المصدر: النهار العربي
كرّس اليمين المتطرف موقعه في صميم النظام الحاكم في السويد من دون أن يدخل الحكومة الائتلافية الجديدة التي سيشكلها “الحزب المعتدل” مع حزبي “الليبراليين” و”الديموقراطيين المسيحيين”. فحزب “ديموقراطيو السويد” المتشدد سيكتفي بدعم شركائه في التحالف الفائز في انتخابات 11 أيلول (سبتمبر) الماضي، من الخارج.
توّج هذا الحزب مسيرته منذ 2005 بقيادة زعيمه الحالي جيمي أوكسون، بالفوز بـ 73 مقعداً ونسبة 20.5 في المئة من الأصوات في الانتخابات الأخيرة، ما يضعه في المرتبة الثانية بعد حزب “الديموقراطيين الاشتراكيين” الذي هيمن على الساحة السياسية بدءاً من الثلاثينات من القرن الماضي وبقي في السلطة منذ 2014. وهكذا يصبح الحزب الذي كان اليمين واليسار ينفران من التعاون معه حتى قبل أربع سنوات، “بيضة القبان” في الحكومة الجديدة، يحرك خيوطها من بعيد، ويهز أركانها، أو ربما يسقطها، متى شاء.
لم يعد صعود اليمين الشعبوي المعادي للمهاجرين الذي يعاني من لوثة “إسلاموفيا”، في أنحاء أوروبا، بما فيها الدول الاسكندنافية، غريباً. إلا أن وصول حزب متطرف له جذوره النازية، الى المركز الثاني في برلمان السويد، كبرى الدول الاسكندنافية الخمس، أمر غير مسبوق، ناهيك بإمساكه في خناق الحكومة، فكأنها هي التابعة له وليس العكس.
فقد أبرمت أحزاب التحالف الذي حصد 176 من أصل 340 مقعداً برلمانياً خريطة طريق لتفاهماتها حول كيفية إدارة البلاد، أطلقت عليها “اتفاقية من أجل السويد”. وبموجب هذه الوثيقة سيتولى “ديموقراطيو السويد” تعيين مسؤولي المكاتب الحكومية وبالتالي الإشراف على تطبيق السياسات التي تم إقرارها، كما سيشارك في هيئة جديدة تضم ممثلين عن أحزاب الائتلاف اسمها “مجلس التعاون”، للتداول بشأن الموازنة والسياسات المعمول بها في الميادين التي تغطيها الاتفاقية: الهجرة، والجنسية، الجريمة والعقاب، والرعاية الصحية، والاقتصاد، والطاقة والتعليم.
إضافة الى هذا كله، فاز “ديمقراطيو السويد” سلفاً بمناصب مهمة، من بينها نائب رئيس البرلمان ورئاسة أربع لجان برلمانية، ما سيسمح له بلعب دور فعال على صعيد ترجمة أجندته المتطرفة الى تشريعات. وليس هناك أدنى شك في أن المهاجرين الذين يقدر عددهم بمليوني إنسان بينهم نحو 200 ألف سوري والعديد من العراقيين والفلسطينيين والأفغان والأكراد… والأقليات العرقية، والمثليين، سيكونون في طليعة من يستهدفهم بشكل مباشر.
وفي طليعة ضحاياه غير المباشرين، “الحزب المعتدل”، أكبر أحزاب اليمين التقليدية الذي أخذت حظوظه تتضاءل مع اندفاعة حزب “ديموقراطيو السويد” الى الأمام. صحيح أن من المرجح فوز أولف كريسترسون، الوزير السابق زعيم “المعتدل” والمعارضة منذ 2017، بثقة النواب يوم الاثنين المقبل كرئيس للحكومة الجديدة، لكن اللافت أن نصيب حزبه من الأصوات في انتخابات أيلول (سبتمبر) الماضي قد تراجع عنه في 2018 بنحو 4 نقاط مئوية تكاد تعادل النسبة التي رفع بها حليفه المتطرف حصته!
وربما تعود رغبة “ديموقراطيو السويد” بعدم دخول الحكومة، في أحد وجوهها، إلى محاولة التهرب من المسؤولية عن الأخطاء والاخفاقات في خضم أزمات الطاقة وتكلفة المعيشة فضلاً عن الحرب الأوكرانية. ولعل نجاحه في زيادة نصيبه من الدعم الشعبي باضطراد في العقد الماضي قد جعله يعتقد أنه بات قاب قوسين أو أدنى من الفوز قريباً بأغلبية تكفي لتربعه على القمة من دون مساعدة كبيرة من أحد، فلماذا “يوسخ” سجله؟
0 seconds of 0 secondsVolume 0%
وسواء كانت طموحاته المفترضة هذه مجرد أضغاث أحلام أم لا، فهو بذل جهوداً حثيثة منذ اختراقه الانتخابي الأول في 2010 حتى بلغ موقعه المؤثر حالياً ضمن موازين القوى في البلاد. فقد قرّب نفسه من الناخب العادي، كما لطّف موقفه من الاتحاد الأوروبي، بعدما كان يؤيد الانسحاب منه. وسعى الحزب الذي تأسس في عام 1988 على أيدي مجموعة من النازيين الجدد ودعاة تفوق العرق الأبيض، إلى “تنظيف” نفسه من هذه العناصر في سياق محاولته لإضفاء مسحة من الاعتدال على بنيته.
لكن ثمة خصائص لا ينفع معها التشذيب والتمويه، لأنها تصنع هويته. من هذه السمات الأصيلة التي لا مفر له منها العداء للوافدين الأجانب الذي يعتقد أنه سبب وجوده في المقام الأول، والادعاء أنه يمثل السويد الحقيقية، والحرص على الظهور بمظهر القوي الذي يتعامل مع التهديدات الأمنية بصرامة. ساعدته أزمة المهاجرين في عام 2015 على رفع أسهمه. وعزّز موقعه بين جمهوره باتخاذ الإسلام عدواً لدوداً، على طريقة المتطرفين العنصريين في أوروبا، فحمّله مسؤولية الأخطار المحدقة بالبلاد والتي تبدأ بالهجرة، في رأيه، ولا تنتهي بموجة العنف والجريمة المتصاعدة التي تعصف بالسويد.
ولأن عضّ “ديمقراطيو السويد” على الجرح ورضي بالتحالف حتى مع عدوه الحزب “الليبرالي”، فهناك حدود للوفاق المصطنع بينه وبين حلفائه. وبعيداً من التفاهم بين الأحزاب حول الهجرة والتصدي للجريمة ورفع مستوى العقاب بحق المجرمين وزيادة عدد عناصر الشرطة وخفض الضرائب والقوة النووية، تتسع رقعة خلافاتها، لتشمل الضمان الاجتماعي والمساعدات الخارجية وحقوق الأقليات وغيرها.
توحي هذه التباينات العميقة أحياناً، من جهة، وحقيقة أن أغلبية التحالف اليميني في البرلمان لا تتعدى الصوت الواحد، من جهة ثانية، أن بقاء الحكومة حتى نهاية ولايتها التي تبلغ أربع سنوات، ليس مضموناً. وما يزيد الطين بلّة هو أن مصيرها عملياً في يد حزب متطرف طموح. وقدرها، كحكومة الأقلية الأخيرة في كل من السويد وإيطاليا، أن تبقى تحت رحمة حزب قادر على سحب البساط من تحتها كلما أراد.
وبينما يهلل المتطرفون السويديون، ومعهم إخوتهم في أوروبا، لتجربة جديدة ستشهد “تأهيلهم” للعمل من داخل السلطة التي يأملون بالقبض عليها لوحدهم ذات يوم، لا بد من أن يشعر الكثيرون بالخوف. فلن يطمئن المهاجرون لحزب ينادي بإعادتهم من حيث أتوا، كما سيكون تعامل أعضاء سلك الخدمة المدنية الذي افتخر على الداوم بحياديته مع رؤساء ومستشارين مسيَّسين يعينهم “ديموقراطيو السويد” محفوفاً بالمخاطر.
أما أوروبا، فهي الأخرى مقبلة على مرحلة قد تكون مملوءة بالألغام. هذا هو اليمين المتطرف يرسّخ أقدامه في دولة مهمة اقتصادياً كانت سباقة الى التعامل مع قضايا الجندر والمثلية بشكل مستنير، وهي تعد الخطى على طريق الانضمام الى حلف شمال الأطلسي “ناتو”، كما أنها ستتسلم الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في الأول من كانون الثاني (يناير) 2023 لستة أشهر. وإذا استطاعت بروكسل بقوة المال أن تخفف من غلواء وارسو وربما روما الجديدة، فلن تجدي ضغوطها المالية نفعاً في كبح جماح استوكهولم إذا قررت قلب القوانين الليبرالية رأساً على عقب، والتمرد على تشريعات الاتحاد الأوروبي بشكل أعنف من وارسو، أو التعاون مع موسكو، التي تربطها علاقات صداقة قديمة بحزب “ديموقراطيو السويد”.