لماذا «الاجتماع الديني الشيعي» في هذا التوقيت؟
لاتنحصر دوافع اختياري موضوع «الاجتماع الديني الشيعي» بشكل عام، والاجتماع الشيعي العراقي بشكل خاص، مشروعاً بحثياً خلال العقدين الأخيرين، بعامل الوقت فقط، لكن اختيار العنوان من الناحية الموضوعية يرتبط بالضبابية التي تكتنف «النظام الاجتماع الديني الشيعي» العالمي، واللغط الكثير، حتى في الأوساط الأكاديمية، حول فهم الاجتماع الديني الشيعي، وفهم مجتمع المذهب؛ فكثير من المراقبين والأكاديميين والإعلاميين والسياسيين، لا يفرّقون بين المذهب وبين مجتمع المذهب، أي بين المذهب الشيعي، الذي هو التشيّع، بركيزتيه: العقيدة والفقه، وبين الشيعة الذين هم مجتمع المذهب، أي الطائفة. وفضلاً عن الخلط بين المذهب ومجتمع المذهب؛ فإنّ هناك عدم معرفة أيضاً بمكوّنات وعناصر وتفاصيل الاجتماع الديني الشيعي. ولكن يبقى هناك دافع زمني يرتبط بالتحولات التي شهدها الاجتماع الشيعي عموماً، والعراقي خصوصاً، بعد العام 2003.
وقد كرّست التحولات الجديدة الخلط القديم، وأدت إلى ظهور كثير من المعلومات والاستنتاجات الخاطئة، والإسقاطات الخاطئة، سواء بشكل متعمد أو من منطلق الجهل، وصولاً إلى التعاطي الخاطئ مع الإجتماع الديني الشيعي ومع مكوّنات النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهذا ينسحب أيضاً على فهم الآخرين لمنظومة المرجعية الدينية التي تقف على رأس هذا النظام، وفهم عناصرها، مثل الحوزة العلمية والمؤسسات الرديفة وحركة المال الشرعي وشبكة الوكلاء المنتشرين في العالم، فضلاً عن الهوية الشيعية وعناصرها، وعلاقة الهوية الوطنية بالهوية العالمية الشيعية. ولاشك أنّ عدم فهم هذه القضايا فهماً موضوعياً دقيقاً، يتسبب في تحويلها الى إشكاليات في الأوساط البحثية والأكاديمية والإعلامية والدينية، ولذلك؛ وجدتُ من الضروري جداً مقاربة هذه الموضوعات والكشف عن حقائقها الخاصة وتفاصيلها، والغوص في أعماق النظام الاجتماعي الديني الشيعي، لكي نقدّم صورة واضحة وتحليلاً دقيقة عن كل ذلك.
وموضوع الاجتماع الديني الشيعي موضوع قديم، و«النظام الاجتماعي الديني الشيعي» عمره أكثر من 1350 سنة، منذ تأسيسه على يد الإمام علي، ثم أُعيد تأسيسه في عصر الغيبة، على يد النائب الاول للإمام المهدي الشيخ عثمان بن سعيد العمري، وفق متطلبات غياب الإمام المعصوم، ثم تبلور على يد الشيخ أبي جعفر الطوسي بعد انتقاله الى النجف. وقد اهتم شيخ الطائفة الطوسي بمأسسة الاجتماع الشيعي، عبر مأسسة منظومة المرجعية والحوزة، ونشر الوكلاء في كل أنحاء العالم، تحديداً في مناطق التواجد الشيعي، وتأسيس الحوزات العلمية الفرعية، وتنظيم بيت المال الشيعي، أي حركة الخمس والحقوق الشرعية الأخرى. ثم أخذ هذا النظام يتطور تدريجياً حتى وصلنا إلى العصر الحاضر؛ فبات هناك نظام اجتماعي ديني شيعي قائم ومتبلور. ولذلك؛ فأنا من خلال مشروعي البحثي، لم أخترع هذا النظام، ولم أقدّم مشروعاً لإعادة بنائه، بل أنّ هذا النظام موجود وقديم، رغم أنه أخذ شكلاً متطوراً جداً بعد العام 1979، ينسجم مع القواعد الفكرية والعقدية للمذهب الشيعي ولمدرسة أهل البيت.
وكتاب «الاجتماع الديني الشيعي» جزء من مشروع أشمل في الاجتماع الديني الشيعي، وهي محاولة بحثية منهجية علمية لاكتشاف «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»، أو بالأحرى إعادة اكتشافه، وتقديم صورة وصفية تحليلية عن هذا النظام، للمهتم الشيعي وغير الشيعي. مع الإشارة الى وجود فرق أساس بين من يكتب من داخل هذا النظام وبين من يكتب من خارجه؛ فهناك محاولات بحثية استكشافية كثيرة جرت، سواء من قبل مستشرقين وباحثين اوروبيين وأمريكيين، أو من قبل أكاديميين وباحثين عرب ومسلمين غير شيعة، بل وحتى باحثين شيعة يكتبون وفق قواعد المناهج الغربية في علم الاجتماع والانثروبولوجيا، وقد ظهرت في كتاباتهم كثير من الأخطاء المعلوماتية والاصطلاحية والتفسيرية لظواهر الاجتماع الديني الشيعي، بل أنّ بعضها كان منحازاً وغير موضوعي، وتبيّن أن لديهم عدم فهم نسبي لطبيعة هذا النظام، أو عدم فهم متعمد، ولذلك كان هناك تخبّط حتى في المصطلحات والمفاهيم والأدبيات، فضلاً عن الخلط بين المذهب من جهة ومجتمع المذهب من جهة أخرى.
ولعل ابن المؤسسة أو ابن الطائفة عندما يكتب عن طائفته، أو يكتب عن الموضوع الطائفي بشكل عام؛ فإنه يُتهم تعسفاً بالطائفية، حتى وإن كتب بمنهجية علمية، وهي تهمة يتحسس منها كثير من الباحثين الشيعة؛ فيتجنبوا الكتابة عن واقعهم الشيعي أو الدفاع عنه. وقد ذكرت في بعض كتبي بأنّ هذه التهمة متهافتة، وأنّ الحساسية تجاهها لا معنى لها؛ فأن تكون هناك طائفة شيعية وطائفة سنّية، هذا شيء طبيعي، لم نختلقه، بل هو واقع طبيعي ومقبول وقائم منذ القدم؛ فالطائفة تعني مجتمع الدين أو مجتمع المذهب، وليس الدين والمذهب نفسيهما، وكل أديان ومذاهب العالم أفرزت مجتمعات.
ولكوني ابن «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»، وابن المركز التاريخي لهذا النظام وبيوته، أي النجف، باعتبارها العاصمة العالمية للنظام الاجتماعي؛ فأنا أفهم بدقة طبيعة عمل هذا النظام وظواهره ومكوناته وسياقات حركته، بما فيها منظومة المرجعية الدينية والحوزة العلمية، وعلاقة رأس النظام، أي المرجع الأعلى، بشبكة الوكلاء في العالم، وحركة بيت المال، والمؤسسات المرتبطة بالمرجعية أو التابعة لها من الناحية الشرعية، كالمؤسسات الثقافية والتبليغية، وكذا السياسية والجهادية، كالأحزاب ومنظمات المقاومة، والعناصر الأخرى المكوّنة لهذا النظام، مثل المراقد والمزارات، والحوزات العلمية الفرعية، وبإمكاني تقديم صورة دقيقة شبيهة بتسجيل الكاميرة التي تصوّر المشهد بشكل دقيق، فضلاً عن التحليل والتفسير وربط الظواهر وتقديم المقترحات الإصلاحية. ولذلك؛ فإنّ كل مستشرق أجنبي وكل أكاديمي سنّي أو شيعي، إسلامي وغير إسلامي، وخاصة الباحث الشيعي من خارج النجف؛ عندما يقرأ كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» وغيره من دراساتي حول الموضوع؛ سيكوّن صورة تفصيلية ودقيقة عن طبيعة الاجتماع الديني الشيعي.
الهوية الشيعية الوطنية وركيزة عالمية المرجعية
الإشكاليات المستحدثة التي ينطوي عليها موضوع الهوية الشيعية، وتأرجحها بين أصل العالمية وبين ضغط الهويات الوطنية والقومية، كانت من أهم أسباب تأليفي كتاب «الاجتماع الديني الشيعي»؛ فهناك من يعتقد أن ثمة تعارض يكبر بمرور الزمن بين الانتماءات الدينية والمذهبية والقومية والوطنية للفرد والمجتمع، وخاصة بعد ظهور الدول القومية والقبلية، وإلزامات الحدود والجنسية والقانون الدستوري والقانون الدولي. هذه التطورات الفكرسياسية والجيوسياسية والقانونية، حملت كثيرون على الاعتقاد بوجود تضارب بين الانتماءات المتعددة والمركبة للإنسان والمجتمع. والحال؛ أن كل إنسان ومجتمع متحضرين في العالم لهما كثير من الانتماءات، كالانتماء للوطن أو الموطن، واللغة، والقومية، والدين، والمذهب، والعشيرة، والحزب، والمدينة، وغيرها، ومن مجموع هذه الانتماءات المركبة تتشكل الهوية، ويكون لكل انتماء موقعه وحجم قوته في الهوية، وفق عقيدة كل شخص ومجتمع، وفلسفتهما في الحياة وايديولوجيتهما. أما الانتماءات الأحادية؛ فإنها تختص بالجماعات البدائية المعزولة التي تعيش في الغابات أو الصحاري. فإذا أخذنا نموذج فرد ألماني مثالاً؛ فسنرى أن هويته المركبة تتألف من مجموعة انتماءات؛ فهو ألماني الجنسية، جرماني القومية، مسيحي الديانة، كاثوليكي المذهب، يميني السلوك السياسي، برليني الولادة والمنشأ. ورغم هذه الكثرة؛ فإنه لايشعر بتعارض انتماءاته وتشظي هويته، بل يعتبر الوحدة مظهراً للوحدة. أما أولوية الانتماءات والولاءات؛ فيحددها الشخص نفسه أو الجماعة أو المجتمع، وفق العقيدة والايديولوجية والتجربة والإرث.
وعلى المستوى الفرد الشيعي أو المجتمع الشيعي أيضاً؛ لايوجد تعارض بين الانتماءات التي تشكل الهوية المركبة الواحدة؛ فالشيعي العراقي مثلاً، هو مسلم شيعي عراقي بغدادي، ثم الهوية السياسية والحزبية إن وجدت. أما تحديد الأولويات فتعود الى عقيدة الشخص وايديولوجيته؛ فالايديولوجية الإسلامية تعطي للانتماء الإسلامي الأولوية، وبما أن الشيعي يعتقد أنّ قراءة أهل البيت للدين هو الإسلام الحقيقي؛ فإن ترتيب اولويات الانتماء لدى المتدين الشيعي العراقي العربي – مثلاً- تكون على النحو التالي: مسلم شيعي، عراقي، عربي، ثم من حزب كذا، وعشيرة كذا ومدينة كذا، وكيفما كان ترتيب الانتماءات من الناحية النظرية؛ فإن الفروقات تتضاءل عملياً، لأن المعيار هو شعور الإنسان تجاه هذه العناصر، وقوة انتمائه لكل عنصر؛ فكلما كان الانتماء أقوى كانت أولويته متقدمة.
وبكلمة أخرى؛ فإن التسلسل هنا نسبي، وله علاقة بشعور الشخص نفسه، ثم بالمقام والمكان والزمان؛ فإذا سألوا هذا الشيعي العراقي في مقام التوصيف القانوني؛ فسيقول أنه عراقي، وهنا يُقدّم وطنيته على دينه ومذهبه، ولكن في مقام التوصيف الديني؛ فإنه سيقدِّم الإسلام والتشيع، ويقول أنه مسلم شيعي. وبالتالي لايوجد تعارض بين عناصر تكوين الهوية الشيعية، أو بين أن اكون شيعياً عالمياً أُؤمن بالنظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي وأنتمي إليه، وبين أن أكون عراقياً وطنياً، أو أكون عربياً علوياً هاشمياً في الوقت نفسه، أي أن السؤال في هذا المجال ينبغي أن يكون دقيقاً ومحدداً وليس عائماً، ودون تحديد المقام. ورغم هذا الوضوح؛ فإن الملاحظ بشأن الأسئلة حول الهوية الشيعية؛ أنها غالباً ما تكون موجهة ومغرضة، وهي تطرح السؤال بأسلوب يستبطن إشكالية وتهمة وشبهة وموقفاً مسبقاً، بمعنى أن الفرضية تكون خاطئة ويكون السؤال افتراضياً وليس له نصيب من الواقع.
وعلى مستوى المرجعية الدينية الشيعية؛ فإن المرجع الأعلى هو مرجع لكل الطائفة الشيعية في كل العالم. وان يكون هذا المرجع هو الأعلي؛ فذلك يرتبط بالنفوذ الديني على مستوى الشيعة في كل العالم، وليس في بلد واحد، أي المعيار هي عالمية المرجع وتحقيقه أغلبية المقلدين الشيعة عالمياً، فضلاً أهمية مكان إقامته، وخاصة النجف. أما أذا كان مقلدي المرجع محدودين ببلد معين أو قومية معينة؛ فهذا يبقى مرجعاً محلياً.
والمرجع الأعلى مصطلح حديث، وكان يوصف من يتبوأ منزلته بأوصاف أخرى، مثلاً رئيس المذهب أو شيخ الطائفة أو الشيخ الأعظم؛ فالطوسي – مثلاّ- كان يسمّي (شيخ الطائفة)، ويعني قائد الشيعة وأكبر فقيه شيعي وزعيم الطائفة الشيعية وزعيم الحوزة العلمية. وكان الشيخ الانصاري يلقّب (الشيخ الأعظم)، بمعنى لايوجد أعظم منه بين الفقهاء. وبصرف النظر عن المصطلح؛ فقد كان هناك زعيم أعلى للشيعة في كل زمان، أي المرجع الأول ورئيس كل الطائفة الشيعية، وليس لقومية المرجع وجنسيته ومحل إقامته أية مدخلية في هذه الزعامة والرئاسة والمشيخة. أما إذا كان هناك مرجع في داخل العراق خاص بشيعة العراق ومقلّدوه في حدود العراقيين فقط؛ فحتى لو قلّده كل شيعة العراق؛ فهذا لا يوصف بالمرجع أعلى ولا بزعيم الشيعة ولا ولي أمر الشيعة، وهكذا لو كان هناك مرجع شيعي في الهند ويقلّده كل شيعة الهند؛ فلا يكون زعيماً للطائفة، إذا لم يقلده أغلب الشيعة في البلدان الأخرى، لأن المرجع الأعلى أو الولي أو الزعيم هو الذي يقلّده الباكستاني والهندي والإيراني واللبناني والشامي والمصري والاذربايجاني، وليس شعباً أو جماعة شيعية دون أخرى.
والغريب أن نرى بعض المراجع في العراق أو إيران أو لبنان ــ مثلاً ــ، يطرح نفسه كمرجع أعلى، يصفه مقلدوه (ولي أمر المسلمين)، لكن لايقلّده شيعي هندي واحد أو باكستاني واحد. وإذا كانت الكتلة الشيعية في شبه القارة الهندية هي أكبر كتلة شيعية في العالم، تقدر بمائة مليون شيعي، وهو ما يتجاوز عدد شيعة ايران وأفغانستان والقفقاز؛ فكيف يكون مرجعاً أعلى ولايعرفه شيعة شبه القارة الهندية وليس لديه مكاتب ووكلاء فيها ولامدارس دينية، وماذا يعني أن يكون مرجعاً أعلى ويقلده ــ مثلاً ــ مليون شيعي من مجموع 350 مليون شيعي في العالم؟!. فإذا أردت أن تعرف من هو المرجع الأعلى فعليك أن تجد نسبة مقلدية في كل العالم، وشبكة وكلائه ومكاتبه وطبيعة امتداده ونفوذه الاجتماعي الديني، ودالته على الشيعة في كل مكان، وليس حجم وسائل إعلامه وانتشار صوره، وارتفاع صوت أتباعه.
هذا هو المعيار الأول، أي حجم النفوذ الاجتماعي الديني في كل بلدان الحضور الشيعي. أما المعيار الثاني؛ فهو أصل عالمية المرجعية؛ إذ لا يوجد في النظام الاجتماعي الديني الشيعي منذ عهد الغيبة الصغرى وحتى الآن، لا يوجد شيء اسمه مرجع محلي أو مرجع وطني أو مرجع قومي أو مرجع عشائري، أو مرجع له علاقة بالبلد أو المدينة. كل المراجع عالميين ولا يُسأل يوماً عن قومية هذا المرجع أو قبيلته أو جنسيته.
لقد كان السفراء الأربعة الخاصون للإمام المهدي، ثلاثة عرب وفارسي واحد، ولم يسأل أحد يوماً عن قوميتهم ووطنهم، ثم جاء المشايخ الأربعة المؤسسون: الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي؛ فكانوا تعبيراً عن التوأمة الإسلامية العراقية الإيرانية، ولم يلتفت أحد إلى جنسيتهم وأصولهم القومية والوطنية. ثم – في التاريخ المعاصر – كان السيد أبو الحسن الإصفهاني إيرانياً من أصل عربي، يسكن النجف، ويقلده كل شيعة العالم، وكان السيد البروجردي وهو إيراني من أصل عربي يسكن قم، ويقلده كل شيعة العالم، وكان السيد الحكيم وهو عراقي عربي يسكن النجف، ويقلده أيضاً كل شيعة العالم. هذه هي المرجعية الشيعية العليا، مرجعية عالمية، ولايمكن أن تتغير هذه المعادلة إطلاقاً، مهما ظل يحاول نظام البعث وامتداداه الحالية تغييرها، ومهما حاولت السعودية وغيرها من الدول الطائفية.
ولكن متى ومن طرح موضوع حصر هوية الشيعي بالوطن والقومية؟ وموضوع المرجعية المحلية أو الوطنية أو العربية؟. الموضوع الأول طرحه نظام البعث منذ بداية استيلائه على الحكم في العراق، فيما طرح الثاني بعد وفاة السيد أبي القاسم الخوئي؛ إذ أراد حزب البعث توطين المرجعية الشيعية وقومنتها، لكي يستطيع التحكم بها وتوجيهها لمصالحه والضغط عليها، ولكي لاتكون لها حماية شيعية من مقلديها في خارج العراق. وهكذا ترى أن حزب البعث الذي هو حزب علماني، عنصري، غير عراقي، معادي للشيعة، يتدخّل في الشأن المرجعي الشيعي، ويعمل على لوي عنق النظام الاجتماعي الديني الشيعي وتسفيه المعايير الشيعية في انتخاب المرجعية الشيعية، وخلق مرجعية قومية ومرجعية وطنية. ورغم أن مؤامرته لم تنجح، إلّا أنها تحولت الى ثقافة لدى بعض شيعة العراق المتأثرين بثقافة البعث، وتوسع اللغط حولها بعد سقوط النظام في 2003 وظهور الحرية المنفلتة والإعلام الطائفي المعادي، وارتفاع صوت بعض مدعي الاجتهاد والمرجعية من المرتبطين بالأجندات المخاصمة للشيعة.
إنّ من الطبيعي أن تكون الفقاهة والعدالة والتقوى والنزاهة والوعي بالمصلحة العامة، متحققة في المرجع الأعلى، ولذلك؛ من المستحيل صدور حكم شرعي أو فتوى أو توجيه منه يتعارض مع مصالح الفرد الشيعي أو المجتمع الشيعي؛ فالبحراني – مثلاً- الذي يقلد السيد السيستاني الإيراني المقيم في العراق، ويأخذ منه توجيهاته الدينية والاجتماعية وفتاواه، ويرسل له حقوقه الشرعية؛ هل هذا يتعارض مع مصالح البحرين؟!، ولنفترض أن توجيهات السيد السيستاني تتعارض مع سياسات نظام البحرين، لكن هل أنها متعارضة مع مصالح المواطن الشيعي في البحرين والمجتمع الشيعي البحراني؟!، قطعاً كلا؛ فالمرجع الأعلى أعرف وأدرى بهذه المصلحة من نظام البحرين نفسه، وواجبه حماية أبنائه والدفاع عنهم وعن مصالحهم. وبالتالي؛ فإنّ هذه الفرضية غير موجودة أساساً، لاماضياً ولاحاضراً، ولن تكون مستقبلاً.
اندماج الشيعة في مجتمع الدولة
اندماج الجماعات الشيعية الأقلوية بمجتمعها الوطني العام أو مجتمع الدولة؛ بحاجة الى مقدمات واجبة أو مداخل أساسية، تتمثل في تقبّل المجتمع العام اندماج الجماعة الخاصة وحضورها الوطني المتكافئ في الحقوق والواجبات، وإلّا فإنّ الجماعة لا تستطيع أن تفرض نفسها على الآخرين، شريكاً مقبولاً، بمجرد أن تعلن رغبتها لمجتمع الدولة بالاندماج فيه؛ فربما يرفض المجتمع العام أو مجتمع الدولة اندماج الجماعة الخاصة، أو يفرض عليها شروطه، وفي مقدمتها التنازل عن الحقوق والحريات العامة والسياسية، وعن كثير من الخصوصيات.
حين طرح الشيخ محمد مهدي شمس الدين موضوع الاندماج في تسعينات القرن الماضي، وكان يقصد به اندماج شيعة الخليج في دولهم أو مجتمعاتهم العامة؛ كتبت دراسة تفصيلية، تحوّلت فيما بعد الى جزء من كتابي «الاجتماع الديني الشيعي». واستناداً الى رأي الشيخ شمس الدين ووساطاته؛ عاد كثير من المعارضين الشيعة البحرانيين والأحسائيين إلى بلديهم، على أمل تحقيق بعض الحقوق والحريات، ولكن بمرور الزمن ازدادت أوضاع الشيعة في هذين البلدين سوءاً، وتحول مشروع الاندماج الى مجرد عودة الى البلاد. فأين كانت تكمن الإشكالية؟.
إشكالية اندماج المجتمعات الشيعية الأقلوية لاتكمن في اندماجها بالمجتمعات السنية أو المجتمعات الوطنية العامة، وإنّما في الاندماج بمجتمع السلطة، والتماهي مع مشروع الدولة الطائفية، بكل ما فيها؛ ففي المملكة السعودية – مثلاً- هناك الاجتماع السني العادي وهناك اجتماع السلطة؛ فإذا كان المطلوب الاندماج بالمجتمع السني العادي؛ فأساساً لاتوجد مشاكل مهمة مع هذا المجتمع، لأن المشكلة أساساً هي مع مجتمع السلطة، وهذه السلطة ترفض الشيعة أساساً كجماعة ينبغي أن تتمتع بنفس حقوق وحريات المجتمع السني، وتفرض عليهم الاستسلام والتنازل، والتحول الى شريحة مهمشة بدون هوية خاصة، وأن توافق على كل أشكال التمييز الطائفي والانتقاص من الحقوق والحريات، مقابل أن تعيش وتحصل على جزء من حقوق المواطنة، أي أن مجتمع السلطة يهمش الشيعة ويعزلهم ويقصيهم، ولايتعامل معهم كمواطنين عاديين أسوة بالسنة، كما يرفض الشيعة كهوية دينية اجتماعية، كما يتمتع بذلك السنة؛ فكيف يكون الاندماج في هذه الحالة؟!.
فإذا أُريدَ لمشروع الاندماج أن يتحقق؛ فلابد لمجتمع السلطة أن يوفّر مقدمات المشروع، ومنها توفير الحريات العقدية والسياسية والاجتماعية، وكل أنواع الحقوق، وبعدها يندمج الشيعة على أساس التكافوء في المواطنة؛ فمن مخرجات الاندماج أن يكون من حق الشيعي تبوأ أي منصب سيادي في الدولة، ويكون له حضوره الحقيقي في مفاصل الدولة وقرارها، بما يتناسب مع نسبتهم العددية. أما أن يندمج الشيعة دون تحقيق مقدمات الاندماج العادل؛ فسيبقون مجرد وجود هامشي ومعزول كما تريد السلطة ذلك، وبالتالي؛ لا يصح الاندماج في اجتماع سياسي يرفضك بالأساس، ولكن يصبح بالامكان الاندماج به بعد أن يعترف بهويتك المذهبية كاعترافه بالهوية المذهبية السنية، وإلّا فإن موضوع الاندماج على الطريقة السعودية هو وهم كبير.
ولعل أفضل ما يعبِّر عن الاندماج الحقيقي للشيعة في مجتمع الدولة، هو مشاركتهم في حكمها، وفق نسبتهم السكانية، كتجربة الحضور الشيعي في الدولة الإيرانية، باعتبارهم الأغلبية السكانية في البلد. وهناك التجربة اللبنانية الناجحة نسبياً، والتجربة اليمنية الحالية التي سيتحقق لها النجاح، وكذلك التجربة العراقية الحالية، الجيدة من ناحية مستوى مشاركة الشيعة، قياساً بما كان عليه الشيعة قبل 2003، وليس قياساً بحجمهم السكاني أو بما ينبغي أن يكون، وأعتقد ستكون ناجحة بامتيار تدريجياً، بعد تراكم تجربة الشيعة في الحكم، وهي تمثل حتى الآن الطموح المبتور أو التغيير المبتور كما ذكرنا في مقالات سابقة. أما أسوء تجربة؛ فهي التجربة العراقية في عهد النظام البعثي، والتجربة البحرينية الحالية، باعتبار أنّ الشيعة يشكلون الأغلبية السكانية في كلا البلدين. وهناك أيضاً التجربة الاذربايجانية السيئة، والتي تشبه حكم شاه ايران العلماني المعادي للدين في بلد أغلبيته شيعية؛ ففي أذربايجان هناك حكام شيعة، لكن بالاسم فقط، لأنهم علمانيون، ومن أصول شيوعية، ومعادون للدين والتشيع.
وبما أنّ الشيعة يعيشون اليوم عصر قوتهم، وهو أحد عصورهم الذهبية النادرة؛ فلاينبغي لهم أن يُستغفلوا بعناوين الاندماج والوحدة الوطنية والتضحية في سبيل الوطن والتنازل من أجل المصلحة العامة، وهي دعاوى ظلت السلطات الطائفية والاجتماع السياسي والديني الطائفي استغفال الشيعة بها واشغالهم بمخرجاتها، لكي يفرطوا في حقوقهم العامة والسياسية؛ فهذا التفريط جريمة كبرى، فعلتها سابقاً بعض الأجيال، وبقيت الأجيال اللاحقة تتحمل أعباءها، تهميشاً وإقصاءً وقمعاً وملاحقة وتشريداً وسجناً وقتلاً وتعذيباً، بتهم التمرد والخروج على السلطة والخيانة والعمالة والطائفية. ولذلك؛ يجب أن تكون عناوين الاندماج والوحدة الوطنية، مستندة الى قواعد المساواة وتكافؤ الفرص والاستحقاقات السياسية العادلة. ولديّ كتاب تحت الاعداد اسمه «قيامة الشيعة» يتناول هذا الموضوع. ولا أتحدث هنا عن خيالات أو تمنيات أو طموحات، بل أتحدث عن واقع قائم، وآخر أكثر قوة سيتحقق تدريجياً.
التغيير العراقي المبتور
لايزال التغيير الذي تأسس في العراق في العام 2003، مبتوراً وناقصاً على مختلف المستويات؛ فقد كان من المفروض إنصاف الشيعة إنصافاً كاملاً في إطار الدولة التعددية، وفي اطار حكم الديموقراطية، التي تعني حكم الأغلبية السكانية، وكان من المفروض أيضاً، من الناحية القانونية والنظرية والتطبيقية، أن يسير النظام السياسي بعد العام 2003 على أساس احترام وجود المكوّن الأكبر الذي تبلغ نسبته 65 بالمائة من سكان العراق، الذين هم شيعة العراق، وإمساكه بقرار الدولة والتشريع والحكم، وهذا لم يحصل رغم مرور أكثر من عشرين عاماً على التغيير.
ومن الطبيعي، في كل مجتمعات العالم المتحضرة، أن تفرض الانتخابات الديموقراطية حكومة تمثل الأغلبية السكانية، بأي مسمى كانت، أغلبية سياسية، أغلبية وطنية، أغلبية مكوناتية. ومن الطبيعي أيضاً أن يكون رئيس الجمهورية، أي رئيس الدولة، وكذا الحاكم التنفيذي، وكذا رئيس مجلس النواب من الأكثرية السكانية، الى جانب حفظ حقوق الآخرين، وهذا حق طبيعي لشيعة العراق لم يحظوا به حتى الآن، لأن السلطات في الفلسفة الديمقراطية، تنبثق عن الأكثرية السكانية، لا أن تبقى الأكثرية أسيرة قرار الأقلية.
على المستوى التطبيقي؛ لم تنجح حكومات الشراكة والحكومات التوافقية، بسبب تشظي عقيدة الدولة أساساً، وتشطي قرار الدولة، ولاعلاقة لهذا الفشل بعدم كفاءة المسؤولين وبالفساد فقط؛ فالفساد الظاهر سببه الحكومات التوافقية، وكون الوزارات ــ غالباً ــ عبارة عن وزارات أحزاب، لكن الأسباب أعمق من ذلك، وتتمثل في تقسيم قرار الدولة على ثلاثة أقسام ثلثه بيد ممثلي 65 بالمائة من السكان، وهم الشيعة، وثلث بيد ممثلي 16 بالمائة من السكان، وهم السنة العرب، وثلث بيد 15 من السكان، وهم السنة الكرد، ما يعني أنّ الكردي السني له صوت واحد، بغضّ النظر عن عدد مقاعده في البرلمان، وصوت للعرب السنة، أيا كان ثقله البرلماني، وللشيعة صوت واحد أيضاً؛ فهل هذه القسمة التي تفرزها الديمقراطية العراقية التوازنية صحيحة بأي معيار كان؟!.
والنتيجة أن التغيير لم يحقّق للمواطن الشيعي وللمكوّن الشيعي ما كان يصبو اليه من إمساك بقرار الدولة بعد 1370 عاماً من الاقصاء والتهميش والقمع، وكذلك ما كان يصبوا إليه من خدمات وإعادة بناء ونماء مستدام ورفاهية واستقرار أمني عميق. ولذلك؛ قلت في العنوان أنّه تغيير مبتور، لأن المكوّن الغالب عددياً لم يحقق حتى الآن طموحه على المستويات النظرية والقانونية والتطبيقية، لكنه سيتحقق قطعاً، عاجلاً أم آجلاً. هذا التغيير سبق أن اسميته (صدمة التأريخ)، وهو عنوان أحد كتبي، لأنّ الواقع العراقي انقلب رأساً على عقب؛ إذ تحوّل الشيعة من كونهم معارضة تأريخية عمرها 1370 سنة إلى شركاء في الحكم.
في كل دول العالم لا يحدّد القانون ــ عادة ــ دين أو مذهب أو قومية من يستلم المنصب أو المذهب أو دين أو قومية؛ فكل مواطن من حقّه ــ في الظاهر ــ أن يكون في أي منصب من مناصب الدولة، ولكن الأعراف السياسية شيء آخر؛ ففي أغلب الدول توجد أعراف تشير الى الانتماء الديني أو المذهبي أو القومي، وأحياناً القبلي لأصحاب المناصب، وفي العراق صار العرف السياسي أن يكون رئيس الجمهورية كردياً سنياً، ويكون رئيس البرلمان عربياً سنياً، ورئيس الوزراء شيعياً، دون أن ينص الدستور أو القانون على ذلك، ولكن؛ ينبغي أن يكون حضور المكون الشيعي في مناصب الدولة منسجماً مع رمزيته كأكثرية، أي أن من الطبيعي أن تكون مآلات الديموقراطية والانتخابات تحقيق دولة الأكثرية وحكومة الأغلبية، وأقصد بها حكومة الأغلبية الحقيقية بمعناها السياسي الموجود في مناهج العلوم السياسية، أي الأغلبية المكوّناتية الحقيقية، وليس الأغلبية التوافقية التوازنية المرفوضة. وحكومة الأغلبية الحقيقية تعني أن يكون رئيس الدولة ورمز سيادتها، أي رئيس الجمهورية، وكذلك رئيس الحكومة ورئيس البرلمان من الأغلبية، وهذا أمر طبيعي يعبر عن رمزية حضور ممثلي الاكثرية في الدولة، وهو لا يعني احتكار المناصب، بل يعني أن نتعامل مع المناصب وفق ما تفرزه الانتخابات، وليس وفق التوافق المحاصصاتي المكوناتي، الذي يظلم الشيعة.
من الطبيعي، من الناحية النظرية، أن يسمح القانون لكل مواطن، شيعياً كان أو ايزدياً أو صابئياً أو كردياً أو مسيحياً أو سنياً، أن يتبوأ أي منصب في الدولة، أي أنّ من حقّه نظرياً أن يكون رئيساً للجمهورية أو رئيساً للحكومة او رئيساً للبرلمان؛ فهذا طبيعي ضمن الأغلبية السياسية، وهو ما ندعو إليه، ولكن عندما يشترط العرف السياسي في إطار المحاصصة المكوناتية، أن يكون رئيس الجمهورية كردياً؛ حينها سيقول الشيعة هذا خطأ، وينبغي ان تعطى المناصب السيادية الى المكون الأكبر؛ فيكون من حق المكوّن الأكبر أن تكون رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النوّاب وكذلك رئاسة الوزراء من حصته. هذا شيء طبيعي، أما الأخرون فيأخذون المناصب التي تنسجم مع واقعهم العددي.
وهذا ليس استحواذاً، إنما إجراء طبيعي موجود في كل دول العام، سواء كان تشكيلة الدولة محاصصاتية مكوناتية أو وفق الاغلبية السياسية التي تفرزها الانتخابات؛ فلو كان النظام السياسي في العراق نظاماً رئاسياً، أو نظاماً مختلطاً يعني رئاسي بارلماني، بمعنى أن يكون عندنا رئيس جمهورية ويكون عندنا رئيس وزراء؛ فهل نتوقع أن ينتخب رئيس الجمهورية من خارج الطائفة الشيعية؟ وهل سيكون رئيس الوزراء من خارج الكتلة البرلمانية الأكبر التي يشكلها الشيعة، ويكون شيعياً؟ وكذا بالنسبة لرئيس البرلمان؟ لأشك أن رئيس الجمهورية سيكون شيعياً بشكل تلقائي، ثم ستكون الكتلة الأكبر هي الكتلة الشيعية، وسينتخب البرلمان المرشح الشيعي لرئاسة الوزراء، وتلقائياً أيضاً سيكون رئيس البرلمان شيعياً. هذه هي الديموقراطية.
لا أقول أن هذه الصيغة يجب أن تكتب في الدستور أو قانون الدولة العراقية، ولكنها ستتطبق في كلا الحالتين، أي في حالة المحاصصة المكوناتية أو في حالة الأغلبية السياسية. والحال؛ إن الصيغة التوافقية التوازنية العجيبة القائمة حالياً، فيها غبن كبير للشيعة، لأن السياسيين الشيعة يتبرعون بمنصب رئاسة الدولة ومنصب رئاسة البرلمان للسنة (الكرد والعرب)، وهو تبرع غير مشروع، ولم يخولهم جمهور الشيعة بذلك. وإذا أردنا أن نتخلص من هذه الصيغة العرفية، و ندع الأمور تمشي بشكل طبيعي وفق قواعد الديمقراطية وما تفرزه الانتخابات؛ فإن الشيعة سيأخذون وضعهم المتناسب مع نسبتهم العددية. مع الاخذ بالاعتبار إشراك جميع المكوّنات الطائفية والقومية العراقية في مناصب الدولة والسلطة وفق استحقاقاتهم الانتخابية أو وفق الصيغ التحالفية والائتلافية السياسية.
في الولايات المتحدة الأمريكية مثالاً؛ هناك حزبان يتنافسان، ولكن من الطبيعي أن تفرض الأكثرية المذهبية، رئيساً للجمهورية من مذهب الأكثرية السكانية؛ فيكون بروتستانتياً بشكل تلقائي. وفي بريطانيا لايأتي رئيس الدولة (الملك) من خارج الكنيسة الانجليكانية، بل هو رئيس الكنيسة الانجليكانية البروتستانتية، ورئيس وزراء بريطانيا كذلك هو ــ عادة ــ بروتستانتياً انجليكانيّاً. وحتى الخلاف داخل الشعب الايرلندي، بشماله وجنوبه، أو الخلاف مع بريطانيا؛ إنّما هو خلاف طائفي حول التبعية المذهبية، وانقسام ايرلندا الى شمالية وجنوبية هو انقسام طائفي، فالذي ثار واستقل وتحول الى جمهورية هو جنوب ايرلنده، لأن شعبه كاثوليكي، والذي احتفظ بالوحدة مع انجلترة وبقي خاضعاً للتاج البريطاني الانجليكاني البروتستانتي هو شمال ايرلنده، لأن شعبه بروتستانتي. في الهند؛ لم يأت رئيس وزراء أو حاكم مسلم بعد تأسيس الهند الحديثة، بل ظلوا كلهم هندوس، وهذا طبيعي أيضاً، طبيعي أن يكون الحاكم في كل بلدان العالم من الاغلبية السكانية.
ولذلك؛ نرى أن سبب بقاء شيعة العراق أقليةً سياسية في الصيغة الحالية، هو احتكام سياسييهم الى النظام التوافقي التوازني المحاصصاتي البغيض، وهذه الدولة التوافقية البائسة؛ فيتسلمون ثلث مناصب الدولة، ويتبرعون بالثلثين للسنة الكرد والعرب، ويكون الشيعة بذلك أقلية سياسية. هذا هو أساس البؤس الذي تعيشه الدولة العراقية من ناحية الأعراف السياسية ومن ناحية تطبيق النظام السياسي. مع العلم؛ ليس هناك نظام سياسي توافقي توازني مكوناتي وفق الدستور، بل نظام ديموقراطي. ولكن الأعراف السياسية هي التي تطعن في هذه الديمقراطية بالصميم. وهناك من يخلط ويتصور أن النظام السياسي العراقي هو نظام محاصصاتي توافيقي توازني، وهو تصور غير صحيح، بل الأعراف السياسية هي توافقية توازنية محاصصاتية.
وقد يتصور بعضهم أنّ هذه دعوة لاقصاء الآخر، لا أبداً، بل دعوة لتسير الأمور بشكل ديمقراطي طبيعي، بشكل انتخابات ديموقراطية، الانتخابات هي التي ستفرض الانتماء القومي والمذهبي للأكثرية النيابية، وهي التي ستحدد من يتسلم الرئاسات الثلاث. والسياسيين الشيعة الآن ــ كما قلت ــ يتبرعون بمنصبي رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان، بدعوى أن الشيعة هو (أُمّ الولد) و(الأخ الأكبر) الذي يجب أن يتنازل، وهي دعوى عجيبة غير شرعية؛ فمن قال أن المكون الأكبر يجب ان يكون (أم الولد) ويتنازل عن الاستحقاقات ويتبرع بها؟، ثم من خوّل سياسيي الشيعة أن يدّعوا أنهم (أم الولد)؟ ومن خوّلهم بالتنازل والتبرع باستحقاقات الشيعة؟ وإذا يتصور السياسيين الشيعة أنهم (أم الولد)؛ فعليهم أن يتبرعوا من جيوبهم، ويتنازلوا عن حصصهم الشخصية، وليس من استحقاقات المكون الاكبر؛ فقد انتظر. شيعة العراق هذه الفرصة منذ 1370، لكن هناك من يقتل تطلعاتهم الطبيعية. هذا المكوّن المظلوم له حقوق وله استحقاقات، سياسية وثقافية واجتماعية وإنمائية واقتصادية؛ فليس من حقّ أحد أن يوزع نفط البصرة ــ مثلاً ــ بطريقه تهضم حق ابن الجنوب، ابن البصرة، ابن الفرات الأوسط، من أجل إرضاء الحزب السياسي الآخر، أو المكوّن القومي والطائفي الآخر.
والمرجعية الدينية من جانبها، تريد أن تحفظ حقوق الأقليات المكوّناتية الأخرى بالشكل الذي ينسجم مع طبيعة الشراكة الوطنية والتعايش الوطني، والوحدة الوطنية، ولكن لا أتصور أبداً أن توافق المرجعية الدينية على هذا الأسلوب في توزيع الثروة وتوزيع السلطة، لأنّ فيه ظلم لابن الوسط وابن الجنوب، وهو استنتاج عقلائي، لأن هذا الموضوع عقلائي ولا علاقة له حتى بالفتوي وبالحكم الشرعي، بمعنى أن الشيعي، حين يُظلم من أجل إرضاء الأخرين، سياسيين وحزبيين، ومن أجل تشكيل الحكومة والسيطرة على الحكومة، أو من أجل إرضاء أحزاب المكوّنات الأخرى؛ فهذا أكبر ظلم كبير لايرضى به أي إنسان غيور؛ فكيف بالمرجعية.!.
والمفارقة؛ أن من يتم إرضاؤهم هم سياسيي المكونات الأخرى وشخصياتهم، وليس مجتمعات المكونات الأخرى، ولو كان التنازل يتم لمصلحة الشعب ومجتمعاته؛ لكان الأمر مقبولاً، أي التتنازل إلى شعب كردستان، أو شعب المحافظات الغربية؛ فلابأس بذلك، لكن المشكلة هي أنّ التنازل يجري لمصلحة الأحزاب والشخصيات السياسية في المكوّنات الأخرى، والتي تدعي تمثيلها هذه المكونات.
الموقع الذي حظي به السيد السيستاني لم يحظ به مرجع في العراق
عاش النظام الاجتماعي الديني الشيعي والمراجع الشيعة في العراق، عصورهم الذهبية خلال العهدين البويهي والصفوي، وتحديداً على مستوى الحريات المذهبية والحركة الميدانية وتنفيذ صلاحياتهم في القيادة والولاية. وتتركز أهمية هذا الموضوع في العراق خاصة، أكثر من أية دولة أخرى، سواء إيران أو دول الحضور الشيعي الأُخر، لأن مركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي والمرجعية العليا والحوزة العلمية، ظلت قائمة في العراق، وهو ما ينعكس على الواقع الشيعي في العراق نفسه وعلى واقع الشيعة في كل دول العالم، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإن إيران هي دولة شيعية بالأساس، ولايتعرض فيها الشيعة لأزمات طائفية وليس لعلماء الدين الشيعة فيها مشاكل كبيرة، كما أن الشيعة في دول الحضور الشيعي الأُخر، هم أقليات غالباً، ويتبعون مركزية النظام الاجتماعي الديني الشيعي. ولذلك؛ فإن معوقات عمل علماء الشيعة في العراق هو موضوع مركزي وأساس ويؤثر في كل الوضع الشيعي العالمي، وهو ما كانت تدركة السلطتين العباسية والعثمانية وغيرهما؛ حيث كان شيعة العراق منذ تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر الغيبة، يعني منذ السفراء الأربعة، ثم بعدهم الفقهاء الأربعة، يعانون بشدة من الحروب الطائفية التي تشنها عليهم الحكومات والمؤسسات الدينية الطائفية التي لا تعطيهم فرصة التعبير عن حقيقة قيادتهم للمجتمع، وحقيقة إمامتهم الزمنية للطائفة وللمذهب.
وقد كانت غاية السلطة السياسية السنية ومؤسساتها، سواء كانت طائفية أو معتدلة؛ الاستفراد بالأمة، وبالشعوب التي تحتل بلدانها، وتستفرد بمؤسسات السلطة والدولة، ولا تعطي الفرصة للمرجع الديني الشيعي لكي يمارس مهامّة الطبيعية كمرجع زمني وديني للأمة، لأنها لاتريد منافساً، حتى لو كان منافساً سنياً؛ فكيف إذا كان المنافس زعيماً دينياً شيعياً.
لكن المرجع الوحيد الذي توافرت له هذه الفرصة في العراق هو السيد السيستاني بعد العام 2003 ولم تتوافر لغيره، لأنّ المكوّن الشيعي الأكبر بات جزءاً من قرار الدولة والحكم، ولأنّ الأغلبية السكانية الشيعية بعد العام 2003 شاركت في الحكم، وأصبحت الشريك الأكبر، وأصبح الحاكم الأول شيعياً، أي رئيس الوزراء والقائد العام لقواة المسلحة. وقد فتح هذا الأمر الأبواب أمام النجف وفتح أبواب النجف على مصراعيها، لتأخذ مجدها وتعبر عن نفسها لأول مرة في تاريخ الشيعة. بينما كانت أبواب المراجع والعلماء مغلقة قبل العام 2003؛ فقد كانوا محاصرين ومقيدين، ومن فتح أبوابه فقد أعدم أو قتل في الشارع. وهكذا قتل النظام البعثي المئات منهم، وهجّر الآلاف، واعتقل الآلاف. كانت هناك هجمة شرسة شاملة على الحوزة العلمية وعلى علماء الدين خصوصاً، وعلى الشيعة والمذهب الشيعي بشكل عام. ولكن بعد 2003، انقلبت الصورة تماماً، فأصبح الشيعة مشاركون في الحكم مشاركة قيادية، وأصبح مرجع الطائفة، أي السيد السيستاني، مبسوط اليد نسبياً فيما يتعلّق بالواقع العراقي، وأصبحت له كلمة ودالّة على تشكيل الحكومة وإستقالتها، ودالة جوهرية على الأحزاب الشيعية الحاكمة، وعلى عموم الشيعة.
وإذا أردنا أن نكون دقيقين وواقعيين؛ فإن الكردي السني والعربي السني لا يؤمنان بالمرجعية بالشكل الذي يؤمن به الشيعة، واحترامهم للمرجعية إنما هو من باب الأمر الواقع، أما الشيعة فإنهم يؤمنون بأن المرجع الديني هو نائب الإمام المهدي، وله سلطة تتعلّق بأنواع الولايات التي يمتلكها، وخاصة ما يتعلق بموضوع التقليد وإدارة الأمور الحسبية، وهذا يجعل السياسي الشيعي وصاحب السلطة الشيعي يلتزم بتوجيه المرجع، سواء كان مقتنعاً أو مضطراً، بينما السني والكردي لا يقلّدان المرجع الديني ولا يرجعان إليه في أمور الحسبة ولا في أي أمر آخر، ولا يؤمنون بقيادة المرجع الأعلى، ولكن باعتبار السيد السيستاني هو مرجع المكوّن الأكبر، أي مرجع الخمسة وستين بالمائة من الشعب، بمن فيهم الذين لا يقلّدون السيستاني؛ فإنهم مضطرون لاحترامه والاستماع اليه، والاحتكام اليه أحياناً.
ومن خلال المجسّات والاحصاءات التقريبية والحركة الميدانية؛ يظهر أن الأكثرية الساحقة من شيعة العراق يقلدون السيد السيستاني، وربما لايقل عن 70 بالمائة من الشيعة المقلدين. وهناك من لا يزال على تقليد السيد محمد باقر الصدر والسيد الخوئي والسيد محمد الصدر والسيد محمد سعيد الحكيم رحمة الله عليهم، وهناك من يلقد مراجع آخرين كالسيد كاظم الحائري والسيد على الخامنئي. لكن نسبة مقلّدي السيد السيستاني هي الأغلبية الساحقة في العراق.
وهناك قضية مهمة عند الشيعة، وهي العلاقة الفطرية الروحية بالمرجعية العليا، حتى عند من لايقلد أساساً، أو يقلد مرجعاً آخر. والذي يقلّد المرجع يعني أنه يقرأ رسالته العملية ويطبقها ويتّبع فتاواه، ويستفتيه في الصغيرة والكبيرة، ثم يعطيه الحقوق الشرعية، وهذا ربما غير متوافر عند أكثر من نصف المقلدين أو أكثر من نصف الشيعة، ولكن العلاقة بالمرجع الأعلى أوسع من ذلك؛ فهي علاقة وجدانية، علاقة روحية وأبوية، علاقة بالقيادة الاجتماعية الدينية، وحتى الذي لا يقلّد المراجع، أو الشيعي غير المتدين وغير ملتزم؛ فإنه يشعر بالانتماء إلى المرجع الأعلى، لذلك؛ فإن الأغلبية الساحقة من أبناء الطائفة الشيعية يحسّون بالانتماء الى المرجع الديني، حتى وإن لم يكونوا ملتزمين دينياً، ولا يؤدّون الفرائض وغير ملتزمين عبادياً ومعاملاتياً، لكنهم يلتزمون قيادة المرجع وأبوة المرجع والإمامة الزمنية للمرجع.
وقد حظي السيد السيستاني بموقع مختلف عن الموقع الذي كان يحظى به الشيخ مرتضى الأنصاري والسيد أبو الحسن الإصفهاني والسيد محسن الحكيم وغيرهم من مراجع الشيعة الكبار، رغم أن المنصب واحد من الناحية النظرية، والصلاحيات واحدة والولاية واحدة، وهنا أتكلم عن الجانب العملي وعن القدرة الموضوعية التي توافرت للسيد السيستاني لتطبيق صلاحيات الفقه وولايته، وذلك لأن الظرف السياسي صار ملائماً. ويمكن أن نشبّه هذا الظرف بظروف الكثير من مراجع الدين الشيعة الذين عاشوا العهد البويهي ومرحلة الإمتداد الصفوي لبغداد؛ فقد حصل فارق كبير في الوضع الشيعي في العراق وفي الحوزة وحراك مراجع الديني، بين العهد العباسي ثم الاحتلال العثماني من جهة، وبين الاحتلالين البويهي والصفوي من جهة أخرى؛ فأغلب علماء الدين الشيعة كانوا مضطهدين في البلاد العباسية والعثمانية، ومنها العراق، ولكن عندما جاء البويهيون والصفويون إلى العراق؛ أصبحت أبواب الحوزة والمرجعية مفتوحة على المجتمع والدولة، بكل حرية، ودون أي معوق، بل كانت الدولة تدعم الحوزة والمرجعية وعلماء الدين دعماً كبيراً؛ الأمر الذي كان يحقق للطرفين أهدافهما المتشابهة غالباً.
ما سبق يعني أن واقع السلطة والظرف السياسي الإيجابي الذي يكون فيه للسياسيين الشيعة حضوراً مركزياً في الدولة، وإن كان بعضهم أو أغلبهم سيئين، هو الذي يمنح المرجع الأعلى تمكيناً للعمل وفق صلاحياته وولاياته، وهو أمر كان يعيه بقوة فقهاء العصر الصفوي؛ فدعموا الدولة الصفوية بكل قوة، سواء كان دعماً بالحكم الأوّلي أو الحكم الثانوي، ثم حصدت الأجيال التالية هذا الدعم والجهود فيما بعد، وحتى اليوم، على شكل استقرار مجتمعي وحرية شاملة لعالم الدين بالعمل والتحرك، وهو ما افتقد اليه المجتمع الشيعي العراقي والحوزة العلمية والمرجعية الدينية في العراق، طيلة القرون التي سبقت العام 2003.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الدراسة مستخرجة من مقابلة أجراها معي الإعلامي يوسف المحسن في قناة الفرات العراقية.
/انتهى/
المصدر
الكاتب:
الموقع : tn.ai
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2023-07-05 13:57:05
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي