ماذا عن الخصخصة ودورها في إخراج “لبنان” من أزمته الاقتصادية؟


الكاتب : عباس قبيسي
المصدر موقع الاقتصاد والاعمال
awalan.com


يقول غاندي في كتابه” اللاعنف أقوى الأسلحة ” إن “النزاع المسلّح بين الأمم يثير الرعب في نفوسنا، لكن الحرب الاقتصادية ليست أفضل على الإطلاق من النزاع المسلح، الأمر أشبه بعملية جراحية، فالحرب الاقتصادية عذاب استنزافي، لا تقل أضراره فظاعةً عن تلك التي ترصد في الثقافة الحربية بمعناها الحرفي، ونحن لا نكترث بشأن تلك الحروب إذ إنّنا ألفنا عواقبها القاتلة”. ويضيف: “من الصائب أن تنشأ حركات مناهضة للحرب، وأنا أصلي لنجاح مثل تلك الحركات، لكني لا أستطيع أن أضع حداً للتخوف القارص من إخفاقها في استئصال الطمع البشري: أصل البلاء كله.”

 

الخصخصة في القانون اللبناني

 

يشكّل الطمع البشري الذي تكلم عنه غاندي الدافع للأفراد أو الشركات للسعي إلى الحصول على المزيد من الأرباح من خلال الخصخصة، التي بدأت تعود إلى الواجهة مجدداً في لبنان باعتبارها حلاً للأزمة الاقتصادية المتفشية منذ سنوات، وقد تردد الحديث عنها في معظم المشاورات التي جرت وتجري بين لبنان وصندوق النقد الدولي، وهذا ما دفع الخبراء إلى البحث في مفهومها وما إذا كانت الحل الأمثل للأزمة اللبنانية.

بداية، يمكن تلخيص تعريف الخبراء والباحثين للخصخصة بأنها عملية نقل الملكية من القطاع العام إلى ملكية خاصة أو إلى القطاع الخاص، وأحياناً نقل إدارة مرفأ عام من الدولة إلى القطاع الخاص. وإذا كان هذا التعريف يأتي على النقيض من التأميم أي ملكية الدولة لمختلف القطاعات، فإن القانون اللبناني لحظ موضوع الخصخصة وأولاه اهتماماً خاصاً، إذ اعتبر القانون الرقم 228 الصادر في 31 أيار/مايو 2000 “أن الخصخصة هي جزء لا يتجزأ من الإصلاحات التي تقوم بها الحكومة على صعيد المالية العامة وإعادة هيكلة القطاع العام، وبحسب القانون المذكور فإنها (أي الخصخصة)، ليست علاجاً عاماً في حد ذاتها بل جزء من برنامج الحكومة الاقتصادي الساعي إلى إنشاء حلقة مثمرة تؤدي إلى انخفاض نسبة عجز الموازنة إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهبوط معدلات الفائدة، وارتفاع النمو الاقتصادي. كذلك فهي عملية تعزز خطط الحكومة الرامية إلى إصلاح المؤسسات وإنشاء إطار تنظيمي ورقابي فعال، وتعزيز الكفاءة في مختلف مؤسسات الدولة والقطاع العام”.

وقد حدد القانون المشار اليه أهداف الخصخصة الرئيسية مشيراً إلى انها تتمثل في تحسين فعالية الاقتصاد اللبناني خصوصاً فعالية القطاع العام، وزيادة الاستثمارات الخاصة في لبنان، كتعويض عن نواقص الاستثمارات العامة، واخيراً تخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي.

وللحديث عن الخصخصة لا بدّ من التطرق إلى مفهوم المرفق العام، والذي يمكن الإشارة إلى أنه يستخدم للإشارة إلى الهيئات والمؤسسات الحكومية التي تقدم الخدمات للمواطنين والمجتمع بشكل عام. ويشمل المرفق العام مجموعة واسعة من القطاعات مثل التعليم والصحة والنقل والكهرباء والمياه والاتصالات والأمن والعدل وغيرها من الخدمات الأساسية، وتعتبر المؤسسات الحكومية مسؤولة عن تلبية احتياجات المواطنين وتحقيق المصلحة العامة، حيث تتمتع هذه المؤسسات بصلاحيات قانونية لتنظيم وتقديم الخدمات العامة، وتعتمد على التمويل العام من خلال الموازنات الحكومية والضرائب والرسوم.

ويتميز المرفق العام بـ:

  1. الخدمات الأساسية: يضمن المرفق العام توفير الخدمات الحيوية والأساسية مثل التعليم والصحة والنقل والكهرباء والمياه وغيرها.
  2. الشمولية: يهدف المرفق العام إلى تلبية إحتياجات جميع الأفراد من دون تمييز.
  3.  المصلحة العامة: يعمل المرفق العام على تحقيق المصلحة العامة وتحسين جودة الحياة للمواطنين.
  4.  الشفافية والمساءلة: تعتبر المؤسسات الحكومية مسؤولة أمام المجتمع وتخضع للرقابة والمساءلة العامة.

إذن، ليست الخصخصة بتغيير طارئ على المستوى العالمي، ذلك أنه في العقود الماضية شهدت دولاً عدة تحولاً نحو اقتصاد السوق من خلال نقل ملكية جزء أو كل أصول القطاع العام إلى القطاع الخاص، أو عن طريق إعادة ترتيب أدوار الدولة والقطاع الخاص. ويعزى هذا التحول إلى أهداف عدة، مثل تعزيز كفاءة الأداء الاقتصادي وتقليل عجز الموازنة العامة، وتخفيض الدين العام وتوسيع قاعدة الملكية وتركيز دور الدولة على مهامها الأساسية في المراقبة والتوجيه للاقتصاد الوطني. لكن هل نجحت الخصخصة غربياً؟

لم تكن الخصخصة في الدول الغربية في أبهى صورها، ومن النماذج على ذلك ما صاحب تطبيقها في واحدة من أرقى الديمقراطيات في العالم وهي المملكة المتحدة، الكثير من حالات الفساد على الرغم من الاعتماد على أقوى الأدوات الرقابية والشفافية وتالياً مبدأ الملاحقة القانونية والمحاسبة، وهنا يجب الاعتراف بأن تجربة الخصخصة في تلك الدولة لم تكن ناجحة بالمطلق، إذ فشلت معظم الشركات المخصخصة في تحقيق التحسينات المطلوبة في المرافق العامة، وتقديم خدمات عالية الجودة للمواطنين، بل وبدلاً من ذلك، شهدنا تفاقم الفساد والانتهازية وتجاوز هذه الشركات للقواعد والقوانين المرعية الإجراء، إذ بينت الإحصاءات أن السبب كان ارتفاع معدلات الفائدة التي زادت قيمة الدين في البلدان النامية التي سلكت دروب الخصخصة.

وعلى مستوى الدول العربية، فقد نجحت الخصخصة في دول وفشلت في أخرى، وربما ذلك ما دفع بعض تلك الدول إلى تبني سياسة الشراكة بين القطاعين الخاص والعام كما حدث ويحدث في معظم دول الخليج، إذ تداركت تلك الدول سلبيات الخصخصة فطورتها وحسنتها لتتواءم مع أنظمتها وسياساتها الاقتصادية بطريقة تحد من سلبياتها وتوظيفها للمصلحة العامة من خلال اعتماد قوانين مرنة تراعي بالدرجة الأولى المصلحة العامة ومصلحة المواطنين فيها.

الحالة اللبنانية

 

وبالعودة إلى لبنان، فإن له حالة فريدة في هذا السياق، إذ يمكن القول إن خصخصة بعض المرافق في لبنان فشلت بشكل كارثي، وهنا يمكن الإشارة إلى بعض نماذج الفشل الذي ظهر في “النافعة” وصفقة “إنكربت” ونموذج الاستحواذ على المرفق العام، كذلك فشلت شركات تقديم خدمات الكهرباء فشلاً ذريعاً، حيث كشفت فضيحة الفواتير الفارغة التي تطبع في مطابع خاصة البعيدة عن أعين المراقبة في مؤسسة كهرباء لبنان، الذي ادى الى التلاعب في الفوترة والانتهازية وجني أرباح غير مشروعة في هذا القطاع على حساب المواطن. وفي هذا السياق، يمكن ذكر “المولدات الكهربائية” الخاصة التي لم تقدّم نموذجاً يمكن أن يؤسس عليه للخصخصة. كما أثبتت شركات جمع وكنس النفايات فشلها في إدارة أزمة النفايات المكدسة على جوانب الطرقات وفي الأحياء والأزقة وفي مكبات عشوائية وشركات الاتصالات الخلوية. وليس آخر تلك النماذج ما يتعلق بشركات توزيع الانترنت الخاصة التي تتقاضى رسوماً باهظة تفوق أسعار الخدمات المقدمة بأضعاف من وزارة الاتصالات، والمثير للقلق أن معظم هذه الشركات غير مرخصة، ما يعرض المستخدمين لمخاطر عدة بسبب عدم توفر المعايير والجودة المطلوبة. بدوره قطاع المحروقات يحتكر استيراد المواد النفطية حيث تنعدم المنافسة في تقديم الجودة بسعر تنافسي بين الشركات، ومن الواضح أن هدف هذه الشركات مجتمعة يكون عادةً المدى القصير، مما يجعلها غير مهتمة بالتطوير المستدام للقطاع المخصص على المدى الطويل، بل على العكس، تركز على تحقيق أرباح نفعية سريعة من دون النظر إلى الاستثمارات الجديدة والتطور الفعلي في هذا المجال، يجب إعادة النظر في سياسة خصخصة المرافق الرابحة في لبنان وضمان وجود رقابة فعالة وتنظيم صارم للشركات المخصصة.

تحقيق الفوائد المجتمعية وتلبية احتياجات الناس

 

استناداً إلى ما تقدّم، فإن أي نظام أو سياسة اقتصادية يجب أن تتضمن على رأس أولوياتها الاهتمام بتحقيق الفوائد المجتمعية وتلبية احتياجات الناس بدلاً من الربح السريع، وذلك لتجنب أي سلبيات قد تطرأ خلال تطبيقها. وفي الحالة اللبنانية لا يمكن الحديث عن خصخصة شاملة أو تأميم شامل، وعليه ينبغي على صانعي السياسات الاقتصادية البحث عن أفضل الحلول من أجل تحسين الخدمات العامة وتحقيق مصلحة المواطن وتقديم المصلحة العامة على المصالح الخاصة، وفي هذا خلاف بين وجهتي نظر الأولى تشير إلى ضرورة العمل على تطوير نظام يضمن الشفافية والمساءلة والكفاءة في إدارة المرافق الحيوية العامة والذي يقتضي قيام المسؤولين بتحمل مسؤولياتهم، والعمل على إصلاح النظام وتحسينه، بالتعاون مع المتخصصين في هذا المجال والتعلم من الأخطاء السابقة، ويعلل أصحاب هذه النظرية بأن الخصخصة التي تم تطبيقها حتى في الدول الغربية كانت لها نتائج سلبية كبيرة على اقتصادات تلك الدولة، إذ إن بعض الدول طبقتها من دون رقابة منظمة، ما أدى إلى تقصير الدولة ومؤسساتها في تقديم الرعاية اللازمة لمواطنيها.

دور الدولة وأهميته

 

وفي مقابل هذه النظرية، ثمة من يرى أنه لا يجب على الدول أن تتخلى عن دورها لمصلحة القطاع الخاص، وعليه فإن القطاعات المرشحة للخصخصة يجب أن تنحصر في القطاعات التي تتكبد خسائر مالية فادحة تؤثر على الوضع المالي للدولة. أما بالنسبة لتخصيص القطاعات المنتجة والرابحة التي ترفد خزينة الدولة بالمال، فهذا خطأ استراتيجي قاتل إذ الأجدى أن يتم الحفاظ على تلك القطاعات كمرافق عامة والعمل على تطويرها لتحسين جودة خدماتها. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن تخصيص الاحتكارات التي يمتلكها القطاع العام، حيث يمكن لذلك أن يسمح للقطاع الخاص بتحويل إيرادات القطاع العام إلى حسابه فقط.

ختاماً، فإن العمل المؤسساتي للدولة يجب أن يركز على استعادة ثقة المواطنين في القطاع العام وتحسينه، إذ لا يمكن الاستمرار بالسماح بتدهور الخدمات العامة واهتراء إدارات الدولة من دون البحث عن أفضل السياسات والأنظمة الاقتصادية المتلائمة مع النظام العام، إذ يرى أصحاب وجهة النظر هذه، أن موظفي القطاع العام يملكون ما لا يتوفر لدى نظرائهم في القطاع الخاص، فهم يتمتعون بالوفاء ويعملون من أجل المصلحة العامة بدلاً من مصالح الشركات الخاصة، وبالتالي فإن الإصلاح قد يبدأ من العنصر البشري في القطاع العام والذي يمكن التعويل عليه كعنصر فاعل في تحقيق التنمية المستدامة.

Exit mobile version