نقضٌ لـ14 آذار وكرنفالٌ لوداع لبنان
محمد أبي سمرا -أساس ميديا
تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث.
في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً يُنشر على حلقات متتابعة، ويعيد قراءة وجوه الانتفاضة ونتائجها. وهنا حلقة أولى عن مشهدية 17 تشرين، وكيف أنّها بدت أقرب إلى وداع صورة لبنان الذي نعرفه، فهل كانت نقضٌ لمسيرة 14 آذار؟ أم استمرار لها؟
14 آذار واستعادة الزعماء
يحار المرء اليوم كيف ينظر إلى انتفاضة 17 تشرين 2019: هل هي انتفاضة 14 آذار معكوسة، أي نقضٌ لوجه من وجوه إرادة جمهور 14 آذار في تبجيل زعمائه المُغتالين واستعادة المنفيّين والمهمّشين منهم، أم هي استئناف واستكمال لتلك الانتفاضة الآذاريّة؟ وهل يمكن النظر اليوم أيضاً لـ17 تشرين بوصفها وداعاً كرنفاليّاً للبنان، قبل سقوطه في الإفلاس والخراب؟
فبين 14 شباط و14 آذار 2005، انتفضت البيئات اللبنانية كلّها، سوى بيئة الثنائي الشيعي، على الوصاية الأمنيّة والسياسية السورية الأسديّة، التي مجّدها الثنائي. وجاءت تلك الانتفاضة تتويجاً لنضالات ضدّ الوصاية، تصدّرتها البيئة المسيحية خصوصاً، بعدما سُلّطت الاغتيالات والتهميش والنفي على زعماء وسياسيّين لبنانيين بمقادير مدروسة ومتفاوتة.
كان اغتيال رفيق الحريري الحدث الأضخم والمدوّي في سلسلة الاغتيالات التي بدأت قبل اغتيال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط سنة 1977، واستمرّت تحصد سواه من زعماء الطوائف ومقدّميها ورجالاتها: تغييب السيّد موسى الصدر سنة 1978، واغتيال كلّ من بشير الجميّل مؤسّس القوات اللبنانية وقائدها المنتخَب رئيساً للجمهورية سنة 1982، ومفتي الجمهورية حسن خالد، ورئيس الجمهورية المنتخَب رينيه معوّض سنة 1989. وهذا إضافة إلى نفي زعماء مسيحيين، كأمين الجميّل وميشال عون في مطلع التسعينيّات، واعتقال قائد القوات اللبنانية سمير جعجع وسجنه سنة 1994. لكنّ الاغتيالات لم تتوقّف بعد اغتيال رفيق الحريري، بل استمرّت في أثناء انتفاضة 14 آذار 2005 وبعدها، وحصدت نحو 18 شخصيّة من مقدّميها والفاعلين فيها.
تصدّرت الانتفاضة إيّاها صور زعماء ورجالات الطوائف المغتالين والمنفيّين، وحوّل المنتفضون قبر رفيق الحريري في ساحة الشهداء أيقونة جامعة لانتفاضتهم، قائلين ضمناً للاحتلال الأسديّ: نريد الحرّية والسيادة والاستقلال، ونريد استعادة زعمائنا، والكفّ عن قتلهم ونفيهم وتشريدهم ومطاردتهم وسجنهم وتهميشهم.
انتفاضة التّطهّر من الزعماء
أمّا منتفضو 17 تشرين الأول 2019، فقالوا العكس تماماً: صبّوا شتائمهم على زعمائهم وحكّامهم، ووزّعوها متفاوتة عليهم في العلانية العامّة المشتركة وأمام عدسات البثّ التلفزيوني المباشر. وقالوا لأولئك الزعماء والحكّام: ارحلوا عنّا، لم نعُد نريدكم، لقد أفقرتمونا، نريد سواكم حكّاماً وزعماء صادقين وأطهاراً، وغير نهّابين، ونظيفي الأكفّ، وتكنوقراطيّين بريئين من السياسة وتدليسها وأكاذيبها ونهبها. بل نريد أن تعيدوا إلينا الأموال التي نهبتموها، الآن الآن وليس غداً، كي نتخلّص من إفقارنا ومهانتنا اللذين أوقعتمونا ولبنان فيهما.
هذا هو تقريباً البرنامج السياسي، الأخلاقي والعاطفي، لانتفاضة 17 تشرين الأول 2019. وهو برنامج يكاد يقتصر على شتيمة السياسيين والحكّام والزعماء: “كلّن يعني كلّن” بلا استثناء، إلا بمقادير إقذاع الشتيمة وسلاطتها في التعرّض لبعض الزعماء والحكّام، مثل جبران باسيل ونبيه برّي وزوجته، ولجم ألسنتهم عن التعرّض بمثلها لآخرين من أمثال حسن نصرالله وسعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع.
يراوح اختلاف مقادير الشتائم ونوعها ولجم الألسنة عنها بين الخشية والخوف والرعب في حالة حسن نصرالله، وبين شيء من العطف والتقليل من المسؤوليّة عن السرقة والنهب والإفقار في حالة سعد الحريري وسمير جعجع، باعتبارهما هامشيَّين في التركيبة السلطوية التي يتصدّرها حزب الحروب الدائمة والتهويل بها من خلف ستاره الحديدي، وتابعاه ميشال عون وصهره جبران باسيل بهذره اليومي السعيد بمناصبه، وخواء كلامه السيَّال، وحديثه عن صلبانه في غرامه بلبنان، وخلائه إلا من التحريض الطائفي والعنصرية على اللاجئين السوريين والدفاع عن إجرام بشار الأسد ونظامه المدمّر.
مأساة طرابلس السّعيدة
على مثالٍ شعري إعلانيّ راجَ في كتابات نزار قباني المتأخّرة، وبعدها في كتابات محمود درويش، شاعت أثناء انتفاضة 17 تشرين تسمية مدينة طرابلس “عروس الثورة”. وقال شابّ عن مشاركته في يوميّات الانتفاضة في بيروت، إنّ الحشود وحركتها اليومية في ساحة “النور” (عبد الحميد كرامي) الطرابلسية، ذكّرته بالثورة في مدينة حمص السورية في العام 2011.
بهرت يوميّات انتفاضة طرابلس شطراً واسعاً من اللبنانيين والناشطين في سائر ساحات انتفاضات المناطق اللبنانية. فأخذ بعضهم يزور “عروس الثورة”. وعاش أهالي طرابلس في أيّام احتشادهم في ساحة مدينتهم كأنّهم في عيد. فانضووا في شخصية معنوية أو رمزية، أو في هويّة جمعيّة عامّة مفترَضة للمدينة. وهذا ما أوحت به مشاهد احتشادهم شبه الثابتة والمتكرّرة في ساحة النور أمام المنصّة المركزية العالية، الواحدة والثابتة، مسلّطين أبصارهم إليها. وقد يكون هذا ساهم في إظهارهم على تلك الصورة الجمعيّة المتماسكة. وهم في خروجهم إلى الساحة الواحدة ومداومتهم على الاحتشاد فيها، كأنّما كانوا يقولون لأنفسهم وللّبنانيين الآخرين المنتفضين: انظروا ها نحن لبنانيون مثلكم، واجتمعنا وتوحّدنا. انظروا ها طرابلس كلّها هنا في الساحة منتفضةٌ مثلكم. وهي تنتفض ضدّ صورتها التقليدية الشائعة، وليست “قندهار” كما يروِّج البعض. بل إنّ ما تشاهدونه الآن هو صورتها الحقيقية التي نصنعها زاهية هازجة، فرحة ونابضة بالحياة. انظروا ها نحن ننتفض كلّنا ونثور، ونكسر تلك الصورة الكئيبة الشوهاء التي أُشيعت عنّا وعن مدينتنا، وسُجنّا وسُجنت فيها، ونحن وهي براءٌ منها.
انتفض الطرابلسيون على هامشيّة مدينتهم في الجغرافيا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية اللبنانية، ليكونوا وتكون المدينة في قلب الحدث الجديد الجميل وصدارته. ولم تعُد طرابلس حائرة إلى أيّ اتّجاه تدير وجهها، بل هي قالت إنّها مدينة لبنانية كاملة ومكتملة، وغير منقوصة أو مثلومة اللبنانيّة.
لكن في الحقيقة والواقع قد تكمن مأساة طرابلس في أنّها تصل دائماً متأخّرة إلى لبنان. فهي في انتفاضة تشرين يمّمت وجهها جنوباً في اتجاه لبنان وعاصمته بيروت. لكنّ الانتفاضة عينها سرعان ما تكشّفت عن أنّ لبنان أخذ يبتعد عن صورته الزاهية وصار غريباً عنها، ولم يعد يتعرّف عليها. وذلك بعدما ضربه الانهيار المالي والاقتصادي والسياسي، وأفلست منظومته السياسية الحاكمة للنهب، وصارت غير قادرة على توزيع الريوع والمنهوبات والمناصب على مواليها.
اليوم قد تكون مأساة طرابلس تلك، أي وصولها متأخّرة إلى لبنان، مثالاً لمأساة انتفاضة 17 تشرين الأول 2019. فالانتفاضة في وجه من وجوهها ووجوه قولها المضطرب، المتدافع والمتلعثم، أرادت استئناف صورةٍ ما فائتةٍ للبنان وتجديدها في لحظة غروب لبنان وأفول صوره كلّها. وما صبّته الانتفاضة من عتب وتذمّر وغضب وسخط وشتائم على منظومة الزعماء اللبنانيين الذين قال المنتفضون إنّهم قادوا البلاد وأهلها إلى الهاوية، إنّما ينطوي على ما يشبه الرثاء لحالهم وحال بلدهم، ويشي برغبتهم المستحيلة في استعادة زمن لبناني فات وانطوى عهده، وصار من الذكريات.
جيل الرومانسية الآفلة
كان شطر من ذلك الزمن وليد مخيّلةٍ رومنطيقية طروبة آفلة. وقد يكون جيل الانتفاضة الشابّ ورثها عن أجيال سابقة، ومزجها بطموحاته الجديدة. في هذا المعنى قد تكون انتفاضة 17 تشرين الأول مرثاة وداعيّة للبنان، واتّخذت شكل كرنفالات فرحة، دامعة وزاهية، وتنطوي على حزن رومنطيقي دفين.
هذا كلّه محاولة يائسة للخروج من الجمود والتخثّر والضيق والاختناق التي ألمَّت بلبنان وأهله منذ سنوات زئبقيّة يصعب تحديدها.
أمّا ذلك الزمن اللبناني الآفل، فكان على شيء من التفتّح واليسر والسعة، ويسمح لفئات واسعة باحتمالات نجاح يولّده الجهد، وينجم عنه ارتقاء اجتماعي في جيل واحد أو جيلين. وهو في الحقيقة والواقع كان زمناً يجعل البلد الصغير، المؤتلف من بلدان وجماعات، على شيء من سعة ورحابة واتّصال بالعالم. وهذا ما أتاح للبنان، البلد الصعب والسهل معاً، أن ينعم بتطوّر وانفتاح وبحبوحة اقتصادية، تمكِّن من شاء وأراد اجتياز الفواصل بين بلدان البلد الصغير وجماعاته الفسيفسائية القلقة الكثيرة.
لكن اليوم لم يبقَ في لبنان شيء من هذا تقريباً. وقد تكون انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 آخر ما تبقّى من صوره الآيلة إلى الاندثار.
لبنان بلا ذاكرة ولا مستقبل
يراودنا، نحن معاصري لبنان الستينيّات وحروبه الأهلية (1975-1990)، والحقبة التي تلتها وطَبَعها حضور رفيق الحريري وسياساته (1992-2005) وراحت تحتضر بطيئاً بطيئاً منذ حرب تموز 2006، يراودنا اليوم شعورٌ غير مسبوق بقوّته الساحقة: لقد مُحِقَ لبنان وفَقَد ذاكرته منذ انتفاضة 17 تشرين 2019. كأنّ ما يشبه مطرقة هائلة هوت عليه وعلينا منذ تلك السنة، فأطبقت عليه وعلينا حتى الاختناق والمحق اللذين قد يشبهان ما خلّفه محق الجراد إبّان الحرب العالمية الأولى. أو كأنّما فأس ضخمة هوت على الزمن والتاريخ اللبنانيين، فبترتهما عن ماضيهما كلّه، وجعلتهما ماضياً وتاريخاً بعيدين، نائيين وسحيقَيْ القِدَم. وبالطبع لا تقع المسؤولية على ناس 17 تشرين ولا على تظاهراتهم، بل على من أوصلوا البلاد إلى السقوط، فكانت 17 تشرين الاعتراض المدوّي على السقوط المدوّي.
المطرقة والفأس هاتان تشبهان تينك اللتين هوتا على ماضي البلدان التوتاليتارية وتاريخها، فمحقتهما، ليعيش أهلها في حاضر دوّامة وتيه ومآسٍ مدمّرة. حتى ليبدو لنا أنّ ما عشناه ونتذكّره من حياتنا قبل 2019 قد وَهَت صلتنا به وانقطعت، حتى أمسى شبحيّاً وظلالاً، أو سراباً خالصاً.
ماضٍ لسنا نحن من عشناه ونتذكّره، بل عاشته أجيال سابقة علينا، لا نعرفها ولا تعرفنا.
وهذا يعني أنّنا لم نعد نتعرّف على أنفسنا، كأنّما الآن وُلدنا مسنِّين، بلا ماضٍ ولا ذاكرة ولا تاريخ.