سامر زريق – أساس ميديا-
منذ بداياته، انتهج نظام الخميني المسار الذي اتّبعه حسن الصبّاح، مؤسّس الحركة التي اشتهرت بـ”الحشّاشين”، وهي أخطر فرقة اغتيالات عرفها التاريخ الإسلامي.
وكما اعتصم “شيخ الجبل” في حصن “ألموت” جنوب غربي بحر قزوين، وأرسل فرق الموت لاغتيال “رموز الشرّ” من كبار القادة والعلماء والمفكّرين، مؤسّساً لفكر عمليات الاغتيال الانتحارية، كذلك فعل الخميني. فهو اعتصم بهضاب إيران وجبالها وعزلها عن العالم، ولم يكتفِ بقمع معارضيه في الداخل والتنكيل بهم، بل أرسل فرق الموت للقضاء على “الخونة” في المنافي، بلبوس دبلوماسي أحياناً، وبالتحالف مع شبكات الجريمة المنظّمة أحياناً أخرى. وعوض الفكر الانتحاري ابتدع “استراتيجية الرهينة” التي طبّقها بنجاح مبهر، وعلى نهجه يسير من خَلَفَه من الملالي.
دبلوماسيّون وقتلة
– في شباط 2021، أصدرت محكمة بلجيكية حكماً بالسجن لمدّة 20 عاماً على الدبلوماسي الإيراني أسد الله أسدي، الذي كان يشغل منصب السكرتير الثالث في السفارة الإيرانية في فيينّا، بعد إدانته بالتخطيط لهجوم يستهدف التجمّع السنوي الكبير لـ”المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية” الذي تُعدّ “مجاهدي خلق” عموده الفقري، والذي أقيم في باريس أواخر حزيران 2018.
أمّا التنفيذ فكان عبر خليّة تضمّ إيرانيّاً وزوجته يحملان الجنسية البلجيكية ويقيمان فيها منذ سنوات. لكنّ الشرطة البلجيكية تمكّنت من اعتقالهما قبل وقت وجيز من بدء التجمّع. كان بحوزتهما موادّ شديدة الانفجار وصاعق. وحسب ملفّات المحكمة في ألمانيا حيث اعتقل قبل نقله إلى بروكسل، كان أسدي رئيس مركز استخبارات النظام في أوروبا، وأدار شبكة عملاء في القارّة العجوز.
– قبل ذلك، استخدمت إيران شبكات الجريمة المنظّمة لاغتيال محمد رضا كلاهي صمدي أواخر عام 2015 بالرصاص أمام منزله قرب العاصمة الهولندية أمستردام. وصمدي المتّهم الرئيسي من أجهزة النظام بتفجير مكتب “الحزب الإسلامي الإيراني” عام 1981، كان لاجئاً في هولندا باسم مزيّف هو علي معتمد. وبعد 34 عاماً نُفّذ فيه حكم الإعدام عبر اثنيْن من القتلة المأجورين أقرّا أمام المحكمة بحصولهما على 130 ألف يورو لتنفيذ الجريمة.
– قبل حوالي ثلاثة عقود، في 24 نيسان 1990، اغتيل كاظم رجوي، الديبلوماسي الإيراني السابق في الأمم المتّحدة، وشقيق مسعود رجوي زعيم “مجاهدي خلق”. وذلك في اعتداء مسلّح في سويسرا يحمل بصمة نظام الملالي. فقد توصّلت التحقيقات إلى أنّ مجموعة من 13 شخصاً تولّت التنفيذ، جميعهم وصلوا إلى سويسرا بجوازات سفر حكومية جديدة تحمل تاريخ الإصدار نفسه، وأغلبها كانت بعنوان شخصي واحد تبيّن أنّه مبنى عائد لوزارة الاستخبارات الإيرانية. كما أنّ جميع أعضاء المجموعة استخدموا بطاقات سفر صادرة في نفس التاريخ وتحمل أرقاماً متسلسلة. ولم يلقَ القبض على أيٍّ منهم بسبب خروجهم السريع من سويسرا بفضل مساعدة السفارة الإيرانية.
أوروبا مسرح للقتل
– شهبور بختيار، سليل أسرة أرستقراطية من قبائل البختياري الشهيرة. كان واحداً من أبرز قياديّي الجبهة السياسية التي أسّسها السياسي الذائع الصيت محمد مصدّق، الذي قاد ثورة ضدّ الشاه وشكّل حكومة كان بختيار وزيراً للعمل فيها، وهي التي أمّمت النفط في إيران، بذاك القرار الجريء.
ومع أنّ بختيار سُجن لستّ سنوات بسبب نشاطاته السياسية المعارضة لحكم الشاه، إلّا أنّ الأخير اختاره لتأليف حكومة بُعيد انطلاق الثورة الإيرانية بهدف احتوائها، فقبِل بعدما اشترط على الشاه مغادرة البلاد ففعل. حاول القيام بإصلاحات مثل تفكيك البوليس السرّي “السافاك”، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيّين، وأنْ يقيم حكماً دستورياً، لكنّ عودة الخميني أطاحت بجهوده.
لم يكن بختيار مؤيّداً للثورة لأنّها تتعارض مع المفاهيم الليبرالية التي يؤمن بها، ففرّ إلى فرنسا، وأسّس المقاومة الوطنية في المنفى. تعرّض لمحاولتَيْ اغتيال نجا منهما، إحداهما عام 1980، نفّذتها “فرقة موت” بقيادة أنيس النقّاش اللبناني، الذي توفّي بفيروس كورونا في دمشق العام الماضي، وعنها يقول: “صدر حكم الإعدام بحقّ بختيار عن محكمة الثورة وأكّده الإمام الخميني فتطوّعت للتنفيذ”.
لكنّ الثالثة كانت ثابتة، إذ قُتل بختيار في منزله بباريس عام 1991 طعناً بالسكاكين. أحد منفّذي الجريمة علي وكيلي راد، الذي أُلقي القبض عليه، كان من أقارب علي هاشمي رفسنجاني رئيس الجمهورية حينها.
– أمّا النجاح الأوّل لفرق الموت فكان في شباط 1984، عندما اغتيل اللواء غلام علي أويسي وشقيقه في باريس بالرصاص على يد “قتلة محترفين” وفقاً للشرطة الفرنسية. وكان غلام الحاكم العسكري لطهران أيّام الشاه ويُعرف بـ”جزّار طهران”.
– وفي تشرين الأوّل 1987، عُثر على جثّتي علي توكّلي وابنه نادر، المعارضين الإيرانيين، مصابَيْن بطلقتين ناريين في الرأس في منزلهما بلندن. وأعلنت جماعة اسمها “حرّاس الثورة الإسلامية” مسؤوليّتها عن الجريمة، ويُشتبه في كونها ستارة لحزب الله الذي كان يستخدم في سنوات إرهابه الأولى أسماء منظّمات ليس لها وجود مثل “الجهاد الإسلامي” التي تبنّت محاولة اغتيال أمير بارفيز، رئيس الحركة الوطنية للمقاومة الإيرانية، في تمّوز من العام نفسه بسيارة مفخّخة انفجرت قرب أحد الفنادق في لندن.
كما تظهر بصمات حزب الله ضمن فرق الموت الإيرانية من خلال مصطفى مازح الذي انفجرت به العبوة التي كان يعدّها لاغتيال الكاتب سلمان رشدي تطبيقاً لفتوى الخميني. وعدا عن تكريمه سنوياً من قبل السلطات الإيرانية، ثمّة ضريح مخصّص لمازح في أشهر مقابر طهران نُقِش عليه “أوّل شهيد في مهمّة قتل سلمان رشدي”.
نصيب الكرد
يفوق الاضطهاد الذي يتعرّض له الأكراد في إيران ما يقاسونه في أيّ مكان آخر. وقد كان لهم حضور بارز في روزنامة فرق الموت.
– في 13 تموز 1989، اغتيل عبد الرحمن قاسملو، الأمين العامّ لـ”الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران”، وذلك حينما كان يُجري محادثات مع ممثّلين عن حكومة الملالي بطلب منها. وقضى معه أيضاً نائبه عبد الله القادري، والعراقي فاضل رسول، الأستاذ الجامعي الذي كان مكلّفاً من قِبل إيران بالوساطة.
– وبعد ثلاث سنوات، في تموز 1992، قامت “فرقة موت” إيرانية تضمّ عناصر من حزب الله باغتيال علي صادق شرفكندي، خلف قاسملو، ومعه 3 من زملائه بإطلاق النار عليهم في أحد مطاعم برلين. وقد أثبتت التحقيقات أنّ سلاح أحد القتلة الذي تمّ ضبطه يتطابق رقمه المتسلسل مع شحنة أسلحة اشتراها الجيش الإيراني قبل سنوات.
ومع أنّ الدول الأوروبية تدّعي على الدوام مناصرة القضية الكردية، إلّا أنّ واقع الأمر يشي بأنّها تستغلّ قضيّتهم لتحقيق مكاسب سياسية. فهي تقوم بدعم الأكراد في مكان، وتغضّ الطرف عن التنكيل بهم في مكان آخر. وهذا ما هو حاصل اليوم مع القصف الإيراني لكردستان العراق. ففيما تُفتح أبواب مقرّات الحكم في كبرى الدول الأوروبية للأكراد السوريّين، يُحرم أبناء جلدتهم في إيران من أيّ دعم.
– أيضاً للفنّ نصيبه في السجلّ الدموي لنظام الملالي، إذ قُتل في آب 1992 الشاعر والممثّل الإيراني فريدون فرخزاد، طعناً بالسكاكين في منزله بـ”بون” في ألمانيا. وفريدون فنّان شهير كان يتمتّع بحضور واسع لدى إيرانيّي المنافي، وكان كثير الانتقاد لنظام الملالي.
استراتيجية الرهينة
لم يكن نظام الملالي ليستمرّ في غيّه لولا تساهل الدول الأوروبية مع إجرامه. حتّى إنّها أتاحت له تطبيق الاختراع الخميني المتمثّل بـ”استراتيجية الرهينة”. فمن يعتقل من أعضاء فرق الموت، تقوم إيران بأسر مواطن عاديّ يحمل جنسيّة الدولة التي سجن فيها لمبادلته. وهذه الاستراتيجية عينها التي طبّقها حزب الله ببراعة في الثمانينيات.
من علامات هذا التساهل الإفراج عن أنيس النقّاش كعربون مودّة من الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران ضمن مسعاه لإعادة العلاقات الفرنسية الإيرانية إلى سابق عهدها، كما ذكر النقّاش بنفسه في كتاب “أسرار خلف الأستار” للكاتب صقر أبو فخر.
أمّا علي وكيلي راد الذي شارك في قتل بختيار فأُفرج عنه عام 2010 لمبادلته مع الأكاديمية الفرنسية كلوتيلد ريس التي اعتقلتها قوات النظام إبّان الثورة الخضراء. وأيضاً أُطلق سراح كاظم دارابي عام 2007، أحد أعضاء “فرقة قتل” شرفكندي، إثر صفقة سرّية بين ألمانيا ونظام الملالي. وذكرت صحيفة “دير شبيغل” أنّها ترتبط بمصير الجنديّين الإسرائيليَّيْن الأسيرَيْن وقتها لدى حزب الله.
يستمرّ هذا المسلسل حتى اليوم، إذ أقرّ البرلمان البلجيكي في تمّوز الماضي معاهدة تسمح بتبادل السجناء بين بروكسل وطهران، وهدفها مبادلة أسد الله أسدي بالبلجيكي أوليفيه فانديكستيل الناشط مع المنظّمات الإنسانية، والذي اعتقلته إيران في شباط الماضي.
لكن: أما كان أجدى بالنظام الإيراني أنْ يصرف كلّ هذا الجهد الجبّار الذي بذله طوال عقود للتخلّص من معارضيه… وتوجيه الجهود من أجل “إزالة إسرائيل” كما يدّعي دوماً؟ ولو فعلها هل كانت الدول الأوروبية لتغضّ الطرف عن إجرامه؟