أميركا تمدّ جذورها في لبنان: عزف منفرد

 

جوزفين ديب -أساس ميديا

من العام 1943 حتى يومنا هذا، كان للولايات المتحدة الأميركية محطات ثابتة في لبنان، مفصليّة بين حقبة وحقبة في السياسة.

التاريخ المفصليّ في هذا العقد هو عامنا الحالي 2022 الذي شهد توقيع لبنان وإسرائيل اتفاق ترسيم الحدود، على الرغم من أنّ إسرائيل هي الدولة التي لا يعترف بها لبنان وأنّه منصوص في دستوره على العداء لها.

تحت هذا المبدأ وُلدت مقاومات تعدّدت هويّاتها حتى أصبحت ممثّلة بحزب الله إلى أن حان وقت توقيع اتفاق الترسيم الحدودي البحري الذي خطّطت له الولايات المتحدة ورسمت خطوطه الحمر وأرست قواعده بما يوائم مصلحتها ومصالح حلفائها. وهنا لا بدّ من استعراض بعض مراحل الوجود الأميركي في لبنان، من الوجود العسكري إلى الوجود المباشر اليوم من خلال قلاع سياسية وماليّة وأمنيّة لا قلاع عسكرية.

محطّات أميركيّة مفصليّة

لا بدّ من عرض المحطّات المفصليّة التي لعبت الولايات المتحدة دوراً خلالها، بصفتها مقرّراً في نقل لبنان من مرحلة إلى مرحلة.

1943: اتفاق فرنسي بريطاني على خروج فرنسا من لبنان وإعلان استقلال البلاد.

1958: ثورة تلاها دخول الجيش الأميركي لدعم الرئيس كميل شمعون ضدّ نفوذ الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ثمّ انتخاب فؤاد شهاب واتفاقه مع عبد الناصر على تحييد لبنان، في اتفق شهير داخل خيمة على الحدود اللبنانية – السورية.

1967: حرب الأيّام الستّة، ثمّ خطف فلسطينيون طائرة إسرائيلية، بعدما انطلقوا من لبنان، ما أدّى إلى قصف إسرائيليّ دمّر 13 طائرة مدنيّة بمطار بيروت عام 1968.

1982: دخول القوات المتعدّدة الجنسيات لبنان، وعلى رأسها القوات الأميركية.

1983: تفجير “المقاومة” السفارة الأميركية ومقرّ المارينز، وخروج الأميركيين من لبنان .

1988: دعوة أميركية إلى انتخاب رئيس للجمهورية: “مخايل الضاهر أو الفوضى “.

1989: رعاية أميركية – سعودية – سورية لاتفاق الطائف وإقرار وثيقة الوفاق الوطني.

1990: ضوء أخضر أميركي لسوريا للإطاحة بقائد الجيش حينذاك ميشال عون في قصر بعبدا.

2005: الرئيس الأميركي جورج بوش الابن هدّد بعمل عسكري ضدّ الرئيس السوري بشار الأسد في حال عدم انسحاب القوات السورية من لبنان.

2022: الولايات المتحدة الأميركية لعبت دور الوسيط والمخطّط لاتفاق الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل.

2023: موعد افتتاح السفارة الأميركية في عوكر ببيروت. وهي تعدّ أكبر سفارة للولايات المتحدة في المنطقة بالتوازي مع سفارتَيْها في بغداد وأربيل. وفي لبنان أيضاً مطار حامات مهبط طائرات أميركية للمساعدات.

قلاع نفوذ من دون عسكر

في العام 2005 انسحبت سوريا من لبنان مقابل تعاظم نفوذ حزب الله فيه. كرّت سبحة الأحداث إلى أن وضع الحزب سلاحه على الطاولة في السابع من أيار الشهير في العام 2008، وغيّر في اتفاق الدوحة بعض معادلات النظام عبر فرضه الثلث الضامن في تشكيل الحكومات و”رئيس توافقي للرئاسة” كان حينها ميشال سليمان.

أجمع أقطاب فريق الحزب وحلفاؤه على خطاب مفاده أنّ أميركا خرجت من المنطقة وأنّ خروج قوّاتها من العراق في العام 2011 ليس سوى دليل على ذلك. فظنّ كثيرون أنّ معادلات القوى اختلفت وتحوّل ميزان القوى لصالح الحزب وحلفائه، ومن ورائهم إيران. غير أنّ مسار الأحداث أثبت أنّ الأميركيين عدّلوا في سياساتهم اتجاه لبنان، بعد عودتهم إلى العراق وتمركزهم في سوريا لمحاربة “داعش”. وبدلاً من التدخّل بالواسطة عبر مجموعات سياسية أثبتت فشلها في وجه حزب الله، قرّرت الولايات المتحدة أن يكون دورها بالأصالة لا بالوكالة هذه المرّة.

في 17 تشرين الأول 2019، تقاطعت الظروف الاجتماعية والمعيشية الصعبة على اللبنانيين، مع فساد طبقة سياسية أفلست البلاد، ومع توافق دولي على تغيير المعادلة، فكان الانفجار الكبير الذي أعاد إرساء موازين القوى، خصوصاً بعد تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020، حتى وصل لبنان إلى التوقيع على الترسيم البحري مع إسرائيل، على أن يكون فاتحة استقرار أمنيّ على الحدود وازدهار اقتصادي بشروط أميركية واستثمارات ليست مسموحة إلا للأميركيين وحلفائهم.

هكذا عاد الأميركيون إلى لبنان، لكن هذه المرّة بالنفوذ السياسي والاقتصادي، المصرفي والمالي، الحدودي والبحري، وليس بالنفوذ العسكري المباشر ولا بالجنود والأسلحة. ما يؤشّر إلى أنّ “خروج أميركا من المنطقة” كان خروجاً عسكرياً فقط، مقابل تجذّر أمني وسياسي واقتصادي في بلادنا والشرق الأوسط عموماً، ليس أدلّ عليه من السفارة الأميركية العملاقة، الأقرب إلى “القلعة”، التي ينتهي بناؤها وتفتتح في الأشهر القليلة المقبلة.

“بحبوحة” أميركية في لبنان؟

من علامات تبدّل الأزمنة، إعلان السفيرة الأميركية دوروثي شيا أنّ “البلاد والمصارف ستسلك طريق التعافي قريباً والكهرباء ستكون في حالة تجدّد”. ومن جهتها، تحدّثت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، خلال زيارتها بيروت، عن أنّ “الخطر والتحدّي هما في تجنّب أيّ فراغ رئاسي بعد انتهاء مدّة الرئيس الحالي”، مشيرةً إلى أنّ “الوضع العالمي والدولي والوضع في لبنان لا يسمحان في عام 2022 بفراغ دستوري، عكس ما كانت عليه الأمور في 2014”.

حتى كبير المفاوضين اللبنانيين في ملف ترسيم الحدود البحرية وفق الإعلام الغربي، الياس بو صعب، ردّ منذ أيام على السؤال التالي: “من سيحمي ثروات لبنان البحريّة من السرقة؟”، بالقول إنّ “الأوضاع اليوم اختلفت ولبنان بات تحت المجهر، وكلّ شخص سيثبت عليه في المستقبل شيء من هذا القبيل (الفساد)، سيعاقَب”. فيما كان الوسيط آموس هوكستين يؤكّد في حديث تلفزيوني بعد الترسيم أنّه سيفعل ما بوسعه “ليحظى اللبنانيون بـ24 ساعة كهرباء”.

لهذه المواقف دلالات على مستوى الخريطة السياسية للبلاد في المستقبل. لا يعني هذا القضاء على حزب الله الذي يُعتبر القوة الكبرى في لبنان، بل إنّ مسار الأحداث يقود إلى أدوار سياسية وأمنيّة وعسكرية مختلفة عن تلك التي لعبتها القوى السياسية في الأعوام الماضية بعد 2005، ودائماً تحت سقف “اتفاق الطائف” كما أكّد بيان نيويورك الثلاثي الأخير، الذي حمل توقيع أميركا وفرنسا والسعودية، مشكّلاً درعاً سياسياً دولياً وأوروبياً وعربياً لهذا الاتفاق.

مع إعطاء الحزب ضمانات لا تصل إلى تغيير معادلات النظام، بدأ العزف الأميركي المنفرد في لبنان. وعاد لبنان ليكون “أولوية” أميركية، بالأصالة، لا بالوكالة.

Exit mobile version