د. فادي الأحمر -أساس ميديا
مرّة جديدة يفشل اللبنانيون في إجراء الاستحقاق الرئاسي في موعده، وهو ما يهدّد بفراغ في موقع رئاسة الجمهوريّة المسيحي للمرّة الرابعة (الأولى كانت في العام 1988). وفي كلّ مرّة كانت الخسارة وطنيّة بسبب تعطيل الحياة السياسيّة وفتح المجال للتدخّلات الخارجيّة. وهذه المرّة ستكون كارثيّة بسبب الانهيار الحاصل في البلاد وعدم وجود حكومة قائمة تتسلّم السلطة كما ينصّ الدستور. لكنّها أيضاً خسارة مسيحيّة تُضاف إلى تراجع الدور المسيحي المتسارع في الحياة السياسيّة اللبنانيّة منذ حروب ميشال عون العبثيّة وصولاً إلى فترة رئاسته “الجهنّميّة”.
لبنان في قلب اهتمامات الفاتيكان
منذ أشهر أعلى البطريرك الماروني الصوت محذّراً من الفراغ، ودعا الأطراف السياسيّة إلى إجراء الاستحقاق الرئاسي في موعده. لكنّ صوت الراعي بقيَ “صوتاً صارخاً في برّيّة الجمهورية”.
اليوم تتّجه أنظار المسيحيين (أعني بهم العامّة الباقين في البلاد) أو بعض منهم، نحو الفاتيكان، فيسألون ويتساءلون: لماذا لا يتدخّل الفاتيكان؟ ويذهب البعض إلى الجزم أنّ لدى الفاتيكان مبادرة سوف يقوم بها في وقت معيّن!
هم مقتنعون بأنّ المرجعيّة المسيحيّة الأولى في العالم لن تترك لبنان. فهي خصّصته بسينودس بين عامَيْ 1994 و1997، وأعطته مساحة مهمّة في السينودس الذي عقدته من أجل الشرق الأوسط. وهذا صحيح. فلبنان في صلب اهتمام الفاتيكان، كما تؤكّد لـ”أساس” مصادر كنسيّة، أقلّه لسببين رئيسيَّين:
1- الحضور المسيحي في لبنان والدور السياسي والاقتصادي والتربوي والاجتماعي للمسيحيّين مهمّ جدّاً للحضور المسيحي في الشرق الأوسط، الذي هو بدوره مهمّ جداً في الحوار بين الأديان والثقافات وبين الغرب والشرق.
2- الفاتيكان قلق جدّاً من موجة هجرة اللبنانيين بسبب الانهيار الحاصل في البلاد، وبخاصة المسيحيّين منهم. وما يقلقه أكثر أنّها هجرة كوادر لها حضورها ودورها في قطاعات التعليم والتربية والصحّة والهندسة وغيرها. وهو ما يؤدّي إلى خسارة هذه القطاعات الكفاءات والخبرات لإعادة بنائها والنهوض بالبلاد.
الفاتيكان يتابع ولا يتدخّل
على الرغم من الأهميّة التي يوليها الفاتيكان للبنان، فهو لا يتدخّل في استحقاق انتخاب رئيس للجمهوريّة. لم يفعل ذلك في السابق ولن يفعله اليوم. والسبب أنّه يتعاطى سياسة الدول انطلاقاً من مبادئ وليس سعياً وراء مصالح. والسينودس الخاصّ بلبنان أكّد أنّ الفاتيكان يتعامل مع لبنان انطلاقاً من مبدأ أنّه رسالة تعايش بين المسيحيين والمسلمين في المنطقة والعالم. من هنا تؤكّد مصادر دبلوماسيّة وكنسيّة لـ”أساس” أنّ الدبلوماسيّة الفاتيكانية تتابع عن كثب الوضع اللبنانيّ. وهي قلقة جدّاً على لبنان ومستقبله. وهي تتابع تطوّر ملفّ الرئاسة الأولى، لكنّها لن تتدخّل مباشرة فيه لعدّة أسباب فاتيكانية ولبنانيّة ودوليّة نختصرها بالآتي:
1- تأثير شخصيّة البابا فرنسيس الثاني على طريقة أداء الفاتيكان في لبنان كما في ملفّات عالميّة أخرى. صحيح أنّ الفاتيكان دولة لها مؤسّساتها وإداراتها، لكنّها تؤدّي دورها تحت سقف “الطاعة الكنسيّة” للحبر الأعظم. من هنا تأثير شخصية البابا مهمّ على أداء الفاتيكان. والبابا الحاليّ، كما هو معلوم، يهتمّ أوّلاً للإنسان الفقير والمريض أكثر من اهتمامه بشؤون الدول الفقيرة والمريضة.
2- يأس الفاتيكان من وجوه الطبقة السياسيّة في لبنان، وخاصّة المسيحيين منهم. صحيح أن لا مكان لليأس في قلب المؤمن، فكيف في قلب المؤتمَن على الإيمان الكاثوليكي؟ لكنّ المسؤولين في الفاتيكان ما عادوا يثقون بهذه الطبقة السياسيّة وبقدرتها على النهوض بالبلاد وإنقاذها وحسن إدارتها، وهم منزعجون جدّاً من الانقسام العميق بين القادة المسيحيّين.
3- عدم وجود إرادة دوليّة جدّيّة لإجراء الاستحقاق الرئاسي في موعده. فرنسا تريد إجراء الاستحقاق في موعده لكنّها عاجزة. والولايات المتحدة الأميركية أعادت لبنان إلى موقعه في أسفل سلّم اهتماماتها بعد إنجاز اتّفاق ترسيم الحدود البحريّة الذي أرادته من أجل حليفتها الاستراتيجيّة إسرائيل. وهي لا تكترث لانتخاب رئيس في المهلة الدستوريّة. أمّا الدول العربيّة المؤثّرة في لبنان، فتريد رفع هيمنة حزب الله عن الدولة وليس انتخاب رئيس يساعده على إحكام قبضته عليها كما فعل ميشال عون.
4- الفاتيكان يرى أنّ الرئيس الجديد يجب أن لا يشكّل تحدّياً لأيّ فريق، بل أن يكون رئيساً يجمع اللبنانيين وقادراً على لعب دوره في إنقاذ البلاد من الانهيار. هذه الصفة “الفاتيكانيّة” للرئيس العتيد لا تلتقي فيها اليوم مع الدول المعنيّة بالشأن اللبنانيّ.
اليوم في لبنان سفير بابوي جديد هو المونسنيور باولو بوجيا. كان لسنوات سكرتيراً أوّل في السفارة. يعرف لبنان جيّداً. ويعرف الطبقة السياسية عن كثب. ربّما سيُبرز بأدائه دور الفاتيكان واهتمامه بلبنان، لكنّه سيبقى دوراً هادئاً، على وقع دبلوماسيّة الفاتيكان.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية