد الحصار الذي فرضه شباب أميركيون على سفينة محملة بمعدات عسكرية لدولة الاحتلال في ميناء مدينة تاكوما، حيث قيدوا أنفسهم بالسلاسل في السفينة كيب أورلاندو، مجرد رأس جبل جليد حالة الوعي الشبابي الغربي بشأن فلسطين، والدور الغربي الذي يغطي سياسياً ما يصفونه بجرائم حرب وإبادة بحق الفلسطينيين، مع تزايد أعداد الشهداء من الأطفال والنساء ومشاهد التدمير الهائلة في غزة.
ومن الواضح أن التصريحات المليئة بعنجهية القوة وطلب إبادة سكان غزة، وإطلاع الأجيال الشابة بسرعة على تصريحات ساسة وقادة جيش الاحتلال العنصرية بشأن الضحايا الفلسطينيين، تساهم مع غيرها في رفع مستوى التضامن ورفض الانحياز الأعمى لإسرائيل.
وعلى عكس الساعات الأولى لـ”طوفان الأقصى” التي تجند فيها بعض الرسميين الغربيين وراء الرواية الإسرائيلية، والتي أرادت تل أبيب إظهار أنها حصلت على ضوء أخضر للمباشرة بحرب إبادة، فإنه يبدو أن كل ذلك آخذ في التآكل مع الوقت.
فالوجه الآخر للسياسات الرسمية لبعض الدول الأوروبية هو ذلك المعبر عنه في الشوارع بصورة غيرمسبوقة منذ حربي أميركا، في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن بين 2001 و2004.
موجات التضامن، وخصوصاً في الغرب، تتخذ أهمية خاصة لدى الجيل الشاب الذي بدا أكثر اختلافاً عن الجيل الذي سبقه في قضايا الانخراط الأعمى لساستهم في حروب مدمرة.
بل إن تحركات ميناء تاكوما الأميركي أبرزت وعياً خاصاً لدى السكان الأصليين من قبيلة “بويالوب”، الذين حاصروا وعرقلوا عمل السفينة الأميركية. ونقلت وسائل إعلام أميركية عن الناشطة من السكان الأصليين باتريشيا غونزاليس، المشاركة في قوارب محاصرة الميناء الأميركي، قولها، أخيراً، إن تعلق السكان الأصليين بتاريخ فلسطين “هو لأنه مليء بالعنف والتهجير الذي عانينا منه كمحاولات تطهير عرقي وإبادة ثقافية على مدى 150 سنة”.
كما أن استقالة عدد من الموظفين احتجاجاً على أصحاب الأعمال الذين يدعمون المجازر الإسرائيلية في غزة، مثل ما حصل مع مقهى “Caffe Aronne” في نيويورك، أخيراً، مجرد مثال صغير على حالة التململ الشعبي من السياسات الرسمية للبيت الأبيض.
تزايد الانقسام بين يهود أميركا
بل إن الصورة الأميركية أعمق بكثير من مجرد تحركات فردية. لقد قدمت الحرب على غزة فرصة أخرى لظهور اليهود الأميركيين أكثر انقساماً حيال دعم دولة الاحتلال. فعشرات آلاف اليهود الأميركيين ضد الصهيونية باتوا اليوم أكثر جرأة برفض الإبادة في فلسطين باسمهم.
ويشكل احتلال ردهة الكونغرس الأميركي عدة ساعات، بعد مجزرة المستشفى الأهلي المعمداني أواخر الشهر الماضي، وتحركهم أمام نصب تمثال الحرية الثلاثاء الماضي، وتجمع مئات اليهود في ردهة محطة “غراند سنترال” في نيويورك احتجاجاً على عمليات القتل، مؤشراً على رفض سردية اتهام التحركات التضامنية بمعاداة اليهود والسامية.
ولعل هذه المشاركة الشبابية اليهودية هي الأكثر إيلاماً لأمثال بنيامين نتنياهو والمتطرفين في إسرائيل، إذ إن جماعة “الصوت اليهودي من أجل السلم” تعتبر أنه من المهين جداً استغلال إسرائيل اضطهادَ اليهود الأوروبيين من أجل تبرير جرائم الحرب في فلسطين.
ويعتبر شباب يهود أوروبا أن لا شأن للفلسطينيين بالمحرقة النازية ليدفعوا هذا الثمن باسم اليهود. ويشارك بصورة واضحة يهود أوروبا الشباب في الفعاليات في مختلف الساحات، وبعضهم يتصدر وسائل الإعلام، ما يشكل ضربة موجعة للوبيات الصهيونية ومؤيدي دولة الاحتلال في القارة الأوروبية، التي تقف اليوم على مفترق طرق جدي حيال ورطة تأييدها لما يسمى “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس” واستخدام الاحتلال ذلك الشعار من أجل ارتكاب المزيد من جرائم الحرب.
رفض نقل الأسلحة لدولة الاحتلال
حركة التضامن مع الفلسطينيين في أوروبا ليست مجرد خروج الناس الى الشوارع. ففي بلجيكا، التي تضم عاصمتها بروكسل مقار الاتحاد الأوروبي، يقوم عمال النقل بحركة تمرد جدي برفض نقل الأسلحة المتجهة إلى دولة الاحتلال، بحسب ما ذكرت الصحف، بينها “Peoples World” الإلكترونية. وأصدرت خمس نقابات لعمال النقل بياناً مشتركاً، أخيراً، ضد “الإبادة الجماعية التي تحدث في فلسطين”.
على نفس المستوى، يواصل 1200 من عمال موانئ برشلونة الإسبانية رفض تحميل الأسلحة إلى إسرائيل، و”السماح المنظم بقتل الأبرياء”، كما جاء في بيان لنقابات العمال. وبحسب صحيفة “إلدياريو”، فإن “العمال تعهدوا بعدم تحميل أو تفريغ أو تسهيل مهام أي قارب يحتوي على أسلحة”.
ومع أن مواقف حكومة مدريد كانت أقل تورطاً في دعم الاحتلال، إلا أن تلك المواقف تشكل ضغطاً إضافياً من أجل وقف تصدير ما قيمته 315 مليون يورو من الأسلحة إلى دولة الاحتلال سنوياً.
الأمر ذاته، ينطبق على اليونان، حيث نظمت جبهة العمل (PAME) احتجاجاً في مطار أثينا تضامناً مع فلسطين، مطالبة الحكومة بوقف كافة أشكال التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري مع إسرائيل.
وفي بريطانيا اغلق نشطاء من منظمة العمل الفلسطيني، في 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مدخل المقر الرئيسي لشركة الأسلحة “إلبيت سيستمز” في بريستول، التي تنتج قطع غيار للطائرات من دون طيار الإسرائيلية.
وفي أستراليا، عرقل ناشطون عمل شركة الشحن الإسرائيلية “Zim Lines” في سيدني. والناشطون جزء من شبكة دولية تسمى “#BlockTheBoat”. وتعد “Zim Line” من بين أفضل 20 شركة شحن كبرى في جميع أنحاء العالم، وتستخدم الموانئ في جميع أنحاء أستراليا. وذكرت وسائل إعلام أسترالية أنه من المقرر تنظيم تظاهرات وحواجز في عدة مدن. وتأتي هذه الإجراءات بعد أن دعت الحركة النقابية الفلسطينية، في 16 أكتوبر الماضي، النقابات العمالية الدولية إلى وقف تجارة الأسلحة بين أوروبا وإسرائيل.
كل ذلك يأتي بالتزامن مع توسع التظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية في المدن الغربية، التي تعيش على وقع تراجع ولو متدرج على المستويات الرسمية في تأييد دولة الاحتلال.
تحدي رفع العلم الفلسطيني
ومع أن تلك الحكومات كانت وصلت الى حد حظر العلم الفلسطيني ومحاصرة الشارع بتضييقات كثيرة ومعقدة للسماح بخروج تظاهرات، فإن مشاركة المزيد من المواطنين في عملية الاحتجاج على إسرائيل باتت تفقد السلطات السياسية والأمنية القدرة على منع خروج مئات آلالاف إلى الشوارع، رافعين بتحدٍ العلم الذي أرادوا حظره، بل ويهتفون معاندين السلطات، مثل ما يحدث في ألمانيا وبريطانيا، بالحرية لفلسطين من البحر إلى النهر، وهو الشعار الذي تعتبره اللوبيات الصهيونية ينسف وجود دولة الاحتلال.
فبريطانيا، التي انحازت للاحتلال على المستوى الرسمي، لا تشهد فقط خروج مئات الالاف الى الشوارع بل إن نحو ألفي شخص من تجمع “فنانين من أجل فلسطين”، بينهم ممثلون مشهورون مثل تيلدا سوينتون وتشارلز دانس، وقعوا على بيان يطالب بـ”وقف فوري لإطلاق النار”.
ويضاف إلى هذا موقف نقابة النقل البريطانية الكبرى “RMT” التي وجهت تحية تضامن لغزة، بقول رئيس النقابة أليكس جوردن، أخيراً، إن النقابات العمالية يجب أن تكون ظاهرة وأن يكون لديها صوت عالٍ. كما عبر اتحادات الجامعات والكليات (UCU) عن دعمه لمقاطعة اسرائيل وتوسيع الاحتجاجات محلياً. وينتقد هؤلاء صمت الحكومة على جرائم الاحتلال ودعم إسرائيل بصورة مطلقة، معتبرين أن النقابات في قلب معركة متواصلة و”العمل ضد الإمبريالية والنضال من أجل فلسطين يقعان في قلب عمل الحركة العمالية”.
إلى جانب ذلك، يرفع الأعضاء الأيرلنديون في برلمان الاتحاد الأوروبي أصواتهم، بما في ذلك مايك والاس من حزب “المستقلون من أجل التغيير”، الذي انتقد مراراً وتكراراً “الموقف التحيزي للاتحاد الأوروبي ونفاقه في دعم الفصل العنصري في إسرائيل”.
بالطبع، لا يمكن أيضاً إغفال تأثير انحياز أصوات مؤثرة أوروبياً على المشهد العام الرافض للاحتلال وفي هذا الاتجاه، حظي موقف الناشطة الشابة السويدية غريتا تونبرغ بكثير من المتابعة على مستوى ناشطي البيئة والمناخ، إلى حد أن دولة الاحتلال اعتبرتها شخصية غير مرغوب فيها ويمنع أن تزور إسرائيل. وظهرت غريتا في صورة، الشهر الماضي، وهي تحمل لافتة كتب عليها “تضامن مع غزة”.
وفي 6 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، احتل طلاب إيطاليون الجامعة الشرقية في نابولي، مطالبين الجامعة بقطع كافة علاقاتها مع الجامعات في إسرائيل، بحسب الموقع الأميركي “بيبولز ديسباتش”.
تضامن فرق رياضية مع غزة
أيضاً على المستوى الرياضي، يبدو أن التضامن مع فلسطين يسير بتصاعد ملحوظ، رغم كل المعوقات ومحاولات إسكات الأصوات. وقد برز في السياق رفع الآلاف من مشجعي فريق “سلتيك” الاسكتلندي، خلال مباراة ضد “أتلتيكو مدريد” الأسبوع الماضي، الأعلام الفلسطينية في المدرجات. ولم يثنهم عن رفع علم فلسطين قرار إدارة النادي تغريم المشجعين وطرد نحو 300 منهم من المباريات المقبلة بسبب الإصرار على نشاطهم الداعم لفلسطين، موجهين رسائل قاسية للطبقة السياسية. ويعرف عن نادي “سلتيك” تمويله نادي كرة قدم في مخيم عايدة ببيت لحم.
وكان لاعبو فريق “إيسهوي” (Eshay) الدنماركي لكرة القدم ارتدوا، أثناء مباراة ضد فريق “إيه غي إف” (AGF)، في 2 نوفمبر الحالي، قمصاناً سوداء، عليها رسالة “أوقفوا المذبحة في غزة”، معبرين عن “الدعم غير المشروط للأبرياء الذين قتلوا في غزة”. وينتقد الفريق ما سماه “المعايير المزدوجة الصارخة في انتقاد التضامن مع غزة، بينما قامت الأندية الدنماركية سابقاً بتحية أوكرانيا ورفع علمها على صدور لاعبيها”.
ليس فقط في الدنمارك يسري شعور الحرج من التضامن الشعبي مع فلسطين وافتراقه عن المواقف الرسمية، بل يمتد الأمر إلى دول أخرى في القارة الأوروبية، التي تعيش توسعاً غير مسبوق منذ عقود على مستوى الوعي بقضية الشعب الفلسطيني، وتحركات تبدو مؤثرة على مستوى التغطية الإعلامية ومؤازرة لمواقف أحزاب سياسية وقوى برلمانية، من أجل مزيد من تغيير المواقف السياسية والنزول عن الأشجار العالية التي صعدت إليها بعض الحكومات الغربية.
- العربي الجديد
انتهى
المصدر
الكاتب:Sabokrohh
الموقع : ar.shafaqna.com
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2023-11-12 08:27:57
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي