جميل مطر
من عاداتي الطيبة الاستيقاظ متفائلاً ومقبلاً على صباح سعيد. كتبت ذات صباح من الأسبوع الماضي متأثراً بهذه الحالة وبتطورات على أرض الواقع ونتيجة مناقشات مع أصحاب رأي أحترمهم، كتبت متطلعاً إلى نهاية قريبة لحرب دائرة بين العالم الغربي وروسيا على أرض أوكرانيا وبشعبها.
كتبت مقالتي والحرب مستعرة والصواريخ والطائرات المُسيّرة تكاد لكثرتها تغطي وجه الشمس. تكاد تخفي في الوقت نفسه مظاهر تعب وإعياء في لغة الأجساد بل وفي لغة الكلمات المتبادلة بين السياسيين المتحاربين. بعد قليل من التأمل نكتشف أن الأمر لا يتوقف عند “أمراء الحرب” المباشرين، بل تمتد الظاهرة لتشمل السياسيين في دول عديدة خارج دائرة الحرب.
أعترف مع كثيرين أن السنوات الأخيرة كانت صعبة ولم ينج من التعرض لآثار صعوباتها إلا القليلين من السياسيين وأصحاب القرار. وحدها كانت جائحة الكورونا سبباً كافياً لإنهاك أفراد النخب السياسية الحاكمة وغير الحاكمة على حد سواء. لكنها لم تأت منفردة. جاءت وفي ركابها، أو سبقتها، تعقيدات أزمة اقتصادية غير منفصلة تماماً عن الأزمة المالية المستحكمة والخانقة التي ضربت الدول وأسواقها في نهاية العقد الأول من القرن الجديد. اجتمعت أزمة الكورونا وأزمة الاقتصاد، مع موجات متدفقة ومتلاحقة من ردود الفعل للعولمة؛ ردود أمريكية بخاصة ولكن أيضاً دولية، وأغلب الردود إتخذت شكل سياسات وقرارات حمائية ودفعت إلى سطح الأحداث بتيارات وتوجهات قومية أو دينية أو عنصرية أو جميعها في آن ومتطرفة أيضاً. الشعبوية ليست أهم أمراض السياسة في العصر الذي نعيش. هي بلا شك واحدة من الأهم. يشاركها في الأهمية مرض العنصرية، والعنصرية في حد ذاتها عنوان تصطف تحته عناوين أمراض أخرى كثيرة منها على سبيل المثال ممارسات التعالي أو عكسها على الإطلاق مثل ممارسات الدونية هذه الأحداث والتيارات والأزمات وظروف أخرى موجودة وفاعلة مع استعداد نفسي بالضرورة جسّدت لهذه المرحلة في التاريخ الحديث شخصيات سياسية لا أقول فريدة ولكن لكل منها طابع خاص واهتمام مختلف. تسببت في الوقت نفسه في تفشي أنواع شتى من أمراض السياسة. منها أمراض عهدناها تأتي لمرحلة وترحل ومنها أمراض مقيمة لا ترحل وأمراض تنتقل بين الدول بالعدوى وأمراض يتوارثها الأبناء. منها أمراض تصيب السياسيين ضعاف النفوس والشخصية، وعلى العكس يمكن أن تصيب أيضاً سياسيين مصابين بداء العظمة. تصيب أيضاً وبكثرة السياسيين من ذوي النزعة أو الخلفية الدينية. كثيرون من قادة الدول، في أفريقيا خاصة يعتقدون أن كرسي الزعامة، وكان في الأصل جذع الشجرة المخصص تاريخياً لشيخ القبيلة، هو حق لهم بالوراثة حتى البعيدة. آخرون نبشوا في زوايا التاريخ بحثاً عن جذور حضارة أو عقيدة يتمسحون فيها عساهم يجدون فيها ما يبرر حقهم في زعامة أو قيادة. تابعت زيارات السيد ناريندرا مودي رئيس وزراء الهند إلى دول في الغرب وفي الشرق. الرجل متهم في الغرب بأنه لا يحترم مبادئ حقوق الإنسان. وفي الحقيقة الرجل لم يكذب أو يخدع. كان رئيساً للوزراء في ولاية جوجارات على رأس حزب ينتمي إلى جماعة دينية متطرفة اغتال أحد أعضائها المهاتما غاندي في الأربعينيات الماضية ولم تندم الجماعة أو تعتذر للشعب الهندي على ما فعلت، بل واصلت صعودها في السياسة الهندية متمسكة بمبادئها العدائية لحوالي مائتي مليون هندي مسلم وملايين تدين بأديان أخرى. ليست مهمة عادية أن يحكم إنسان بلداً باتساع الهند يسكنه أكثر من مليار وثلاثمائة ألف نسمة يتحدثون بأكثر من أربعمائة لغة ويدينون بعديد الأديان ويتوزعون على تراتيب طبقية دينية ملتزمة وراسخة. بين هؤلاء آلاف هم بين الأكثر ثراء في العالم وملايين هم الأشد فقراً، وفي ترسانات هذا البلد وتحت إمرة هذا الحاكم ومشيئته عدة مئات من القنابل النووية. نشأت الهند وفي زوايا النشأة حرب دائمة مع باكستان وحرب متقطعة مع الصين ومسئوليات جمة في جنوب آسيا وفي العالم. مثل غيره في عديد دول الجنوب ما كان هذا الرجل أو غيره ليصعد ويصل مع حزبه إلى السلطة بدون ممارسة درجات شتى من الشعبوية. لديه الكثير من العناصر اللازمة لممارسة الشعبوية، عناصر موجودة في تنظيم حزبه وتنظيماته السرية وميليشياته المسلحة وفي عقيدة وحضارة الهندوسية الراسخة ثقافة وتديناً عبر خمسة آلاف سنة، وموجودة في المشاعر الجاهزة للإثارة ضد المسلمين من أبناء شعبه.
من الأخطاء السائدة الاعتقاد أن كثيراً من أمراض السياسة الشائعة موطنها الأصلي عالم الجنوب. الشعبوية مثلاً تعرفنا عليها مما وصل لنا من مقتطفات الجرائد الناطقة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي لخطب بنيتو موسوليني وأدولف هتلر وجوزيف ستالين ومصطفي النحاس وفي أساليب التعامل والمخاطبة كما شاهدنا في سنوات رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة وبوريس جونسون لحكومة المملكة المتحدة. كل هؤلاء وغيرهم كثيرون لجأوا إلى الشعبوية رغبة في تجاوز البرلمانات وأدوات الإعلام الرسمي وطمعاً في توسيع قاعدة التأييد من قطاعات شعبية بعيدة عن تأثير ونفوذ الوسائل العادية.
مودي مثل كثيرين غيره من السياسيين العاجزين عن الوفاء بما تعهدوا به بالطرق السياسية القانونية لنقص في إمكاناتهم الشخصية أو لجشع في طموحاتهم السياسية أو لإشباع حاجات لم تلب في الصغر. لجأوا إلى ما هو كفيل بإضعاف مؤسسات الحكم لحساب صورتهم الشخصية وفلسفتهم في إدارة شئون الدولة. لجأوا إلى أسلوب التخاطب المباشر مع الشعوب من فوق رؤوس المؤسسات الوسيطة ودورها المهم في حماية الشعوب من إغراءات الحكام وجبروتهم وفي الوقت نفسه حماية أنفسهم واستقرار الدولة ضد انفعالات الجماهير وردود فعلها للخطاب المباشر. الشعبوية ليست أهم أمراض السياسة في العصر الذي نعيش. هي بلا شك واحدة من الأهم. يشاركها في الأهمية مرض العنصرية، والعنصرية في حد ذاتها عنوان تصطف تحته عناوين أمراض أخرى كثيرة منها على سبيل المثال ممارسات التعالي أو عكسها على الإطلاق مثل ممارسات الدونية. أقرب هذه الممارسات الدونية ما عاصره بعض المعمرين من بيننا عن أساليب التعامل السياسي بين السياسيين في الدول شبه المستقلة وممثلي الدول الغربية المهيمنة من ناحية وبين بعض السياسيين في الدول الفقيرة والسياسيين في الدول النفطية أو الميسورة مادياً من ناحية أخرى. ينعكس هذا النوع من الدونية على العلاقة الحقيقية والمتوترة غالباً التي تنشأ بين فقراء العشوائيات مثلاً ورؤساء وموظفي المجالس المحلية في دول عديدة في الشمال كما في الجنوب.
من الأمراض الشائعة في أيامنا وكانت شائعة في الماضي للأسباب نفسها أو لأسباب مختلفة شن السياسيين لحملات الغزو المسلح ضد دولة أخرى جارة أو بعيدة وجعل من البيت الأبيض مصدراً لتجارب ينفذها جماعة المحافظين الجدد وغلاة الصهاينة ضد دول صغيرة. تدخلت أمريكا في عهد الرئيس بوش الصغير في شئون العراق بالغزو المسلح بادعاء ثبت زيفه ومن رئيس أثبت قولاً وفعلاً ضعف قواه العقلية. أمريكا ربما صارت الدولة الأكثر استخداما للحرب في علاقاتها الدولية. كان الغزو نمطاً مألوفاً في عصر الاستعمار الغربي والسوفييتي وكان الظن أننا بنهاية الحرب العالمية الثانية انتقلنا إلى علاقات دولية لا تلجأ فيها الدول إلى أسلوب الغزو. لم ندرك، ولعلنا ما زلنا، لا ندرك أن النظام الدولي الذي رسمت خريطته ووضعت قواعده الولايات المتحدة بهدف المحافظة على السلم الدولي كان هو نفسه بقواعده المبرر الذي استخدمته أمريكا لغزو كوريا وفيتنام والعراق وسوريا وسمحت للناتو بغزو ليبيا وتسمح لإسرائيل باحتلال أراضي ورفض مبادئ السلام والأمم المتحدة.
بلغت حرارة اللقاء ذروتها، الذروة التي هزت أفئدة عبد الناصر ومرافقيه الواقفين على شرفة قصر الضيافة من سوريين ومصريين ودفعت هيكل لأن يهمس للرئيس عبد الناصر بأن يحتاط ضد الغرور قائلاً له “يا ريس.. ما تنساس إنك بشر” من الأخطاء التي صارت شائعة تشكيل السياسيين في بعض الدول لميلشيات عسكرية وقوات غير نظامية لحمايتهم وإنشاء أجهزة إعلامية فائقة التمويل هدفها تضخيم صورة وأعمال السياسيين في دول العالم النامي إلي الحد الذي يدفع المعارضين المحرومين من حرية التنظيم والرأي لتصعيد وتنويع نشاطهم في مسالك غير قانونية أو تحت الأرض. من الأخطاء الشائعة أيضاً انغماس الحكام في مسألة الديون. المعروف أن أكثر من 90 دولة من الأفقر في العالم تنفق ما متوسطه 16% من دخولها على خدمة الديون. نيجيريا مثلاً تنفق 96% من حصيلة الضرائب على خدمة الدين وعلى حساب التعليم والصحة. هذا الخطأ ظل قائماً منذ عصر الاستعمار عندما كان المستعمر يستدرج الملوك والسياسيين إلى فخ الديون ليسهل التحكم في سياساتهم. من أخطاء بعض السياسيين المعاصرين المتكررة استسلامهم للغرور برغم أن تاريخ أسلافهم حذّرهم من العواقب الوخيمة لهذا الاستسلام. نهاية نابليون نموذجاً ونهاية صدام نموذجاً أبشع. أذكر في هذا الصدد رواية الأستاذ محمد حسنين هيكل عن استقبال السوريين واللبنانيين لجمال عبد الناصر في زيارته الأولى لدمشق كرئيس للجمهورية العربيبة المتحدة. بلغت حرارة اللقاء ذروتها، الذروة التي هزت أفئدة عبد الناصر ومرافقيه الواقفين على شرفة قصر الضيافة من سوريين ومصريين ودفعت هيكل لأن يهمس للرئيس عبد الناصر بأن يحتاط ضد الغرور قائلاً له “يا ريس.. ما تنساس إنك بشر”.