المصدر: النهار العربي
سياسياً، لا مسوّغ للتفاؤل. فبغضّ النظر عمّن يخرج منتصراً من الأزمة السياسية التي أوصلت العراقيين إلى عدم الاكتراث بوعود الإصلاح ومحاربة الفساد، فإن إيران لم ترخ قبضتها الممسكة بزمام الأمور كلها في العراق. وهو ما كانت عليه الحال عبر السنوات الماضية.
ذلك يشكل سبباً للتشاؤم لا تنافسه في الإقناع أسباب التفاؤل التي تروّج لها الأطراف السياسية الحاكمة التي لا تزال تملك فرصاً كبيرة للبقاء في مواقعها. فليس من مصلحة تلك الأطراف أن تنتقل البوصلة إلى جهة أخرى غير الجهة التي يقع فيها الخيار الإيراني. ذلك لأن الجزء الأكبر من العناصر التي تتكوّن منها بنية النظام الداخلية، إنما هي مستمدة من الطابع الديني الطائفي الذي لا يمكن أن يخفف من غلوائه صعود عدد من الشخصيات المستقلة إلى مجلس النواب، لتكون بمثابة حاشية زخرفية لمتن فرض وجوده بقوة على المجتمع العراقي. ومهما قيل عن الفساد الذي أحاط ذلك المتن بعنفه المكشوف والمستتر على حد سواء، فإن استبدال متن آخر به ليس بالأمر الذي يمكن أن يتحقق في وقت قريب. وهو ما كشف عنه انسحاب التيار الصدري من المجلس والحكومة معاً.
وإذا ما عدنا إلى أصول اللعبة السياسية في العراق، فإنها قامت أصلاً على العداء للمحيط العربي، وما كان للأحزاب الحاكمة الآن أن تكون جزءاً من تلك اللعبة التي هي أصل النظام لو أنها اعترضت على استئصال عروبة العراق. فالدستور الجديد الذي لا ينص على أن العراق بلد عربي، كان قد ساهم في كتابته عدد من زعماء الأحزاب التي لا يزال لها حضور مهيمن على الساحة السياسية. ولأن العراق صار دولة مكوّنات كما نص عليه ذلك الدستور، فإن الحضور العربي قد اقتصر على المكوّن الطائفي السنّي، أما أبناء المكوّن الطائفي الشيعي فقد صاروا شيعة فقط من أجل أن يبقى الميزان مختلاً دائماً، لأنه لو تم اعتماد القومية العربية مقياساً، فإن الأكراد سيصبحون أقلية، وهو ما سيحرمهم من امتيازاتهم الحالية التي ما حلموا بها يوماً ولن يحلم بربعها إخوتهم في تركيا وإيران.
كان المخطط الأميركي يقوم أصلاً على تجريد العراق من عروبته، وهو ما سعى الأميركيون إلى فرضه تدريجياً من غير الاكتفاء بنصوص الدستور.
كان مجلس الحكم الذي أسسه الحاكم المدني بول بريمر بتركيبته الطائفية تمهيداً لشكل الحكم المستقبلي، غير أن الضغينة بين العراقيين كانت ضرورية لينتقل الفصل الطائفي من أروقة الحكم إلى المجتمع، فتم رسم خريطة للحرب الأهلية لن تترك أحداً في مكانه القديم، فهي حرب إزاحة، كانت أدواتها الميليشيات الشيعية التابعة لإيران وفرق الموت التي يجيد الأميركيون صناعتها والتنقل بها من مكان إلى آخر، وهو ما فعلوه في أوقات سابقة في دول أميركا اللاتينية. فظهر تنظيم “القاعدة” الذي لم يعرفه العراقيون من قبل، بل لم يسمعوا به، طرفاً في حرب، كانوا يجهلون علاقتهم بها. لقد تبين في ما بعد أن الهدف من تلك الحرب هو إقامة جدار عازل بين الشيعة والسنّة، ليكونا مثلما وصفهما الدستور مكوّنين غريبين عن بعضهما بعضاً، ولن يعود الحديث عن اللحمة الوطنية ممكناً. بعد ذلك صار تعبير “العرب السنّة” يجري على ألسنة بعض المثقفين العراقيين، باعتباره مصطلحاً يجب استعماله للإشارة إلى جزء من الشعب العراقي يقيم في مناطق ذات حدود واضحة. ولطالما اتُّهم العرب السنّة بالخيانة بسبب شبهات تتعلق بتمويل آتٍ من السعودية أو قطر، أما الميليشيات والأحزاب الشيعية فإن علاقتها بإيران لا يتم التعرض لها، لأنها أمر طبيعي في سياق العهدة الأميركية التي نصت على أن يكون الحكم محصوراً بالشيعية السياسية التابعة لإيران، من غير أن تكون هناك رغبة في تحجيم الدور الإيراني. ذلك ما كان مطلوباً من أجل أن لا يجد العرب فرصة لمساعدة العراق في الخروج من أزماته. فالجدار سيكون دائماً أكثر صلابة من أن يتم اختراقه بالنيات الحسنة.
ليس صحيحاً إذاً ما يُقال من أن العرب تأخروا على العراق، لذلك فإنه سقط في حضن إيران. كان المحيط العربي مستبعَداً منذ البداية وممنوعاً من أن يبدي رأياً إيجابياً في المسألة العراقية. لم يرغب الأميركيون في أن يكون العرب جزءاً من الحل العراقي الذي صار اختصاصاً إيرانياً. هل علينا أن نبحث عن السبب؟ العراق قوة حيوية لا ترغب الولايات المتحدة في أن تكون لها امتدادات راسخة تاريخياً في المنطقة. فهي تدرك أن علاقة مشوّهة وغير مبنية على أسس عميقة مع إيران لا تهبه فرص النهوض مرة أخرى على كل المستويات. فلم يكن الغزو الأميركي يهدف إلى اجتثاث البنية العسكرية للعراق فحسب، بل أيضاً إنهاء كل محاولات التقدم العلمي والاستقلالية الاقتصادية ومحو كل أثر للفكر القومي والتعريض به، باعتباره سبباً للانهيارات التي تعرض لها العراق، وبخاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
كانت هناك محاولات من بعض الزعماء العراقيين لترميم العلاقة بالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة لم تنجح، رغم أن الدولتين رحبتا بتلك المحاولات وأبدتا استعدادهما للاستثمار في مجالات اقتصادية وخدمية عديدة، في مقدمتها قطاع الكهرباء. فبعد كل محاولة تنشط الميليشيات العراقية التابعة للحرس الثوري الإيراني لتخريب أي مسعى في اتجاه الانتقال بتلك المحاولة من المجال النظري إلى المجال الواقعي، حتى بات من الصعب تصديق أن العراق سيخرج في زمن منظور من عزلته منفتحاً على محيطه العربي.