ليلى عماشا
بكلّ لهجات أهل المقاومة، تُدعى جنين بعاصمة الشهداء، وبمدينة القتال، وبالاسم الحركيّ لفلسطين. بكلّ لهجات أهل العسكر، تدعى ميدان الاشتباك الذي لا ينتهي إلّا بنصر أو استشهاد. بكلّ لهجات أهل الحبّ، جِنين لفظة تصوّر شكل الروح وهي تقاتل.
في الذاكرة، يستحضر لفظ اسم جِنين سيلًا من الصور، وقوافل من الأقمار. يستحضر نيسان ٢٠٠٢ حيث وقف العالم مذهولًا أمام مئتي رجل مسلحين بأسلحة خفيفة، وبأحسن الأحوال ببعض الأسلحة المتوسطة، محاصرين داخل مخيّم لا تبلغ مساحته كيلومترًا مربعًا، صنعوا عبوات بدائية ليفخخوا كلّ طريق قد يسلكه جيش العدو لاقتحام المخيّم، خطّطوا، نفّذوا، اشتبكوا، التحموا، كمنوا، هاجموا، قاتلوا بكلّ عتاد أرواحهم الموقنة بجدوى الدم المنتصر على السيف، وانتصروا. انتصروا بدمٍ يتقن قتال السيف، وبعين تبدع في كسر المخرز، ومرّغوا هيبة حشد معادٍ بلغ أكثر من 150 دبابة بالإضافة إلى المروحيات والمدرعات وناقلات الجند والمدفعيات المدعومة بطائرات مقاتلة وأكثر من ألف جندي أتوا من لواء المشاة الخامس ومن لواء ناحال والكتيبة 51 من لواء جولاني.
حفرت جِنين اسمها في تاريخ الصراع على مرّ أيامه، أوجعت المحتلّ في كلّ مرّة استطاعت فيها أن تصنع أدوات إيلامه. سطع اسمها ليس لأن بقيّة المدن أقل لهفة للقتال وللحرية، بل لأنّها أبدعت في ترجمة لهفتها تلك في كل المراحل، ولأنّ صور الشهداء فيها تصنع هالة من نور محارب، قد لا يستطيع العقل المجرّد فهم أثرها وتأثيرها بحسابات المنطق السائد.
في ٢٠٠٢، حيث كان الصهاينة يعتقدون بإمكانية قتل جذوة المقاومة على الأقل في الضفّة الغربية نظرًا لعوامل كثيرة ظنّوا أنّها تفيدهم، اضطروا إلى إخفاء معالم هزيمتهم ومنع أي تقرير يتحدّث عن عدد وحجم خسائرهم البشرية والمادية في المعركة. ذهبوا إلى تسوية الكثير من أحياء المخيّم بالأرض، منعوا دخول أي طاقم طبيّ إليه حتى تلك التي مهمتها انتشال الجثامين. مُنع الماء عن أهل المخيّم الذين بقوا بداخله والذين قُدّر عددهم بحوالي ١٢٠٠ شخص. بعد الدمار الهائل الذي حوّل المخيّم إلى أرض محروقة، إلى أرض وصفها منسق الأمم المتحدة في الشرق الأوسط حينها، تيري رود لارسن، بأن الوضع فيها “مروع لدرجة لا تصدق. الروائح المنبعثة من الجثث المتحللة تحوم في أنحاء المخيم، الذي يبدو كما لو أنه تعرض لزلزال”.
اليوم، يحضر اسم جنين متألّقًا كعادته. الحرب التي لم تتوقّف يومًا تشهد اليوم معركة تُشهد العالم كلّه أنّه يتوالد من كلّ قطرةِ دمِ مقاتل ألفُ روح مستعدّة لخوضِ القتال حتى التحرير. تُشهد كلّ المتفرجين ولا سيّما من عرب التطبيع أنّ القوّة واليقين بالنصر واللهفة للفداء، جميعها عناصر لا تفنى وستصنع عالمًا خاليًا من “إسرائيل” وأدواتها. واليوم، كما في ٢٠٠٢، كما في كلّ يوم وقفنا فيه والقلب في فلسطين يحدّق بالنور الساطع من جنين، يقف أهل الحبّ وقلوبهم في داخل المدينة الباسلة، دمهم ينطق بالغضب الثوري كلّما عانقت قطرة دم فلسطيني التراب وبه ارتفعت إلى السماء، يتألّمون ولا يرون إلّا جميلًا، يهرعون إلى جثامين الشهداء وإلى عيون المقاتلين، يودون لو يكفنوا الجثامين بأنسجة من قلوبهم، ولو يستطيعون أن يلثموا بأجفانهم وجوه أسود جنين، ولو يعبرون الآن إلى فلسطين ليرفعوا مع أهلها صيحات النصر العزيز الذي سطّره أسود العرين في جنين.
في الضاحية منذ أيام، جنين هي الحدث، وهي عنوان الأحاديث التي تُحكى بالدموع الأبية أو باللهفة إلى نصرة الأهل والأخوة والأحبة هناك. في كلّ بيت، في كلّ شارع، في كلّ حيّ، تحضر جنين على صهوة العزّة. اليقين بالنصر يحاصر العدو في كلّ الساحات، كما من حصارهم يلقن رجال جنين العالم كلّه درسًا في علم الكرامة وفي شرع الحريّة، وفي النصر.. النصر الإلهي العظيم.