المبعث النبوي الشريف وبداية العصر الإسلامي
شفقنا- العالم في ذلك الوقت- في الجاهلية – أحوج ما يكون إلى رسالة . وإلى رسول، فهذه عربٌ تئد البنات وتقول : نِعْمَ الصهرُ القبر . وتُكثر الحرب ، وتحسب أنها مفخرة للإنسان . وتؤمن بالخرافات بالكهّان والعرّافين ، وتعبد الأصنام وقد شاع بها الظلمُ ، فهناك طائفة من المستغلين الذين لايعرفون للطمع حدوداً ، ولا للاستغلال قيودا . وهناك طائفة من الكادحين الذين تُستنزف جهودهم استنزافاً وتُستثمر قواهم استثماراً . وهذه سائر مناطق الأرض في مملكة الروم ، وفي امبراطورية الفرس ، شاع فيها الفساد والعدوان ، وكثرت فيها الفواحش والموبقات.
وهؤلاء حكماء العرب الذين يطلعون على الكتب السماوية مثل : ورقة بن نوفل وعبد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث وغيرهم ، يبشَّرون بنبيٍّ يُبعث ، وينقذ الإنسانية من هذه الهاوية السحيقة .
وهؤلاء يهود يثرب يتطاولون على العرب بنبيٍّ يبعث فيهم ويأتي بكتاب عظيم ، ويخضع لدعوته العالم ، فيصبحون أعزاء في الحياة .
وهؤلاء الكهنة والعرّافون لايزالون ينتظرون النبيّ الذي يكون خاتم النبيين . وسيَّدهم .
فمن هو هذا النبيَّ ، ومتى يبعث .؟؟.
هنا في بيت خديجة – بمكة وفي أرض الحجاز – يُعرف رجل لم يشترك في باطل قط ، ولم يعزف عن حق قط . ولم يَعرف الإثم جنابه ولا غاب الخير والصلاح عن رحابه .
إنَّ هذا الرجل تجتمع فيه جميع مؤهلات الرسالة ؛ وكل ما ذكر في الكتب من علائمها . فهو من أعرق العرب فخراً ومجداً ، ومن أسمى أُسَر العرب شرفاً وكَرماً .. وهو أحسن الناس خُلقاً ، وأفضلهم عملاً ، وأقربهم إلى الحق وابعدهم عن الباطل .
وقد حدث مرات عديدة ، أن فقدته مكة فَوُجِدَ في غار حِراء يعبد الله ويطيعه ، ويمارس نُسكاً خاصة لايعرفها أهل مكة .
ففي الشمال الشرقي من مكة ، يرتفع جبل النور ، وفيه غارٌ أعتاد النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يظلّ فيه أياماً يواصل
فيها عبادةً مجهولة عند الناس .
وذات يوم يروح محمدٌ (صلى الله عليه وآله) إلى حِراء فيرى كلَّ شيء قد تبدّل . فإن روحانية جديدة تشمل كيانه ، وتستوعب شعوره .. وإذا به يرى السماء قد فتحت أبوابها ، والْمَلك على أرجائها ، وجبرائيل يهبط إليه ويقول له : اقرأ .. فيقول له الني ّ : ما أقرأ ؟
فقال له جبرائيل (عليه السلام) :
{ بِسْمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيم ، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأََكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } (العلقِ/1-5) .
وكان هذا الحادث في السابع والعشرين من شهر رجب حيث يحتفل المسلمون بعيد ” المبعث النبويّ ” باعتباره بَدْءَ حياة الخير والسعادة للإنسان على وجه الأرض .
وهكذا بُعث النبي بالرسالة .. وابتدأت مرحلة جديدة من حياته الكريمة ، حيث لم يعد الإنسان الطيب الذي يعمل المعروف فقط ، ويؤدي الأمانة ويصدق الحديث ، ويعيل الأقرباء ، بل أصبح الآن البشير النذير الذي يحمل على كتفه مسؤولية قيادة الإنسان الى كل خير . وصيانته من كل شر .
كما أنها ابتدأت بالبعثة مرحلة جديدة للجزيرة العربية ، بل للعالم كله . فسوف لايبقى العالم يسوده الظلم والظلام ، والشر والطغيان ، بل ستفتح فيه أبواب الخير التي تنتهي إلى سيادة العدل والنور والخير والمعروف .
ورجع النبي إلى مكة فبلَّغ خديجة ما جرى له ، وقص عليها القصة فآمنت به ، كما أنه حدَّث بها ابن عمه عليّاً – وهو فتى مراهق كان النبي قد تكفل تربيته – فآمن ثم آمن كذلك جعفر أخو علي .. ثم أعلن النبي (صلى الله عليه وآله) دعوته حينما نزلت هذه الآية :
{ يَآ أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } (المدّثِّر/1-3)
وابتدأ بعشيرته حيث نزلت عليه آية اخرى تقول : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِينَ } (الشعراء/214) .
فجاء النبيُّ (صلى الله عليه وآله) حتى وقف على الصفا فنادى : ” يا صباحاه . فاجتمعت إليه قريش فقالوا : مالك ؟ قال : أرأيتكم إن أخبرتُكم أنَّ العدوَّ مُصبحكم أو مُمسيكم ، ما كنتم تصدقوني ؟
قالوا : بلى .
قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ” .
فقام أبو لهب – أحد أعمام النبيّ – وقال : تبّاً لك ، ألهذا دَعوتَنا !.
وخطب فيهم مرةً أخرى وقال :
أيها الناس !. إن الرائد لايكذب أهله . ولو كنت كاذباً لَمَا كَذَبتكم . والله الذي لا إله إلاّ هو ، إني رسول الله إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة ؟ والله لَتموتون كما تنامون . ولَتُبعثون كما تستيقظون ولَتُحاسبون كما تعملون ؛ ولَتُجزون بالإحسان إحساناً ، وبالسوء سوءاً . وإنها الجنة أبداً ، والنار أبداً . وإنكم أول من أنذرتم ” .
ولكن لم تكن تلبية القوم إلاّ مثل تلبية أبي لهب . فقد أعرضوا عنه ، واستهزأوا به ، وسخروا بدعوته . أما هو فقد ظلَّ يواصل دعوته بشتى الأساليب ، حتى اشتهر خبرها في مكة وما حولها . وبلغت دعوته بعض النفوس النيِّرة الخيِّرة التي كانت تريد الحق والخير ، فآمنت بها ، واتَّبعتها . بيد أن أكثرية التابعين لها كانوا من الطبقة الفقيرة التي لم تكن تملك لنفسها نفعاً ولاضراً .
أما سادة قريش وأشرافها .. أما المستغلون المرابون .. أما الذين كانت مصالحهم ترتبط بالأصنام والأزلام . أما ذوو العقول المتحجرة ، والنفوس المتصلبة .. أما هؤلاء فقد اعتبروا هذه الدعوة شرّاً يجب أن يقاوَم وأن يحاربّ بكل وسيلة .
ولذلك فهؤلاء لم يمتنعوا عن قبول الدعوة فقط ، بل أخذوا يسلكون معها مسلكاً معادياً ، وساروا في جبهة معاكسة تماماً .. فكل من أسلمَ قابلوه بالكبت والإضطهاد ، وحاولوا ردَّه إلى دينهم الخرافي السخيف . فكم من رجل منشرح الصدر ، ومنوَّر القلب اعترف بالنبي ، فتعرّض للتعذيب والتنكيل من جانب قريش ؟ وكم من عبد أو أمة آمن بالرسالة فَهُدِرَ دَمُه ومات فداء إيمانه ! فهذا عمار قد عذَّبوه ونكَّلوا به . وهذا ياسر أبوه ، وهذه سُميّة أمّه قد قتلوهما قتلاً !.
ولم يكن نصيب النبي (صلى الله عليه وآله) من هذا التعذيب والأذى قليلاً . فإنه كان كلما سمع أنَّه عُذِّب أو أوذيَ أحدٌ في سبيل دعوته تألَّم وتأثَّر ، ولربما فاضت عيناه بالدموع .. وبالإضافة الى ذلك فقد كانت قريش تتعرض للنبي بالذات ، إذ كان أبو لهب يرمي النبيّ بالحجارة ، وكانت زوجته تُلقي في طريق الرسول الأشواك . وكان أبو جهل يحاول إثارة غضبه بإلقاء الغرث على رأسه وهو في الصلاة ، أو يرمي القذر في طعامه وهو يأكل !
وشجَّ أحد الكفَّار رأسه الشريف بالقوس حتى جرت دماؤه على وجهه الكريم !. وكان بعض آخر منهم يلطِّخون داره بالأقذار ، وقد يلقون بها في فناء داره ..
أما السخرية والاستهزاء والتقريع ، فقد كانت تمتلئ بها افواه الكفاّر . ويصبُّونها على النبيَ كلَّ حين !.
وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقابل كلّ ذلك بصبر حكيم ، وحلم قائد . وأناة نبيّ .. فإذا جاءت إليه طائفة من الكفّار استقبلهم بكل طلاقة ، ودعاهم إلى الدِّين بأحسن طريق . فإذا لبّوا دعوته يكون ذلك خيرٌ ، وإلاّ فانه كان يطلب منهم أن يأتوا بمثل ما أتى به من القرآن .. ثم يتلو عليهم : { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } (الاسراء/88) .
ولطالما كانوا يسخرون منه ويستهزئون بدعوته ، فكان يعظهم ويدعو الله لهم بالهداية دون ان يغضب أو يثور .
وكان في بعض الأحيان يتجوَّل في العشائر والمجامع ، ويدعو الناس إلى ربهم . بيد أن كفار قريش كانوا يعرقلون طريق دعوته بأمرين :
الأول : أنهم كانوا يحذرون الناس من ان يتأثروا بدعوته قائلين لهم : إنَّ الرجل منّا ، وهو ساحر ومجنون أو كذّاب . حتى أن الناس كانوا يضعون القطن في آذانهم لكي لايسمعوا قول النبي (صلى الله عليه وآله) .
الثاني : أنه كان يسير خلفه رجل منهم ويصيح إنه كذاب فلا يُسمع قولُه ، ولا تُلَبَّى دعوتُه .
وعجز كفارُ قريش عن أن يمنعوا سير الدعوة الحثيث واشتهارها بهذه المعارضات . ففكّروا في انتهاج مسلك آخر في منع الناس عن الإسلام ، فجاؤوا إلى النبيِّ (صلى الله عليه وآله) وقالوا له : يا محمد شتمت الآلهة ، وسفَّهت الأحلام ، وفرَّقت الجماعة . فإن طلبت مالاً أعطيناك ، أو الشرف سوَّدناك ، أو كان بك علة داويناك .
فقال (صلى الله عليه وآله) : ” ليس شيء من ذلك ، بعثني الله إليكم رسولاً ، وأنزل كتاباً فإن قبلتم ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه أصبر حتى يحكم الله بيننا “
النهاية
المصدر
الكاتب:Shafaqna1
الموقع : ar.shafaqna.com
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2023-02-18 19:57:22
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي