“نقد النقد” أو “مانفستو المناهضين” .. الفرانكفورتية نموذجا

 

الكاتب: زهير دارداني

إن الحديث عن مدرسة فرانكفورت هو حديث عن مدرسة كانت ولادتها عسيرة أناطت لنفسها مهمة تفكير أزمة بالمعنى الموضوعي للكلمة، وإحداث قطيعة بالمعنى الكانطي بتجاوز الأورثوذوكسية الماركسية التي استبعدت الذات الإنسانية، منطلقين من السياق الفلسفي الحديث مع ديكارت حيث نجعل أنفسنا سادة على الطبيعة وأيضا مع الفيلسوف الأنجليزي فرانسيس بيكون الذي يرى أنه لا يمكن السيطرة على الطبيعة إلا بمعرفة قوانينها وبالضبط كتاب الأرجوان الجديد.

ماهو السياق الفلسفي الذي بنى عليه فلاسفة فرانكفورت أفكارهم؟ كيف يمكن الحديث عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ساهمت في ظهور هذه المدرسة أو لنقل معهد البحوث الاجتماعية(إشكالية التسمية)؟ ماهي مجمل المواضيع والمفاهيم التي استأثرث باهتماهم ونخص بالذكر: التشيؤ، الإغتراب، العقل الأداتي؟ كيف يمكن الجزم أن أفكارهم لا تتقاطر وفق منطق نسقي؟ بل تقاطعات لاتخلو من اختلافات وانتقادات لكل جيل على حساب الآخر؛ منذ هوركايمر* وأدورنو** وماركوز وصولا إلى أكسل هونيت مرورا بهابرماس وإرنست بلوخ وفالتر بنيامين.

كان لاندلاع الحرب العالمية الأولى وقيام الثورة البلشفية وقيام جمهورية فايمار الهشة سنة 1919 بالإضافة إلى إخفاق الثورة في ألمانيا، بوادر ظهور المجتمعات التوتاليتارية التي عرفت بطغيانها في الفترة التي عاشها رواد مدرسة فرانكفورت؛ أي بعد ظهور الفاشية والنازية والستالينية، حيث غاب العقل وقام التنوير بترسيخ قدره الخاص[1]، فالاستقلال عن الطبيعة هو السيطرة عليها، دون ذلك لا وجود للعقل[2].

فما كان من رواد المدرسة إلا أن يدخلوا في حوار صريح ومباشر مع الكانطية والهيجيلية والماركسية وأيضا الوضعية التي اتهموها بمحاولة الحفاظ على الوضع القائم وفي مرحلة لاحقة تبرير ما هو سائد، وهو ما أطلق عليه هابرماس مفهوم استعمار عالم الحياة، إذ لايمكن أن يكون هناك حياد في الوضعية ومن تم وجب اختراع ابستمولوجيا العلوم، دون أن نغفل المدرسة البرغماتية والفرويدية والتوماوية الجديدة والفلسفة الاجتماعية لماكس فيبر.

عدّوا أنفسهم ورثة هيجل وماركس الشاب وحاولوا تجديد الماركسية من الداخل وتفجير شموليتها البوليسية بالتزامهم ببيان “المانفستو”، وأدمجوا الجدلية مع الفرويدية وفلاسفة الحياة أمثال شوبنهاور، نيتشه، دلتاي إلى درجة اتهامهم بكونهم ماركسيون مثاليون أو رومانسيون صوفيون، وجوديون متمركسون، يحاولون الفرار من التشاؤم الحضاري نحو الفن للدفاع عن المضطهدين وشباب الجامعات المتمردين خاصة ماركوز، الذي طبع النظرية النقدية للمجتمع بالطابع الراديكالي إبان الحرب العالمية الثانية والتي كانت فيها ألمانيا مفككة ومدمرة ومجهولة الهوية، دون أن نغفل عصر مكارثي الذي ألهم بشكل كبير رواد المدرسة أثناء إقامتهم بنيورورك ولوس أنجلس.

في هاته الحقبة بالذات وجدت ألمانيا نفسها ضائعة في البحث عن تراثها الفلسفي بغية إحياء مجد الأمة الألمانية، فوجدت الفلسفة هي الأخرى نفسها أمام تحديين: الأول يتعلق بالنقد الجذري لكل مؤسسات المجتمع بما فيها الاقتصادية/الاجتماعية/السياسية أما التحدي الثاني فيتمثل في الجانب العملي وربط المعرفة بالحياة الإجتماعية؛ أي النظرية بالممارسة إخلاصا لبراكسيس Praxix ماركس بدل الاكتفاء بتأملات هيجل، خاصة بعد تهاوي المثالية وانسحاب الظاهراتية نحو الباطن، دون أن نغفل النقد الحاد الذي وجهه كل من أدورنو وهابرماس على أنطولوجية هيدغر.

على الرغم من التقدم العلمي الذي شهدته الحضارة الغربية إلا أن العقل -المبشّر بالتنوير والذي وعد المجتمعات بالقضاء على عصر الأساطير الميتافيزيقية- أنتج أساطير جديدة متمثلة هاته المرة في البربرية النازية، التي أسقطت ألمانيا فريسة اللاعقل الكامن في العقل نفسه بمقولة: الجنس الآري هو أحسن الأجناس وأفضلها، فسيطر الإنسان على الطبيعة.

صعود النازية كان بمثابة الصاروخ الذي عجّل بهجرة رواد مدرسة فرانكفورت نحو مختلف العواصم الأوروبية قبل تجمعهم بأمريكا، لكن قبل ذلك لابد من الإشارة لظروف نشأة المعهد وفق التسمية القديمة، حيث تكلف المسمى فليكس فايل بالتعاون مع أبيه هيرمان فايل على التمويل المادي إلى جانب فريدريك بولوك*، وبعدها يمرّ المعهد بمرحلتين كانت أولها مع جرونبرج الوحيد المتوفر على شرط الأستاذية والمنتصر للأرثودوكسية الماركسية، وثانيها مع هوركايمر الذي خلفه، المعتمد على الفلسفة السيكولوجية بدل العامل الاقتصادي الذي يراه رديئا دون أن يذكر اسم جرونبرج.

هجرة هوركايمر نحو جونيف والاستقرار في فرع المعهد آنذاك، وبعدها لندن وباريس لملاقاة الهوركايميين الشباب كهالبواك وCélestin bouglé، لكن وبمجرد وصول النازية إلى سويسرا سيشد الرحال نحو أمريكا، والاستقرار في الحرم الجامعي لجامعة كولومبيا تحت اسم المدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي.

عموما، مايمكن أن نجمله في هاته الفقرة التعريفية لمدرسة فرانكفورت -وهو الاسم الذي أطلق عليها بعد عودة روادها من المهجر أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية- أنها اهتمت في بداياتها بالاشتراكية القومية وبعدها بصناعة الثقافة والحركات الثورية، بالإضافة إلى ابستمولوجيا المعرفة مع فيلسوف الحركة هابرماس (البنية/الفعل)، واستندت في تحليلاتها إلى أفكار أنوارية مع كانط، وديكارت وأفكار القرن 19 مع هيجل وماركس، وعمليا مع فرويد وفيبر، متخذة من النقد منهجا لها لتعرية الأنظمة الفاشيستية وأمراضها الاجتماعية الباثولوجية كالتشيؤ والاغتراب والعقل الأداتي، وهي المفاهيم التي تشكل قطب الرحى في مدرسة فرانكفورت معتبرين عصر الأنوار نقطة مرجعية لمسائل الحداثة.

التنوير ومفهوم العقل الأداتي
إن شعار التنوير الذي جاء به كانط “كن جريئا في استخدام عقلك”، هو نفسه التنوير الذي قضى على أحلام المجتمعات الغربية حسب رواد مدرسة فرانكفورت، واعتبروا أن العقل قام بتصفية نفسه بنفسه، مستندين في أطروحتهم على هيدغر الذي ناقش مسألة انفلات التقنية من يد الإنسان، فصار عاجزا مستسلما لماهيتها، وكأنها جزءا خارجا عن ذاته على الرغم من أنها حسب هيدغر من صنعه، فكل المبادئ التي جاء بها التنوير من قبيل العقل، الحرية، احترام حقوق الإنسان، بعد سيطرة المؤسسات السياسية والدينية في مرحلة ما قبل الأنوار.

إلا أن قطار التنوير حسب مدرسة فرانكفورت قد زاغ عن سكته ولم يفي بوعوده التي دافع عنها فلاسفة كبار أمثال: لوك، كانط، مونتيسكو، ديدرو، وبالتالي انقلب التنوير ضد نفسه وبدل تحرير العقل من الأسطورة تبين بعد صعود النازية أنه مازال أسير الأساطير الجديدة، وذلك راجع إلى أحادية استخدام العقل جراء تواطؤ الوضعية التي تحكمت في الطبيعة عبر القياس والحساب وانتقلت بعد ذلك إلى الإنسان الذي وقع ضحية اللاعقل،

وهو ما يطلق عليه بالعقلانية الأداتية أو اللاعقلانية، وهاته الأخيرة ليست نقيض العقلانية وإنما أحادية استخدامها بالتكميم، وهنا يقول أدورنو وهوركايمر: “التنوير استقى جوهر مادته من الأساطير، وكان يريد القضاء عليها، وحين مارس وظيفة الحكم، ظل واقعا أسير سحرها[3].

إن التنوير الذي تمتد جذوره إلى الأسطورة والمنطق الأريسطي وذاتية ديكارت التي قامت بتجزيئ الطبيعة إلى ذرات ليسهل التحكم فيها، هو نفسه التنوير الذي تحكم في الفرد بواسطة التكميم والإحصاء والثقافة الجماهيرية عن طريق التقنية، وتحول إلى ما يسمى بالعقل الأداتي الذي يحمل بذور فنائه، وتحول إلى البربرية التي لم تأت من طرف عناصر خارجية بل من عناصر داخلية تتمثل في العقل الذي قام بتصفية نفسه بنفسه، كيف تم ذلك؟ الجواب في كتاب جدل التنوير، لكن قبل ذلك وجب التطرق للكتاب الذي كان نقطة انطلاق رواد فرانكفورت، يتعلق الأمر بالتاريخ والوعي الطبقي لجورج لوكاش.

جورج لوكاش*
اشتهر لوكاش بكتابه الذائع الصيت: التاريخ والوعي الطبقي، أعطى فيه الأحقية للعمل الجماعي كقوة مؤدلجة بتكتيك أخلاقي لتبرير الرعب البروليتاري، لكن البروليتاريا في نظره مازالت غير مؤهلة للقيام بدورها التاريخي (الوعي)، لكونها شُيّئت وأصبحت مجرد سلعة، معززا موقفه بماركس حول الصنمية وقدم بذلك التبرير الفلسفي الذي تنبأ به لينين، وانتصر للجدلية في العالم الناطق بالألمانية الذي غيّر وجهته نحو الكانتية الجديدة، وانتصر للذات على حساب الموضوع، عكس تيار ماركس وبالضبط مقدمة نقد الاقتصاد السياسي (الوجود/الوعي)، لأن الذات حسب لوكاش هي داخل التاريخ وليست تابعة له.

هاته القفزة هي من عجّلت بطرده من الحزب وتوجهه نحو روسيا للمشاركة في الثورة الشعبية التي سحقها الجيش الروسي، وبعدها نُفي إلى رومانيا نظرا لاتهامه بتقديمه إرهابا ثقافيا في عهد ستالين وتنكّر لشعاره السوفسطائي على لسان بروتاجوراس: “الإنسان مقياس كل شيء”، كما تنكر للموضوعات النقدية التي أدارها عن الروائي الروسي دوستويفسكي في حلقة الأحد أو حلقة لوكاش، التي انظم إليها فيما بعد كارل منهايم، ومن تم فلوكاش ساهم في تأسيس ما يسمى بالبنيوية التوليدية.

جدل التنوير
يعتبر كتاب جدل التنوير أهم نص فلسفي ممثل لمدرسة فرانكفورت النقدية مطبوعا بحركة الفكرة لدى هيجل لاعتبار تاريخ الحضارة الغربية هو تاريخ العقلنة، أي تجريد الطبيعة من سحرها الأسطوري، ومن تم تفككت الأسطورة نحو العقلانية وهاته الأخيرة ارتدت وفق منطق جدلي ديالكتيكي نحو الأسطورة تتمثل في النازية، وبذلك تمكن العقل من تدمير نفسه بنفسه جراء الثورة العلمية أو الشكلانية التي ترجمها كل من ديكارت وبيكون، هيوم، وبعدها الوضعية التي استبعدت الدين والأخلاق والفلسفة ومن تم ظهر العقل الأداتي نتج عنه علاقات اجتماعية مسحورة[4].

تحول العقل من السيطرة على الطبيعة إلى السيطرة على الإنسان، والمغزى هنا عن العقل الأداتي إذ أصبح الفكر مثل آلة رياضية غارقة في الشكلانية[5] والاتجاه المتزايد نحو مايسمى ترييض العالم أو الماطسيس، فتم تغييب الطابع الكيفي وأعدم التفكير الحر مقابل تنميط السلوك والرغبات والحاجات لتثبيت دعائم السلطة تحت تأثير وسائل الدعاية والإعلام المرتبطين بنظام الاستهلاك.

وأصبح الإنسان في ظل البربرية النازية غير قادر على الخروج من الحاضر للوصول إلى الماضي بغية استشراق المستقبل، وهنا نجد أنفسنا نتحدث عن اللازمنية واللاتاريخية في إحكام السيطرة على الإنسان وهاته المرة سيطرة أخطر من سيطرة المؤسسات الدينية قبل الأنوار، لأنها تحكم العقل والجسد والرغبات في ظل المجتمعات ذات البعد الواحد بلغة ماركوز، سيطرة تشبه أن تكون حالة حصار شاملة.

إن المتتبع لكتاب جدل التنوير يكتشف كيف استطاع هوركايمر وأدورنو الاستعانة بتجربة الوعي الفينومينولوجي الهيجلي (الوعي/الذات/الحضارة)، وتوظيفها بطريقة تتلائم مع حاجياتهم النقدية لبلورة مفاهيم التشيؤ والاغتراب، وهو نفس المسلك الذي انطلق منه هوركايمر في كتابه خسوف العقل حسب الترجمة الإنجليزية أو نقد العقل الأداتي حسب ترجمة ألفريد شميت، والذي ناقش فيه أن العقل يجب أن يربى في بيئة حرة يشعّ فيها فكر نقدي مصنفا العقل إلى ذاتي/موضوعي/أداتي، متجاوزا انتصار العقل لهيجل ومستحضرا قولة هيجل في كتابه فلسفة الحق: كل ما هو عقلي هو واقعي، وكل ما هو واقعي هو عقلي، ويعتبر هيجل سبق زمانه بمائة سنة بمفاهيمه ويجذبها لسلطته وبالغ في التفريط في الضحايا معتبرهم كديكورات فقط[6].

يؤكد كل من هوركايمر وأدورنو أن الهدف من كتابهما هو مواجهة العقل الأداتي بسبب الانهيار الواضح المتسبب في التشيؤ ومن تم أصبح الانسان مجرد دمية بين مخالب الاَلات، وسلب الفرد من فرديته وتحولت قيمته إلى مجرد سلعة أو عجلة مجهولة قابلة لأن يستبدل بها في أي لحظة جراء السلوك والفكر اللذان تم تنميطهما عن طريق الاستهلاك، متهمين البروليتاريا بالتواطؤ مع النازية بهدف العقلنة الاجتماعية، أما الفاشية في نظرهما فهي تركيب شيطاني[7]، في حين الرأسمالية قامت بتفكيك الاحتقان البروليتاري عبر إديولوجية الاستهلاك المؤدية للتبعية والاغتراب وهو ما يطلق عليه هوركايمر بتشيؤ العقل.

إن تفكيك الاحتقان الذي اعتمدته الرأسمالية مرّ عبر وسائل هي ما ندعوه اليوم سياسة[8]، وهاته الأخيرة متمثلة في الإدماج للالتفاف على العنف الثوري، وبذلك وجدت الرأسمالية نفسها مضطرة لخلق رغبات متجددة ووهم الأمل لأنها تعلم أن العامل لا يملك سوى جهده وهذا الإدماج الذي تبنته الرأسمالية في نظر هوركايمر وأدورنو هو ما دفعها للبحث عن أرضية صلبة لنجاح مشروعها، فاتجهت نحو ما يسمى بصناعة الثقافة أو الثقافة الجماهيرية، ليصبح الأفراد مرتبطين بنجوم رياضيين وسينمائيين، ومع تواطؤ وسائل الإعلام يتم تنميط السلوك قصد التحكم فيه[9]، وبالتالي القضاء على كل محاولة للتحرر من الاغتراب.

هنا يتدخل هوركايمر وأدورنو لمحاولة تقويض ما أطلقا عليه عقلانية السيطرة وتعويضها بعقلانية نقدية، منتقدين بذلك الأفراد اللذين تحولوا إلى جماهير بفعل التقنية التي حولتهم إلى عبيد لها وأصبحت تتحكم فيهم، ونقدهم هذا ليس للأفكار بل للواقع ككل بمؤسساته الثقافية والاجتماعية والسياسية، حيث أقاما علاقة ترابطية على مستوى براكسيس ماركس الذي أوقف الجدل الهيجلي على قدميه في أطروحاته حول فيورباخ حين قال: “ليست مهمة الفلسفة تفسير العالم وإنما تغييره”.

لم يتقيدا بالماركسية الأورثوذوكسية بل أخدوا عنها جوهرها للتنبيه إلى خطر الرأسمالية مطالبين الفكر بتجاوز النقد الكلاسيكي إلى الثورة الشاملة على صنميتها السلعية، بعيدا عن الأمل الرواقي في العصر الآفل للغروب على حد تعبير شبنجلر، واعتبرا التنوير يماهي بين الحي واللاحي كما تماهي الأسطورة بين اللاحي والحي، فالتنوير حسبهما هو عقلنة الرعب الميثولوجي[10].

إن كتاب التنوير هذا بوصفه أوديسا العقل ظهر مع الإعلان عن ضحايا المحرقة النازية، وكانا يريدان تقديم هذا الكتاب لفريديريك بولوك في عيد ميلاده الخمسين[11]، تتبعا فيه مسألة السيطرة منذ ملحمة هوميروس[12]، حيث أوليس رمز لقيم التنوير والعقل الأداتي، في اللحظة التي يراقب فيها أوليس الطبيعة وينتصر على قواها ليحتفظ ببقائه والعودة إلى موطنه، لكن الطبيعة سوف تنتصر فور رجوعه ويكون أوليس هو وريث القوى التي هرب منها[13]،

وكل هاته الأساطير فقط لكي يؤكدا أن التقدم المزعوم وقع ضحية النازية والفاشية والستالينية وتحولت العقلانية إلى لاعقلانية فيقولان: “يريدون أن يتعلموا من الطبيعة كيفية استخدامها بغية السيطرة عليها هي والناس، لذلك يدرسون قواعدها بالقياس (…)، السلطة والمعرفة مترادفان”[14].

هربرت ماركوز*
بلغت النظرية النقدية أوج عطائها في النصف الثاني من السبعينات، بعد تبنيها من طرف الطلاب الجامعيين الرافضين لأشكال القمع متأثرين بماركوز الذي ظهرت أعماله بتزامن مع حرب فيتنام التي هزت الرأي العام بأمريكا، ففي معالجته لمختلف القضايا والمشاكل سواء بأوروبا أو أمريكا لم يخرج عن دائرة مفاهيم جيله، وناقش بدوره التنوير والعقل الأداتي والاغتراب، فالتنوير حسبه يتحرر من الأسطورة وهذا ما دفعه إلى استحضار المنطق الأرسطي حيث القياس والاستنتاج، لكي يتحدث عن إرادة السيطرة في الفكر، ثم تمتد أيادي التنوير لإحكام قبضتها على الإنسان، حيث لا وظيفة للعقل سوى أن يكون أداتيا،

ومن تم تصبح العقلانية حسب ماركوز بمثابة اللوغوس Logos المهيمن، داخل المجتمعات التي سماها ذات بعد واحد، لا تنتج سوى أفراد متصالحين مع الوضع القائم، فاقدين للنقد بل وحتى مجرد الإحساس بالاغتراب[15].

كل هذا راجع بالأساس إلى الوضعية التي شن هجومه عليها، لأنها تبطل جدوى كل احتجاج باسم الآفاق التاريخية والحيلولة دون أي تغيير اجتماعي[16]، وبالتالي تم تطويق البروليتاريا من خلال الاستهلاك وتلبية حاجياتها السلعية كي تبقى صامتة عما يدور حولها، ومن تم تحول مفهوم السيطرة من الماضي حيث كانت في يد شخص مستبد أما اليوم فهي بمنطق القوة داخل المجتمعات التي تختلف عن سابقاتها في استخدام العقل[17] وهو ما أدى بدوره إلى تحول العقلانية الأداتية إلى عقلانية سياسية.

يتفق حول الماهية لكن بعد قرائته لماركس وفرويد وشيلر ينتقد أستاذه هيدغر ويعتبره ناقشها أنطولوجيا وبالغ في التجريد، فماركوز حول اهتمامه إلى التحليل الاجتماعي للكشف عن آليات السيطرة متجاوزا الوجود نحو الموجود، عبر إعطاء الأحقية للشروط التاريخية والاجتماعية للتقنية عكس هيدغر الذي يقر بتقويض أسس الميتافيزيقا.

في المرحلة الأولى بنى ماركوز أفكاره من الهيجيلية الجديدة التي تزعمها جورج لوكاش وبالضبط كتاب التاريخ والوعي الطبقي، وحوّل فكر ماركس إلى هيجيلية راديكالية بالإضافة إلى فلسفة الحياة مع دلتاي (الحدس) والهيرومونيطيقيا، لكن هاته العملية لم يكتب لها النجاح، فانعكف على محاولة إيجاد جذور الأنطولوجيا في دياليكتيك هيجل وهي الأخرى لم تحقق ما يصبو له ماركوز، إلى أن وجد الحل عند ماركس الشاب وبالضبط المخطوطات الاقتصادية التي ظلت مجهولة حتى سنة اكتشافها، منتقدا بذلك السوفياتيين في تطبيقهم الميكانيكي الماركسية ومشيرا في نفس الوقت إلى الانعتاق التحرري الذي تحقق في عهد غورباتشوف، ومن تم تمكن من تحرير البراكسيس من الأنطولوجيا، وكأن ماركوز يقول أن الحل لتجاوز أزمة الماركسية لا يوجد إلا عند ماركس نفسه.

وفي المرحلة الثانية انتهج فلسفة النفي وبالضبط كتاب العقل والثورة، حيث قام بدراسة جدلية تتبعها منذ كيركغور، فيورباخ، ماركس، وهي الفترة التي ابتعد فيها عن هيدغر واقترب من هيجل لكن بطريقة مختلفة عن الكينونة والزمان، حيث هيجل يؤكد على دور العقل في الواقع في حين ماركوز يشدد على أن العقل هو القادر على اختيار معقولية الواقع.

أما المرحلة الثالثة فقد مزج الماركسية بالفرويدية وبالضبط كتاب الحب والحضارة الذي انطلق فيه من كتاب فرويد: قلق الحضارات (ترجمة جورج طرابيشي)، كي يناقش القمع والتسلط وينبه الماركسية لإغفالها الدور السيكولوجي المتمثل في الاستهلاك ويعتبره قهر ظاهر وباطن/ واعي وغير واعي، وهي كلها استعدادات كامنة في البشر للخضوع والقهر، وأخيرا يتوجه للفن لانتقاد علم الجمال الماركسي(الاستيطيقا) ويعتبر الفن هو محفز البشر للتقدم وتحرير الإنسان من عبوديته في ظل لاعقلانيته، مطالبا الفنان بتحويل الواقع إلى لوحة فنية مثل الحركة الطليعية.

ويضرب لنا مثلا بالدادئية والسوريالية والتكعيبية (الرسم) أو حتى أعمال أرنولد شونبرغ ذات الإثني عشر نغمة، بالإضافة إلى بكيت في المسرح المضاد (في انتظار غودو) ، دون أن نغفل استحضاره للروائي النمساوي فرانز كافكا ويعتبر كتاباته مفعمة بقلق الإنسان المعاصر ومحاولاته العابثة للبحث عن الخلاص، فهو فن من نوع روايات أدبية متمردة ورافضة للتصالح مع الواقع الذي لم يعد يطاق، وهنا يقول ماركوز: “إن كافاكا يقطع الصلة مع الواقع المعطى دفعة واحدة، ذلك عندما يسمي الأشياء بمسمياتها، فيكون العمل الفني عنده متمردا ورافضا للتصالح مع الواقع الذي لم يعد مقبولا اليوم”[18].

يورغن هابرماس*
هابرماس أو المثقف الديناميكي الذي يتفاعل مع حركة المجتمع والتاريخ -تتلمذ على يديه الكثير أمثال: أكسل هونيت المدير الحالي للمعهد والفيلسوف الأمريكي توماس مكارثي ورئيس الوزراء الصربي المغتال زوران دينديك -ينطلق من المسار الذي تركه رواد الجيل الأول في نقدمهم للعقل الأداتي، ويعتبر موقفهم مؤسّس على عقلانية وبيروقراطية فيبر، متهما إياهم مشلولون بالشكوكية والازدراء السياسي، مما دفعه إلى طرح مشروعه من خلال إعادة قراءة التاريخ لاستحضار تجربة لوكاش واعتبرها ماركسية بدون ذات، لأن لوكاش يبحث عن العامل الذي يرفض تشيؤه.

قام بنقد الأداتية الشمولية سواء النازية أو الفاشية وحتى الآلة القمعية الستالينية؛ متطرقا لتحول بنية الرأي العام والإرادة الديمقراطية مشبها إياها بعلاقة البائع والمشتري في السوق، والسبب حسب هابرماس هو التواطؤ وليس الحوار، وهنا يقدم مشروعه المسمى المنعطف اللغوي Tournant linguistique الذي لايحمل فيه المسؤولية للإعلام وحده،

بل هناك وسيط يتمثل في اللغة كوسيط للعلاقات داخل العالم المعيش Le monde vecu من أجل الحصول على توافق داخل الفضاء العموميL’espace public ، ومن تم ينفتح العقل الأداتي على العقل التواصلي، فالعمل حسبه ليس وحده من يؤثر بل اللغة أيضا، ويتهم ماركس بتجاهلها في كتاباته خاصة رأس المال، ليتجه بذلك نحو الابستمولوجيا وفلسفة اللغة لانتقاد الوضعية ليس كعلم بل بتحديد حدودها كي لا يتم استغلالها، ومن تم فهو يميز بين ثلاث توجهات رئيسية للعلم: توجه سوسيو-تاريخي مقارن مشتق من فيبر كما في أعمال رايت ميلز، وتوجه تنظيمي مثلما نجد عند بارسونز، وأخيرا توجه نحو الفعل مشتق من الهيرمونيطيقيا والتفاعلية الرمزية عند ميد.

لم يقف هابرماس عند هذا الحد بل شرع في تأسيس ما يسمى بالبنيوية التكوينية بدل فلسفة التاريخ(الجيل1)، لدرجة اتهامه بالشعبوية لكنه يرد أن تحليلاته لا تنطبق إلا على المجتمعات الحديثة، لتأكيد موقفه المشروط بعمومية الرأي العام والمقبول عقليا، بعد أن قدم تعاليم كانط لأن التنوير حسبه مشروع لم يكتمل بعد ولا يجب أن يرفض بل يُصحّح، منتقدا بدوره الحيل الأول واعتبره بالغ في الراديكاليات لأن الفلسفة حسب هابرماس لا تكتمل بل جدلية، ومن تم يقترح الاستفادة من دراسات النمو المعرفي كما عند كولبرج وبياجيه، أما فيما يخص العقلانية فهي ليست مفهوما نقتبسه من السماء بل هي موجودة في اللغة.

إرنست بلوخ*
اشتهر بلوخ بكتابه ثيولوجيا الأمل الذي لم يعد سوى همجية ستالينية في ظل عجز التيار الأورثوذوكسي، ومن تم فالأمل هو ما لم يتحقق بعد معبرا بصوت عال: “أن التاريخ والعالم والوجود لم يتحقق بعد”، ناحثا مفهوم الليس-بعد برجوعه إلى أرسطو في مفهوم المادة حيث الوجود بالقوة، في حين بلوخ يرى أن الوجود هو الكامن في الإمكان، مبررا موقفه دون الحاجة إلى أرسطو بأن المادة تتفاعل من ذاتها، فهي تختمر في “اللاّ” وتتولد في “الليس-بعد” كمنظور أنتربولوجي، فوجود بلوخ يفِرّ من قبضته ويقول: أنا موجود، لكنني لا أملك نفسي.

هي فلسفة تدعو الإنسان ألا يستسلم في البحث عن وجوده بمبدأ الأمل، وكأن هذه الفلسفة تقوم بتحويل الماركسية إلى وجودية مقلوبة، لذلك اتهموه بكون تأثير الأرسطية والأفلاطونية المحدثة، ابن رشد وابن سينا، اليهودية والصوفية هو ما جعل بلوخ يزحزح عن الماركسية أورثوذوكسيتها العقائدية وبالتالي قلب كل شيء رأسا على عقب، وأقام علاقة بين الذات والموضوع لتعويض العلاقة بين المادة والوعي وخرّب الماركسية اللينينية قبل أن يمضي 15 سنة الأخيرة كلاجئ سياسي، أما جنازته فقد حضرها حوالي 3000 طالب حاملين مشاعل الأمل ومتسائلين: ماذا بقي من فيلسوف الأمل في عصر العولمة؟ لم لا، وهو فيلسوف يدافع عن وجوده الذي لا يصبر أبدا على اللاّ-الكامنة في الأنا أكون، لذلك فهو يتقدم نحو الليس-بعد بكبرياء الأنتربولوجيا البورجوازية.

أكسل هونيت
لقد حاول هونيت إعادة إحياء الأوكسجين الفرانكفورتي بالعودة إلى هيجل الشاب -حيث الفرد ومدى ارتباطه بالمجتمع وبالضبط جدلية العبد والسيد ومسألة الصراع من أجل الوجود- دون الوقوع في فخ المفاهيم الأنطولوجية كالروح/المطلق/التقدم والتي لم تسلم من النقد منذ فيورباخ وماركس وصولا إلى الحلقة الداخلية التي يقصد بها أدورنو وهوركايمر، عكس الصراع من أجل البقاء مثل حالة ميكيافيلي وهوبز وبالضبط كتاب التنين حيث حرب الكل ضد الكل، وهنا يُعرّج هونيت على الأعمال الإمبريقية لدونالد وينكوت وميد في التبادلات التفاعلية[19].

يرى هونيت في حديثه عن هيجل أن هذا الأخير وقع ضحية حصار كانطي، والسبب هو كتاب مبادئ فلسفة الحق حيث أسس هيجل ما يسمى ميتا-نظرية حول المنطق في علاقته بالروح، وهو ما يفسر الابتعاد عن هيجل تحت ما يسمى معاداة السامية، لكن هيجل حسب هونيت تعمد ذلك كي لا يسقط في اجترار المفاهيم الكانطية، وبالتالي الانتصار لكتاب مبادئ فلسفة الحق لتقديم أطروحة الاعتراف المتبادل.

إن مفهوم الاعتراف هذا مفهوم قديم-جديد حيث ظهر عند بول ريكور في كتابه سيرورة الاعتراف ومع الفيلسوف الكندي شارل تايلور في الميدان السياسي تحت عنوان سياسة الاعتراف، وأيضا مع نانسي فرازر من خلال الاعتراف العمومي عن طريق: إعادة توزيع الثروات والاعتراف الهوياتي وكذا الاعتراف الجندري، أما مع هونيت فقد ظهر في كتابه الصراع من أجل الاعتراف بمقاربة هيرمونيطيقية ترى أن الدولة عاجزة عن تحقيق الاعتراف المتبادل[20].

وهذا الأخير لا يتحقق إلا عن طريق الصراع منتقدا بذلك الشرط الهابرماسي المتمثل في المنعطف التداولي الضامن لمساواة المتحاورين، ويرى أنه يحجب كل أشكال الظلم والاحتقار والازدراء[21].

ينطلق هونيت من نظرية الفعل التواصلي بغية إعطاء نفس جديد للعقلانية النقدية لمواجهة العقلانية الأداتية، حيث الحوار حسب هابرماس يقضي على كل أشكال الأمراض الباثولوجية، عكس فعل الأمر المفروض على الآخرين والذي يختلف باختلاف المتلقي المهيأ مسبقا لقبوله، أضف إلى ذلك جدية المتكلم، فهونيت يترك كل هذا جانبا ويقوم بمحاولة إدماج بنيوية لأشكال الصراع من أجل الاعتراف؛ وهي الحب كعلاقة إيروسية تؤدي إلى احترام الذات.

وكمثال على ذلك علاقة الطفل بأمه كاعتراف متبادل، هذا الأخير ينتقل إلى المجتمع عن طريق الحق على المستوى القانوني ومن تم يتحقق تضامن اجتماعي، يعترف من خلاله الفرد بالمجتمع كما يعترف المجتمع بحق الفرد[22]، دون ذلك فلا جدوى من الحديث عن الاعتراف معوضا إياه هونيت بمفهوم الازدراء.

في حديثه عن الازدراء يميز هونيت بين ثلاثة أنواع منه: جسدي فيزيائي حيث الألم مرتبط بالغير وخاضع لسلطانه، الشعور باللامساواة جراء الحرمان من الحقوق المشروعة ثم الحكم على القيمة الاجتماعية بطريقة سلبية، وكل هاته الأنواع من الازدراء هي ما تؤدي إلى الإخفاق الاجتماعي[23]، وهذا ما تناساه هابرماس حسب هونيت الذي يعتبره بالغ في الاتجاه اللساني وتجاهل الطابع الصراعي[24] وقام بما يسمى بالتداولية الكونية أو التعالي المحايث من خلال تواصل لغوي، عكس هوركايمر أو حتى توماس مكارثي أحد أعلام النموذج الشكلاني في الإثنوميتودولوجيا[25].

النزعة النيفوية هي الأخرى حاضرة في تحليلات هونيت ويعتبرها حلقة وصل ضرورية[26] بين الحلقة الداخلية (الجيل 1) والحلقة الخارجية التي صنّف ضمنها فروم*، بنيامين**، لوفنتال، ويعتبر أن أدورنو وهوركايمر وماركوز لم يستطيعوا مقاومة جاذبية البراكسيس، أما هابرماس فهو يبحث عن وسيط (اللغة) واحتفظ بالمنظور الهيجلي الذي يعود إليه هونيت مجددا ليكرر إعجابه بكتاب مبادئ فلسفة الحق والحديث عن انهيار المعنى داخل ما يسمى بالمجتمع المبنين la société structurée، ولتجاوز هذا الطرح يطالب هونيت بإعادة بناء مفهوم الاعتراف ضمن الإطار الشكلاني بالاستناد على التحليل الفينومينولوجي للإهانات الأخلاقية مستفيدا من دروس فوكو وميرلوبونتي.

قراءة نقدية
نقد النقد، هذا ما علمتنا مدرسة فرانكفورت إياه، نقد جدلي مفتوح غير مكتمل، يقرأ الساعة التاريخية وهو ما يفرض علينا تبني منهجيتهم التي رفضت السقوط في وهم تعقيل العالم، وتخلت عن الاقتصاد بإستثناء فلسفة فريدريك بولوك، وقامت بإنزال التاريخ من برجه العاجي (ماركس) واعتبرته تاريخ عذاب أو تسلط، ومن تم وجب القول أن نقد أفكار مدرسة فرانكفورت يجب أن يراعي الشروط الثقافية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات، خاصة وأن البربرية النازية كانت نقطة مرجعية في عذابهم المطلق سواء كان روحا عند هيجل أو وعيا عند هوسرل أو كينونة عند هيدغر.

أولى ملاحظاتنا فيما يخص هذه المدرسة تتعلق بإشكالية التسمية من معهد البحوث الاجتماعية إلى النظرية النقدية وصولا الي مدرسة فرانكفورت النقدية، وفي مرحلة سابقة تحت اسم فندق الهاوية الكبير، دون أن نغفل عدم استقرارهم لا مكانيا ولا زمانيا وهو ما عبّر عنه مارتن جاي بعبارة طريفة عندما اعتبر أن المعهد غادر فرانكفورت تحت اسم MARX وعاد إليه تحت اسم MAX (هوركايمر)، وما بين رحلتي الذهاب والإياب سقط حرف R وسقطت معه الثورة Révolution[27].

كل هاته البداية تترجم الولادة العسيرة لهاته المدرسة التي ألقت على عاتقها تصعيد عقلانية الذات بعد الزحف النازي وتعويلهم على البروليتاريا التي أخلفت وعدها نظرا لافتقادها لدليل العمل، وهو ما يفسر اهتمامهم بمفاهيم التشيؤ والاغتراب حيث هذا الأخير جزء من هويتهم كيهود مغتربين عن واقعهم الذي وقع تحت قبضة النازية والفاشية والستالينية، لكن المثير في الأمر هو اهتمامهم بالطبقات المسحوقة على الرغم من أنهم أبناء أسر ثرية مثل فليكس فايل مموّل المعهد، وأدورنو ابن تاجر المشروبات الثري، ومن تم يحق لنا أن نتساءل: هل فعلا الطبقة العاملة هي محور اهتمامهم أم فقط تم استخدامها كبرميل بارود؟

الاغتراب كان أشد أنواع الظلم بالنسبة لهم خاصة أدورنو الذي اعتبر أن الواقع الأوروبي بلغ اللامعقولية لدرجة الاستعانة بنسب والدته )جنسية إيطالية (للحصول على الجنسية الأمريكية، وبقيت يوتوبياه غير مكتملة مما دفع به نحو الفن، في حين هوركايمر عاد إلى تشاؤمه الشوبنهاوري الذي كان قد بدأه منذ طفولته على نهر الماين وارتمى في أحضان اللاهوت الديني.

لم تُقم المدرسة منهجا نسقيا لأعمالها وهذا واضح من خلال اعتبارهم المجتمع كلاّ ضدّيا حافل بالمتناقضات (صراع الأضداد)، ومن تم حسب بوتومور فهي ظاهرة مركبة تحولت إلى حلقات دوغمائية وعوّلت على البروليتاريا في مرحلة أولى، ثم تحاشتها مع هابرماس وبالتالي أصبحت ماركسية بدون بروليتاريا، واستسلموا للمد الزاحف للرأسمالية دون أن نغفل انتصارهم لفيبر حول التمركز الأوروبي للعقلانية، وهو ما فسره هابرماس فيما بعد أن تحليلاته لا تصدق إلا على المجتمعات الحديثة.

أوشفيتس، هو الصورة التي تطرق لها أدورنو محاولا تمزيق أقنعة اللا-عقل حيث الظلم والعذاب، لكن أوشفيتس ليس وحده المعبر عن هذا الواقع، فتمة أنواع عدة منه، فلماذا أوشفيتس بالذات؟ هل يستحق أن يكون وقفة تاريخية للجحيم؟ خاصة إذا أخدنا بعين الاعتبار مجاعة الصومال ووحشية هيتشكوكية في سراييفو.

إن أهم شيء يجب أن نستخلصه من هاته المدرسة هو عدم تغافل دور العقل في حياتنا لأن الذات مسجونة بالموضوع، كما أنها تقربنا من فلسفة شوبنهاور، نيتشه، دلتاي، والاقتراب من الوجودية حيث الحقيقة لا يمكنها أن تكون حقيقة إلا بخداع الذات، لهذا اتهمت هاته المدرسة بحسها المأساوي ودياليكتيكها السلبي مع أدورنو وطوباوية ماركوز وزعزعة الماركسية اللينينية من الداخل بعد أن أضاعت مهمتها في تغيير العالم (ماركس)، وأصبحت لها مهمة واحدة هي النقد وتوعية الناس أن العالم لم يتغير بعد، وانتهت إلى مايسمى باليسارية العدمية أو كما وصفهم ابن المدرسة فالتر بنيامين: باليسار المكتئب.

لائحة المصادر والمراجع
-1الحداثة: مشروع ناقص، ترجمة بسام بركة، في مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 39، مركز الإنماء القومي، بيروت، مايو-يونيو،1986. -2توم بوتومور، مدرسة فرانكفورت، ترجمة سعد هجرس، مراجعة د.محمد حافظ دياب، دار أويا، يونيو 2004 -3ثريا بن مسمية، مدرسة فرانكفورت: دراسة في نشأتها وتياراتها النقدية واضمحلالها، العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، سلسلة مصطلحات معاصرة،النجف، العراق، ط 1، 2020 -4عبد الغفار مكاوي، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، مؤسسة هنداوي سي آي سي، المملكة المتحدة، 2017 -5فيل سليتر، مدرسة فرانكفورت: نشأتها ومغزاها-وجهة نظر ماركسية، ترجمة خليل كلفت، المجلس الأعلى للثقافة، ط 2، 2004 -6كمال بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركايمر إلى أكسل هونت، منشورات الاختلاف، ط 1، الجزائر، 2010 -7ماكس هوركايمر-ثيودور ف.ادورنو، جدل التنوير، ترجمة جورج كتورة، دار الكتاب الجديدة المتحدة، ط 1، يناير 2006 -8ماكس هوركايمر، بداية فلسفة التاريخ البورجوازية، ت: محمد علي اليوسفي، دار التنوير والنشر والتوزيع، بيروت، 2006 -9محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة، الشركة العربية للأبحاث والنشر، ط 1، بيروت، 2009 -10هاو آلان، النظرية النقدية، مدرسة فرانكفورت، ت: ثائر ديب، المركز القومي للترجمة، ط 1، 2010 -11هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ت: جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، ط 3، 1988

12- Honneth (Axel): la lutte pour la reconnaissance, traduit de l’allemand par Pierre Rusch, Paris: les éditions du cerf, 2002

13- Honneth (Axel): la société du mépris, vers une nouvelle théorie critique, traduit par Olivier voirol Pierre Rusch et Alexander du peyrix, Paris, édition la découverte, 2006

14- Marcuse: contre révolution et révolte, traduit par D. coste, Paris,édition du seul 1973

** ثيودور ف. أدورنو: والده تاجر مشروبات ثري، ابن عائلة يهودية تحولت إلى بروتستانتية، تتلمذ في فيينا (الموسيقى) ثم هاجر إلى أكسفورد وبعدها أمريكا. ناقش أطروحة الدكتوره بعنوان تعالي الغيري والنيوماني في ظاهرية هوسرل بالإضافة إلى أطروحة التأهيل الجامعي بعنوان كيركيغارد وبناء الجمالية، مما سمح له الحصول على مهمة أستاذ جامعي بدون مرتب يتقاضى مكافأة من الطلاب مباشرة، كما أنه تأثر بزيمل لمناقشة أوشفيتس، معتبرا إياه بمتابة الجحيم ومتسائلا بطريقة تتجاوز البربرية النازية التي شبهها بقمة التعاسة: ها بقيت فرص للحياة أمام من نجا من أوشفيتس؟ فالثقافة داخل أوشفيتس لا تغدو أن تكون قمامة. (توم بوتومور).

[1] ماكس هوركايمر-ثيودور ف.ادورنو، جدل التنوير، ترجمة جورج كتورة، دار الكتاب الجديدة المتحدة، ط 1، يناير 2006، ص 16 [2] ماكس هوركايمر-ثيودور ف.ادورنو، مرجع سابق، ص62 [3] ماكس هوركايمر-ثيودور ف.ادورنو، مرجع سابق، ص32 [4] ماكس هوركايمر-ثيودور ف.ادورنو، مرجع سابق، ص50 [5] ماكس هوركايمر-ثيودور ف.ادورنو، مرجع سابق، ص48 [6]ماكس هوركايمر، بداية فلسفة التاريخ البورجوازية، ت: محمد علي اليوسفي، دار التنوير والنشر والتوزيع، بيروت، 2006 ص 96 [7]هاو آلان، النظرية النقدية، مدرسة فرانكفورت، ت: ثائر ديب، المركز القومي للترجمة، ، ط 1،2010 [8] ماكس هوركايمر، مرجع سابق، ص 13 [9] ماكس هوركايمر-ثيودور ف.ادورنو، مرجع سابق، ص159 [10]ماكس هوركايمر-ثيودور ف.ادورنو، مرجع سابق، ص 37 [11] ماكس هوركايمر-ثيودور ف.ادورنو، مرجع سابق، ص 6 [12] ماكس هوركايمر-ثيودور ف.ادورنو، مرجع سابق، ص 54 [13] ماكس هوركايمر-ثيودور ف.ادورنو، مرجع سابق، ص 71 [14] ماكس هوركايمر-ثيودور ف.ادورنو، مرجع سابق، ص 25

*ابن مدينة برلين منظِّر اليسار الراديكالي حاصل على دكتوراه تحت إشراف هيدغر تحت عنوان رواية الفنانين في الأدب الألماني، لكن اختلافاته الفكرية مع أستاذه المتعاطف أنذاك مع اليمين النازي حالت دون إتمامه لرسالة التأهيل الجامعي، لولا تدخل هوسرل للوساطة مع هوركايمر، قبل أن يهاجر إلى جنيف وبعدها أمريكا. انضم ماركوز للحزب الاشتراكي الألماني ثم انفصل عنه بعد اغتيال روزا لوكسبورغ، كما عمل مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية من أجل الدعاية ضد النازية قبل وفاته جراء سكتة دماغية حيث كان برفقته هابرماس.

[15]توم بوتومور، مدرسة فرانكفورت، ترجمة سعد هجرس، مراجعة د.محمد حافظ دياب، دار أويا، يونيو 2004، ص 172 [16] توم بوتومور، مرجع سابق ص 212 [17] هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ت: جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، ط 3،1988 ، ص 26 [18] Marcuse: contre révolution et révolte, traduit par D. coste, Paris,édition du seul 1973, p: 130 [19] Honneth (Axel): la lutte pour la reconnaissance, traduit de l’allemand par Pierre Rusch, Paris: les éditions du cerf, 2002, p: 57 [20] Honneth (Axel): la société du mépris, vers une nouvelle théorie critique, traduit par Olivier voirol Pierre Rusch et Alexander du peyrix, Paris, édition la découverte, 2006, p 88 [21] Honneth (Axel): la société du mépris, p 162 [22] Honneth (Axel): la lutte pour la reconnaissance, p 208 [23] Honneth (Axel): la lutte pour la reconnaissance, pp 162-166 [24] Honneth (Axel): la société du mépris, p 164 [25] Honneth (Axel): la société du mépris, pp 189-194 [26] Honneth (Axel): la société du mépris, pp 104-114

** فالتر بنيامين: مزج بين المثالية والمادية والأفكار الصوفية، قرأ لبودلير وترجم ديوانه أزهار الشر بالإضافة إلى رواية بروست بحثا عن الزمن المفقود، انتحر في بورت حدود إسبانيا وفرنسا في محاولة فراره من النازيين، عندما أدرك أن الجماعة التي يحاول الهرب معها لن تتمكن من العبور، لكن المفارقة الغريبة أنه سيسمح لهم بالعبور في اليوم الموالي. (توم بوتومور)

[27] توم بوتومور، مرجع سابق ص13.
Exit mobile version