المصدر: النهار العربي
لا يتوقف الساسة، من رسميين وسلطويين ومعارضين، في لبنان اطلاقاً أمام الجديد الذي طرأ على الأدبيات الخارجية والدولية حيال الواقع اللبناني عقب التوصل الى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. على قصر المدة التي فصلت بين الإعلان عن اتفاق الترسيم وصدور العديد من الردود الدولية وما بينها من تحركات كالزيارة الخاطفة التي قامت بها وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا لبيروت، بدا لافتاً أن تتصاعد المعادلة الجديدة التي قرنت الترحيب الدولي ولا سيما منه الأميركي والاوروبي باتفاق الترسيم “التاريخي” بتنبيه اللبنانيين الى ان الاتفاق على أهميته لا يعوض ولا يغني عن موجبات الإصلاحات التي لا يزال لبنان يجرجر ذيوله في الثرثرة الفارغة حولها ولم ينفذ حرفاً بعد من جدول أولوياتها المعروفة والمثبتة.
يأتي هذا التطور في تعامل الدول الراعية للوضع في لبنان مع واقعه الراهن عند عتبة مفصلية بين استحقاقين مصيريين هما: الالتزام باتفاق الترسيم بكل ما يقتضيه عقب توقيعه قبل نهاية تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، والاستعداد لتلقي تداعيات الشغور الرئاسي الذي يبدو واضحاً أنه صار أمراً حتمياً لا مجال لقلب صفحته خصوصاً بعد المؤشرات التي أبرزها تعمد “حزب الله” بعد أيام قليلة من اعلان اتفاق الترسيم نهجاً هجومياً حيال القوى المعارضة من تحالف 14 آذار(مارس) سابقاً كأنه يطلق نفير المواجهة الجدية من الآن فصاعداً وفق توقيته وحساباته وأجندته. ذلك أن كل محاولات العهد العوني المتحفز للرحيل في 31 تشرين الأول عن قصر بعبدا لتوظيف اتفاق الترسيم الحدودي البحري في خانة تعويم رئيس التيار العوني جبران باسيل في اللحظة القاتلة لم تكن مؤاتية لجهة استمالة حليفه “حزب الله” باقتناص لحظة تقاطع المصالح الدولية والإقليمية التي استولدت اتفاق الترسيم والذي مرت الموافقة عليه قطعاً من طهران عبر القناة الفرنسية ، من اجل ان يتخذ الحزب جانب ترشيح باسيل وحسم الاستحقاق لمصلحته.
0 seconds of 0 secondsVolume 0%
ظل الحزب الذي لا يزال يقطر جميع قوى “الممانعة” على تريثه وتردده وعجزه حيال حسم موقفه من ترشيح باسيل أو خصمه ونده ضمن المحور سليمان فرنجية وانبرى لحجب موقفه هذا باتخاذ المنحى السهل المبسط أي الهجوم على مرشح المعارضة ميشال معوض ووصفه بأنه مرشح تحد واستفزاز وبانه صنيعة “القوات اللبنانية” . طبعاً هجوم “حزب الله” على مرشح المعارضة سيعمق أزمة الشغور بعد نشوئها في نهاية الشهر أقله لجهة الاجهاز على فرصة مبارزة تقليدية بين مرشح أو أكثر للمعارضة ومرشح أو أكثر لقوى الثامن من آذار ومعها طبعاً “التيار الوطني الحر”. ولكن الشغور لم يكن بحاجة الى هذا المؤشر للاثبات بأن قوى الارتباط بإيران ستعطل الاستحقاق لأن كل المعطيات الاستباقية لبلوغ الفراغ كانت تشير منذ بداية المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية بأن ثمة قراراً “استراتيجياً” بالتعطيل وترك الاستحقاق من دون حسم الى نهاية السنة الحالية على الأقل. ما جرى ويجري في مروحة التطورات الدولية والإقليمية من أزمة الطاقة العالمية والآثار المخيفة للحرب الروسية على أوكرانيا الى ترقب الجولات التي أفضت الى اتفاق الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل الى ترقب نتائج الانتخابات الإسرائيلية ومن ثم ترقب نتائج الانتخابات النصفية في الكونغرس الأميركي وما سيليها من انعكاسات على مصير الاتفاق النووي الإيراني الموضوع الآن في الثلاجة …كل هذا جعل المحور الممانع مطواعاً للغاية أمام الحاجات الاستراتيجية التي أملت على أسياد هذا المحور التزام “الانتظار الحميد” قبل “التورط” في حسم يتعين ان يملأ منصب الرئاسة اللبنانية. كل هذا كان في كفة وجاء النصف الاخر الأشد وطأة وإثارة لدوافع التريث ليسقط بقوة في الكفة الثانية مع اشتعال ما يرقى الى أوسع وأخطر الاحتجاجات التي عرفها تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ نشوئها.
سيغرق لبنان بعد الحادي والثلاثين من تشرين الأول الحالي في واقع شغور رئاسي لن يكون فريداً من نوعه بل اختبر لبنان نماذج وسوابق له كان أشدها وطأة واطولها الفراغ الذي سبق ولاية الرئيس الحالي ميشال عون. ولكن “النموذج” الجديد المهرول الان ينذر للمرة الأولى بهذا القدر من الخطورة “الكيانية” على الدولة وهويتها لانه في حال تمكن “المحور الممانع ” بطريقة ما من استثمار التعطيل بعد دوره في تمرير اتفاق الترسيم سيكون ذلك بمثابة الضربة القاصمة لهوية النظام وبقايا خصائص الديموقراطية التعددية في بلد صار تحت ركام الانهيار .