لعبة إردوغان بين بوتين وبايدن

 

محمد السماك -أساس ميديا

يقف حلف شمال الأطلسي (الولايات المتحدة والدول الأوروبية) والاتحاد الروسي قاب قوسين أو أدنى من المجابهة العسكرية المباشرة انطلاقاً من أوكرانيا. وبدأ الطرفان التدريبات على استخدام السلاح النووي، وذلك للمرّة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وحدها تركيا، وهي عضو في الحلف الأطلسي وتحافظ في الوقت ذاته على علاقات تعاون وثيقة مع الكرملين، تقوم بدورين متناقضين: تصدير القمح والحبوب الأوكرانية إلى الأسواق العالمية، والاستعداد لتصدير الغاز الروسي إلى دول أوروبا الغربية، خاصة بعدما توقّف الضخّ برّاً (عبر أوكرانيا)، وبحراً (عبر البلطيق) إلى ألمانيا.

كان سحب الصواريخ النووية الأميركية من تركيا في الستّينيّات من القرن الماضي أساساً في التسوية الأميركية السوفييتية (بين الرئيسين السابقين جون كينيدي ونيكيتا خروتشوف)، وهي التسوية التي أدّت إلى موافقة الكرملين على سحب صواريخه من كوبا، والتي أنقذت العالم من الحرب النووية.

تركيا تحافظ على ثقة الأطلسي وروسيا

اليوم لم تعُد توجد أسلحة نووية أميركية في تركيا. فيها صواريخ سوفييتية الصنع من نوع “س.س. 50” لتعزيز قدرات الجيش التركي، أحد أكبر جيوش دول الحلف الأطلسي عدداً. وهذا يعني أنّ السلاح الروسي في تركيا لم يؤثّر على عضويّتها في الحلف. وهو يعني أيضاً أنّ التسهيلات التركية لتصدير الحبوب الأوكرانية إلى الأسواق العالمية لم تفقدها ثقة الكرملين حتى إنّ الرئيس فلاديمير بوتين لم يتردّد في الموافقة على أن يجعل من تركيا (العضو في الحلف الأطلسي) مركزاً لتصدير الغاز الروسي الى أوروبا.

مع ذلك يتردّد السؤال التالي: هل بدأ العدّ العكسي لانسحاب تركيا من الحلف؟

يطرح هذا السؤال أمرين:

ـ الأمر الأوّل عسكري، وهو شراء تركيا منظومة صواريخ من نوع “س.س. 50” من روسيا. فكيف تبيع روسيا أسلحة حديثة ومتطوّرة لدولة عضو في حلف عسكري معادٍ لها ويحاول تطويقها وقام في الأساس لمواجهتها؟ ثمّ ما معنى امتناع تركيا عن المشاركة في المناورات العسكرية التي تجريها قيادة أركان الحلف؟ وما معنى انسحابها وهي الدولة التي تضع في تصرّف الحلف أكبر عدد من الجنود في مناورات عسكرية مشتركة؟

ـ أمّا الأمر الثاني فهو سياسيّ. فالعلاقات التركية – الأميركية تمرّ في أسوأ مراحلها منذ عهد دونالد ترامب (الجمهوري)، إلى عهد جو بايدن (الديمقراطي)، حتى إنّ الإعلام التركي الموالي للرئيس رجب طيب إردوغان خرج مراراً من التلميح إلى التصريح في توجيه الاتّهامات إلى الولايات المتحدة بالضلوع في محاولة الانقلاب الفاشلة التي استهدفت الرئيس إردوغان وحكومته. أمّا العلاقات بين الرئيس إردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين فتمرّ في شهر عسل طويل ومستمرّ بعدما تجاوزت موسكو وأنقرة تداعيات إسقاط الطائرة الحربية الروسية بصاروخ تركي في سماء سوريا. ثمّ جاء مؤتمر سوتشي حول سوريا ليفتح صفحة جديدة من الودّ والتعاون بين روسيا وتركيا.

تحولات تركية والسبب رفض انضمامها للاتحاد الاوروبي

من هنا السؤال: ماذا وراء هذه التحوّلات التركية ذات الأبعاد الاستراتيجية عسكرياً وسياسياً؟ للإجابة على هذا السؤال لا بدّ من الإشارة إلى الموقف السلبي للاتحاد الأوروبي من طلب انضمام تركيا إلى الاتحاد الذي قُدّم للمرّة الأولى في عام 1987. فعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود على هذا الطلب، لا يزال الاتحاد يماطل ويختلق الأسباب والأعذار لتأجيل بتّه. شعرت تركيا بالإهانة، وعبّرت عن هذا الشعور بتصريحات علنيّة حاولت بعض الدول الأوروبية احتواءها. ولكن طفح الكيل التركي عندما فتح الاتحاد أبوابه أمام دول صغيرة وتشكّل عبئاً عليه مثل سلوفاكيا ولاتفيا وأستونيا، وتشكل عبئاً عسكرياً على حلف شمال الأطلسي. أدّى هذا الموقف الأوروبي بما يتّسم به من تمييز ضدّ تركيا إلى إضعاف القوى المدنية “المتأوربة” في تركيا تحت عباءة الرئيس المؤسّس لتركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك. وبإضعافها انتفخت عضلات القوى الإسلامية في مناطق الأناضول المتشدّدة تحت عباءة الكرامة الوطنية التي تتعرّض للامتهان الأوروبي.

في عام 2003 عندما انتخب الأتراك الرئيس إردوغان للمرّة الأولى، كان انتخابه في ذلك الوقت تعبيراً عن هذه المشاعر، وعن الرغبة في الانتصار للكرامة التركية ولهويّتها الإسلامية التي تتعرّض للإساءة.

مع ذلك، ليس قرار التخلّي عن أوروبا (الاتحاد والحلف) قراراً سهلاً. وفي الأساس لا يوجد قرار من هذا النوع. ذلك أنّ المضاعفات السلبية له تُلحق أذى كبيراً بتركيا سياسياً وأمنياً واقتصادياً على حدّ سواء. ولذلك كان لا بد من الاستعانة بقوة مضادّة للمحافظة على التوازن العسكري والاقتصادي، فكان التفاهم مع روسيا. ويقوم هذا التفاهم على أساس أنّ روسيا نفسها تعاني ما تعانيه تركيا أيضاً، وهو تعامل الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي معها بغطرسة وفوقيّة. فخلافاً للوعود التي أغدقها الأوروبيون والأميركيون معاً على الرئيس الروسي السابق ميخائيل غورباتشوف بعدم توسيع الحلف الأطسي شرقاً، بالغ الحلف في التوسّع حتى وصل إلى حدود روسيا ذاتها بعدما ضمّ إليه مجموعة دول حلف وارسو القديم الذي كان الندّ للحلف الأطلسي، ووصل حتى أوكرانيا التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق.

فوقية الاطلسي والاوروبي تجمع تركيا وروسيا

وعندما جرى انتخاب الرئيس فلاديمير بوتين للمرّة الأولى في عام 2000، هدّد الحلفُ بمواصلة التوسّع شرقاً. لذلك لم يجد بوتين بدّاً من الردّ، من غير تهديد أو حتى إنذار، بإعادة احتلال شبه جزيرة القرم التي تعتبرها أوكرانيا جزءاً منها، علماً أنّ القرم كانت جزءاً من روسيا من عام 1783 حتى عام 1954. وقد أيّد الرئيس غورباتشوف قبل وفاته أخيراً مبادرة بوتين على الرغم من أنّ الأوّل يُعتبر صديقاً لأوروبا وللولايات المتحدة معاً.

لقد ذهب الرئيس بوتين في ردّ فعله على الغطرسة الفوقيّة التي يعامله بها الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي إلى التدخّل العسكري المباشر في سوريا حيث أقام لروسيا قواعد عسكرية جوّية وبحريّة ستبقى هناك لمدّة طويلة، ثمّ كانت العملية العسكرية لضمّ أجزاء من شرق أوكرانيا إلى الاتّحاد الروسي، الأمر الذي دفع العالم إلى شفير حرب نووية إذا انفجرت لن تُبقي ولن تذر.

يوظّف الرئيس إردوغان الموقع الجغرافي لتركيا ليلعب الدور الذي يلعبه بالفعل، حتى أصبح وسيطاً بين بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. أمّا نتائج الوساطة فأمر آخر. إنّها تتوقّف على المتغيّرات في لعبة الأمم الجديدة.

Exit mobile version