إسرائيل الثالثة وخطة سموتريتش للانتقال من إدارة الصراع إلى حسمه برؤية 2050
الكاتب : د. عامر الهزيل
تعتبر كل دورة انتخابات في إسرائيل مفصل تحول تاريخي لا تتغير فيها الحكومة فحسب، بل تتغير معها معالم الحكم والمجتمع أيضا.
يحدث هذا كنتاج طبيعي لوحدة صراع الأضداد يهودية الدولة وديمقراطيتها داخل نظام اليودقراطية وديمقراطية الشعب السيد.
نظام نفي فيه عرب الداخل 48 من حيز الدولة وتعريفها قانونيا ومن شرعية مواطنتها الجمهورانية اليهودية وربطها بقانون العودة الذي جعل من الدولة يهودية ليس لأن اليهود فيها أكثرية، بل لأنهم يهود ولهذا هم مواطنون بشكل تلقائي لحقهم التاريخي في هذه البلاد. في هذا السياق يفهم منح العرب حق المواطنة الوظيفية المقيدة والاستفادة من هامش ديمقراطيتها كمنة وإحسان على حد تعبير بن غوريون. هامش انحصر وينحصر أكثر وأكثر كلما احتدم الصراع بين اليهودية والديمقراطية ونفت الأولى الثانية خطوة خطوة منذ إعلان تأسيس إسرائيل الأولى وانقلابها على قرار هيئة الأمم المتحدة 273 لعام 1949 الذي عاد وأكد على مطلب قرار 181 وكرس الاعتراف شريطة أن تكون إسرائيل دولة ديمقراطية يحكمها دستور أساسه قانون مساواة ومواطنة حقة تجعل منها دولة كل مواطنيها.
في هذا السياق التاريخي أسست إسرائيل الأولى بهيمنة أشكنازية استبدل فيها مؤسسوها قرار هيئة الأمم 273 بقرار لجنة هراري لسن قوانين أساس تجمع بين مركب الهوية اليهودية ومركبات الديمقراطية انطلاقا من تصور أن الديمقراطية فيها من القوة والكوابح السياسية والقانونية ما يمنع من اليهودية اليمينية والمتدينة أي هيمنة مستقبلية.
تميزت هذه المرحلة، خصوصا بعد هزيمة 1967، بمفاخرة القومية الصهيونية العلمانية ورمزها شخصية “تسابر”- من كلمة ثمرة الصبر- والذي يعني خارجيا الإسرائيلي الشائك القوي النافي لشخصية يهود المنفى. وداخليا المنسجم اجتماعيا بما يتفق وإستراتيجية الدمج الاجتماعي والثقافي “كور هيتوخ” (بوتقة الصهر) لبلورة هوية إسرائيلية جامعة من خلال دمج اليهود الشرقيين وغيرهم في ثقافة الأشكناز الغربية، وقطع أي صلة لهم مع الشرق المتخلف على حد تعبير بن غوريون.
إسرائيل الأولى هذه خاضت حرب الأيام الستة عام 1967 لاستكمال احتلال فلسطين برؤية حدودها الآمنة “أرض إسرائيل” بين النهر والبحر، وعليه وضعت أهم أداتين لتنفيذ هذه الإستراتيجية؛ الأولى، إدارة الصراع بدبلوماسية الخطوة خطوة وما لم يحسم بالقوة ينفذ بقوة أكثر مستهدفة القضاء على الثورة الفلسطينية وعمقها العربي عسكريا ودبلوماسيا لما مثلته من تجسيد لإعادة وحدة الشعب الفلسطيني أرضا، شعبا، رواية وقضية ومصدر تثوير لكل شعوب المنطقة العربية. الثانية، زرع الضفة بالمستوطنات والمستوطنين لتقييد يد الواقع في كل حل مستقبلي وجعله لا يتجاوز الحكم الذاتي على حد تعبير وزير الدفاع الأسبق، موشيه ديان.
مع هذه الإستراتيجية للدولة الصهيونية العميقة بدأ عهد إسرائيل الثانية عام 1977 مع ما أطلق عليه “الانقلاب” وذلك لفوز حزب الليكود اليميني بقيادة مناحيم بيغن ومن معه من الأحزاب المتدينة بالانتخابات بدعم جارف من اليهود الشرقيين كحركة تمرد واحتجاج ضد هيمنة الأشكناز، منسجمًا مع إستراتيجية الدولة العميقة في إدارة الصراع وتكثيف الاستيطان وقع بيغن على اتفاقية سلام كامب ديفيد مع مصر رافضا أي حل مع الأردن أو منظمة التحرير بما يخص الضفة الغربية معتبرا إياها عمق إسرائيل الأمني وجزءا لا يتجزأ من أرض إسرائيل التاريخية. هنا ولهذا قال برجينسكي مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي كارتر في حينه: “من ينقذ إسرائيل من نفسها؟”.
تميزت مرحلة الدولة الثانية بصهينة الدين وتديين الصهيونية مع نفي معالم اليهودية المتصاعدة والمتواصلة قانونيا وسياسيا لمركبات الديمقراطية بما فيها استهداف صلاحيات المحكمة العليا لما تمثله من ضبط توازن بين اليهودية والديمقراطية مع تعميق وعي التطرف اليهودي وكره العرب كإستراتيجية شملت كل مفاصل الدولة ولأهمها الإعلام. في هذا السياق يعتبر اغتيال رئيس الحكومة، يستحاك رابين، عام 1995 أنجح اغتيال سياسي معاصر حيث اعتلى بعدة سدة الحكم من حرض ضده أي نتنياهو وقيادات حزب الصهيونية المتدينة اليوم. وكل هذا بسبب توقيع اتفاق أوسلو الذي لم يتخط في رؤية رابين وحزب العمل سلطة أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة منزوعة السلاح ستكون معها حدود إسرائيل الأمنية على امتداد نهر الأردن.
في تربة الدولة الثانية هذه وطبيعتها القومية اليمينية المتدينة نمت بذرة فكر الصهيودينية Religiösezionismus كحالة خاصة بإسرائيل يجمع بينها وبين الفاشية الألمانية قناعات صفاوة العرق وأيديولوجية قومية تساوت فيها أيديولوجيًا الصهيودينية الإسرائيلية مع جوانب من معتقدات الأيديولوجيا الألمانية، مع اختلاف جوهري أنها في حالة إسرائيل توراتية متدينة تعود جذورها لمؤسسها ووالدها الروحي مائير كاهنا (اغتيل عام 1990) وحزبه “كاخ” الذي دخل الكنيست الـ11 عام 1984، وبسبب ردود الفعل الدولية ألغيت مشاركته في انتخابات 1988 بعد تعديل قانون أساس الكنيست عام 1985 حيث شمل عدم مشاركة أي حزب في الانتخابات لا يعترف بيهودية الدولة أو يعارض الطابع الديمقراطي لها أو ينتهج دعاية التحريض العنصري. هنا وضعت الأحزاب الصهيودينية المتطرفة التي تطالب بيهودية الدولة وحدودها أرض إسرائيل والأحزاب العربية التي تطالب بالحقوق الديمقراطية وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في نفس مستوى التعامل القانوني.
مفصل تاريخي آخر مهم في مرحلة الدولة الثانية هو إقرار تعديل قانون المواطنة ومنع لم الشمل وقانون القومية عام 2018، الذي ثبت نهائيا أنه في حدود أرض إسرائيل بين النهر والبحر لا يوجد مكان لدولة غير إسرائيل اليهودية ولا يوجد حق تقرير مصير لغير الشعب اليهودي. وهذا ببساطة ما تقوله الأحزاب الصهيودينية وغيرها من أحزاب اليمين ويمين اليمين.
إسرائيل الدولة الثالثة وإستراتيجية سموتريتش لحسم الصراع برؤية 2050
توجت سيرورة تطور إسرائيل الثانية منذ عام 1977 بنتائج انتخابات عام 2022 التي زادت فيها الأحزاب اليمينية قوة وبشكل خاص انتقال حزب الصهيونية الدينية بقيادة سموتريتش وبن غفير إلى موقع الكتلة الثالثة في الكنيست حيث حصل على 14 مقعدا مقارنة بـ6 مقاعد في الانتخابات التي سبقت. بكلمات أخرى زيادة عدد المقاعد بـ57% وأكثر مصوتيه كانوا من بين أوساط الشباب والمجندين. في تجلي آخر مكنت هذه الانتخابات كتلة يمين اليمين بقيادة نتنياهو من فرصة تشكيل ائتلاف 64 مقعدا وحكومة يمين اليمين كما يطيب لبن غفير تسميتها. نصف هذه الكتلة تدعم فكرة إقامة الهيكل اليهودي، وفي هذه المرحلة بالذات استكمال تكثيف ممارسات الطقوس الدينية اليهودية في المسجد الأقصى، والتي بدأتها وبشكل تصعيدي مبرمج حكومة بنيت – لبيد وعباس.
هنا انتقلت الدولة اليهودية الكبرى ونظامها اليودقراطي الأبرتهايدي إلى مرحلة إسرائيل الثالثة. أهم أهدافها الإستراتيجية الانتقال من مرحلة إدارة الصراع إلى حسمه. حزب الليكود بقيادة نتنياهو يخطط لذلك من خلال تنفيذ اتفاقيات أبراهام والسلام الاقتصادي مع تثبيت حدود إسرائيل الكبرى بين النهر والبحر. نتنياهو يدعم إبقاء دور السلطة الفلسطينية كوكيل أمني مع تطوير ست محافظاتها في شكل حكم ذاتي. مع هذا الموقف يختلف حزب الصهيونية الدينية بكل مركباته، وعليه يطرحون رؤية أخرى لمعالم إسرائيل الثالثة حتى عام 2050.
في هذا السياق، يطرح سموتريتش خطة كاملة متكاملة تحت عنوان “الحسم بدلاً من إدارة الصراع”. هذه الخطة مستوحاة كما يقول سموتريتش نفسه، من رسائل يهوشوع بن نون لأهل بلاد كنعان قبل دخولها. بن نون خيّر أهل البلاد في حينه بين ثلاثة خيارات: من يستسلم للأمر الواقع فليفعل ذلك وينجى بروحه، من يقرر مغادرة البلاد فليغادر، ومن يقرر الحرب فليحارب.
وفي هذا السياق، قال المؤرخ الإسرائيلي، بروفيسور دانيئيل بالتمان، إن اتباع سموتريتش نظرية يهوشوع بن نون تضعه في صف واحد مع معتقدات النازية الألمانية. يذكر أن تاريخ يهوشوع بن نون مقرون بالمذابح البشعة، الإبادة والحرق لأريحا ومدن أخرى.
تنفيذا لهذه الخطة يطرح سموتريتش المراحل التالية:
أولا: إعلان السيادة الإسرائيلية على كل الضفة الغربية.
ثانيا: غربي نهر الأردن توجد قومية يهودية واحدة. غير اليهود سيعيشون كأفراد وليس كقومية مستقلة من خلال التنازل عن الحقوق القومية وقبول الحقوق كأفراد بما فيها انتخابات محلية لست محافظات: الخليل، نابلس، أريحا، بيت لحم، رام الله وجنين. في هذا السياق ستحل السلطة الفلسطينية والسلطة المدنية الإسرائيلية. من يرفض ذلك عليه أن يهاجر، ومن لا يقبل بهذا وذاك سيحسم الصراع معه عسكريا.
في هذا السياق، يؤكد سموتريتش على أن ما تحتاجه إسرائيل هو هزيمة الوعي والحلم وأمل التحرر عند الفلسطينيين. ويؤكد على القول بأن الإرهاب نابع من حالة اليأس التي يعيشها الشعب الفلسطيني هو كذب، الإرهاب ينبع من الأمل بأضعافنا وتقويتهم. وعليه “جيش الدفاع” لا يستطيع اجتثاث الإرهاب الذي يغذيه أمل التحرر.. يجب علينا إنهاء ذلك بقطع دابر أي بصيص أمل كهذا. والدليل على ذلك “عرب إسرائيل” طالما لم يكن عندهم أمل قومي عاشوا بسلام عشرات السنوات دون مشاركتهم في الإرهاب.
القضية الأخرى التي يعيرها سموتريتش اهتماما خاصا هي “الديموغرافيا”، إذ يؤكد على أنه في آخر عقدين هناك زيادة ملحوظة في الولادة عند اليهود وتراجعها وبشكل كبير عند العرب (1980 معدل الأسرة العربية 7 تراجع عام 2020 إلى ما دون 4). ويدعي سموتريتش أنه بالإضافة لتراجع الولادة هناك هجرة ما يقارب 20 ألف فلسطيني من الضفة وأكثر من غزة سنويا، زاعما أن “الاستطلاعات الفلسطينية نفسها تؤكد أن 30% من أهل الضفة و50% من أهل غزة يرغبون في الهجرة وعلينا إيجاد الصندوق والجسم الإداري لتسهيل ذلك عليهم بحسب الدول المطلوبة”.
في رده على سؤال: هل من الممكن تطبيق خطة الحسم هذه؟ أجاب أن “هذه خطة إستراتيجية من بين أهدافها القضاء على السلطة الفلسطينية، إلغاء الإدارة المدنية، إعداد خطة خارطة هيكلية برؤية 2050 لمضاعفة المستوطنات والمستوطنين”.
وعن سؤال ماهي المدة الزمنية لتنفيذ الخطة؟ رد: “سنوات حتى يتم تبنيها، أشهر حتى يفهموا أن إقامة دولة فلسطينية عكس أي سلام. وكل هذا متعلق بالوعي الإسرائيلي العام وهو جاهز لذلك. الحل الذي اقترحه للفلسطينيين مؤقت ومشروط في سلوكهم ومواقفهم. بمعنى أعمالهم تقربهم من هذا الحل أو تبعدهم عنه. المدة الزمنية لفحص كل ذلك بين 30 – 40 عاما. الامتحان بسيط إذا لم يكن إرهاب علامة على موافقتهم واستسلامهم للأمر والواقع. غير ذلك يعني عدم قبولهم. هنا لا بد من التنويه أنا لا أتوقع منهم أن يكونوا صهاينة، ولكن يجب عليهم التأكد أن حق تقرير مصيرهم كشعب فلسطيني لن يكون في أرض إسرائيل”. بما يخص المسجد الأقصى يكتفي سموتريتش في هذه المرحلة بحرية الصلاة وزيارة اليهود المكثفة له.
وعن إمكانية أن يسبب تنفيذ خطته لعزل إسرائيل كنظام أبرتهايد قال إن “ديمقراطية غير كاملة لا تعني أبرتهايد. نظام حر وديمقراطي لا يبدأ بحق الانتخاب والترشيح. تشمل الديمقراطية التي نقترحها سلاما، حرية وحقوقا مثل: الحق في الحياة والاحترام، التملك، الحق في الدين، وحرية الرأي، والتحرك. خطتي تمنح كل ذلك لعرب الضفة، وعليه هي ليست نظام أبرتهايد. صحيح هناك ما ينقص في سلة الحريات، وهذا يعني أنها ديمقراطية غير كاملة لأن الواقع لا يتسم بالكمال. معنى هذا لا يحق لهم التصويت للكنيست، بهذا نحافظ على الأكثرية اليهودية”.
وعن مصير عرب الـ48 يلوّح سموتريتش بنكبة ثانية بقوله “من ناحية عرب إسرائيل الكارثة الكبرى هي النكبة، والتي كان سببها حرب استقلال إسرائيل وليست حرب الأيام الستة. مع هذا طالما لم يكن لعرب إسرائيل آمالا وطنية وقومية عاشوا بسلام وأمان في ظل الحكم اليهودي لأنهم لم يشاركوا في الإرهاب”. وعليه “نستطيع قمع أي تطلعات قومية للفلسطينيين بالتعلم من تجربتنا مع عرب إسرائيل بعد قيام الدولة، وهذا ما يمكن تكراره أيضا في الضفة الغربية”.