شرعية بلا ديموقراطية… لمَ لا؟
يكاد «الحزب الشيوعي» الصيني يكون المكان الأكثر تظهيراً لتفاصيل مثيرة للدهشة حول كيفية حُكم الصين اليوم. فالصين يمكن وصْفها بالدولة الاستبدادية، لكنها ليست ديكتاتورية. إذ إن أحد أبرز ملامح الديكتاتورية هو أن تكتسب شخصية مهيمِنة واحدة شرعيةً تُخوّلها اتّخاذ القرارات الأكثر أهمّية للبلد بمفردها، وهو ما سرى بالفعل في عهد ماو تسي تونغ، لكن بالنسبة للعديد من الحكومات الصينية، منذ الثمانينيات، لم يكن هذا هو الحال. لقد صعد ماو مع مجموعة من القادة إلى مواقع بارزة، لكنه فقد سلطته لاحقاً، ثم رجع واستعادها إبّان الثورة الثقافية، وكذلك دنغ شياو بينغ، الذي ظلّ في منصبه حتى سنّ الشيخوخة، على الرغم من أن إدخال قاعدة الانسحاب الطوعي يمكن أن يُنسب إليه. لكن ما يتمّ تجاهله عمداً هو أن تسليم السلطة والانتقال بين الأجيال حدث عدّة مرات: أوّلها عام 1992، وثانيها عام 2002، وأخيراً عام 2012، حيث تقاعدت قيادات «الحزب الشيوعي» الأكبر سنّاً، واستُبدل بها فريق آخر من السياسيين الأصغر. على أن هذه العملية لا تجري بشفافية؛ إذ إن القادة رفيعي المستوى لا يترشّحون للانتخابات العامة، بل يصلون إلى مناصبهم من خلال سلسلة طويلة ومعقّدة من الخطوات البيروقراطية، والتي تبلغ ذروتها من خلال اختيارهم بالإجماع من قِبَل مجموعة من المسؤولين من الجيل نفسه، وهو إجماع يَعسر حتى على دارسي «الحزب الشيوعي» شرح مدى ارتباطه بشبكات الصداقات أو المحسوبية.
يوضح نوح فيلدمان في كتابه «Cool War: The Future of Global Competition»، أن الغربيين ليسوا معتادين فكرة اتّباع مِثل هذه العمليات الاجتماعية المعقّدة لاختيار المسؤولين الحكوميين، وأنهم يتوقّعون قاعدة يمكن التعبير عنها بكلمات بسيطة مِن مِثل: «يرث وليّ العهد العرش»، أو «المرشّح الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات يفوز»، أو «رئيس الوزراء يعيّن وزراء حكومته»… إلخ. لكن المؤسّسات الغربية غالباً ما توفّر أيضاً طرقاً معقّدة للتوصّل إلى إجماع؛ فالعديد من الصفقات السياسية لا تزال تُعقد خلْف الأبواب المغلقة، فيما يمكن لأجنحة الأحزاب دعم مرشّح واحد من دون إجراء عملية انتخابية، ومن ثمّ تمويله بكثافة بما يدفع الآخرين إلى الانسحاب من المنافسة. لذلك، من الخطأ أن يَعتقد الغربيون أن عملية اختيار الصين لشاغلي المناصب – بإخفاء هويّاتهم وشبكاتهم العلائقية – غريبة تماماً عليهم. في الواقع، ثمّة قواسم مشتركة بين اختيار الطبقات الحاكمة في الصين والولايات المتحدة أكثر ممّا يُعتقد عموماً. ولفهم التطوّرات المستقبلية لـ«الحرب الباردة» بين أميركا والصين، تَبرز الحاجة إلى فهم عملية الاختيار داخل أروقة «الشيوعي الصيني»، وكيف تتمّ الموازنة بين الرجال العصاميين والنُخب الوراثية، وهو ما يساعد على تَوقّع سلوكهم لدى وصولهم إلى السلطة.
«الحزب الشيوعي» كنُخبة مرنة
على الرغم من أن ذلك الواقع لم يتمّ الاعتراف به بالكامل في الغرب، إلّا أن الطبقة السائدة الصينية اليوم، هي نُخبة مرنة. صحيح أن 75 مليون عضو يجعلون «الشيوعي» أكبر من أن يكون نُخبة في حدّ ذاته، حتى في أمّة يبلغ عدد سكّانها 1.4 مليار نسمة، إلّا أن النُخبة الحاكمة كانت فعّالة للغاية في اختيار أعضائها من بين صفوف الحزب، الذي تُشكّل العضوية فيه الخطوة الأولى على طريق الحصول على المكانة السياسية. يجادل بعض الخبراء بأن الصين يديرها في الواقع مِن ثلاثمائة إلى أربعمائة من كبار أعضاء «الشيوعي»، وإذا كان ما تَقدّم صحيحاً، فإن هؤلاء القادة المخضرمين يعملون ضمن شبكات علاقات أوسع، تشمل عدّة مئات آلاف، في ما قد يكون حجماً مناسباً لإدارة مِثل هذا البلد الكبير.
وتعود جذور تَشكّل النُخبة الصينية إلى النظرية الشيوعية للثورة. إذ على الرغم من أن كارل ماركس طوّر نظرية الثورة العمّالية، إلّا أن الشيوعية، كحركة سياسية، أدركت دائماً «لا ثورية» العمّال من تلقاء أنفسهم، وأنهم بحاجة إلى قيادة، أو بتعبير أدقّ إلى «طليعة ثورية» من أشخاص غير عاديين، لديهم مواهب خاصة، ورغبة في التضحية، وشكل تنظيمي إنّما هو «الحزب الشيوعي». حتى اليوم، لا يزال الحزب قائماً على النموذج الأساسي للقائد الثوري السوفياتي، فلاديمير لينين، حيث يتمّ اختيار أعضائه، لا على أساس مدى التزامهم الأيديولوجي فقط، وإنّما أيضاً ربطاً بقدرتهم على القيادة والعمل في فريق. وفي الوقت نفسه، يجري تحديد الخصوم المحتمَلين وقمعهم بالتهديد باعتقالهم أو سجنهم أو إعدامهم. أمّا المناصب الإدارية الرئيسة، فيتمّ شغلها من خلال نظام «Nomenklatura»، الذي يَمنح أعضاء «الشيوعي» من خلاله مُوافقتهم على تصعيد مسؤولي كلّ مقاطعة أو منطقة، على أساسٍ من الجدارة، من دون إغفال الدور الذي تلعبه إقامة علاقات مع الأشخاص الذين يتّخذون القرار. ولعلّ أبسط أشكال هذه العلاقات، هو الرعاية المباشرة مِن اللجنة المعنيّة بالاختيار لشخص معيّن. وهكذا، يمتدّ خطّ عمودي من القاع إلى النقطة التي تضع فيها المحسوبية الشخص المعنيّ، بالتوازي مع امتداد خطّ أفقي مع أشخاص آخرين على المستوى نفسه من التسلسل الهرمي في الحزب والسلطة. وينضمّ عضو الحزب الصاعد إلى شبكة واحدة، وفي النهاية إلى شبكات متعدّدة، وبعد ذلك يَستخدم الروابط التي أنشأها كنقطة مرجعيّة ثابتة وكطريق إلى السلطة.
وفي أيّ شبكة سلطة معقّدة تمتدّ عبر أجيال متعدّدة، تلعب الروابط الأسرية دوراً حتمياً. لن يعرف الشاب الذي يتبع عضو حزب مسنّ بالضرورة كيفية عمل النظام – الذي يكتسب قيمة خاصة من دون قواعد مكتوبة -، ولكنه سيرث أيضاً العلاقات الفعلية مع أعضاء الشبكة الأبوية. ويَظهر هذا التأثير بشكل خاص عندما تطغى الكونفوشيوسية، كما هو الحال اليوم، على ديناميات التمرّد ضدّ الآباء التي نشأت في الصين خلال الثورة الثقافية. وبالنظر إلى أن المُحاربين القدامى الذين هم جزء من الشبكات، لديهم أيضاً أبناء ينضمّون إلى الحزب، فمن الطبيعي أن يقوم هؤلاء بتشكيل شبكات في ما بينهم. أمّا الشخص الذي ينضمّ إلى الحزب من دون روابط عائلية، فهو يبدأ من نقطة الصفر، وسيجد نفسه يتنافس مع ابن أحد قدامى المحاربين، ولذا سيكون عليه تعويض الضرر في البداية. ويمكن الاستفادة في خضمّ تلك المصاعب من الموهبة أو النشاط أو التدرُّب على القيادة، لكن سيتعيّن على المنضمّ بلا جذور، استثمار طاقاته لجذب الانتباه وتطوير شبكته، على رغم أن هذه المزايا ستظلّ أقلّ وضوحاً مما ستكون عليه إذا استوفى الشخص وعضو من النخبة الوراثية شروط البداية نفسها. بمرور الوقت، ستتشكّل مصالح مشتركة بين أعضاء الحزب بالوراثة وآخرين لم يرثوا مقاعدهم. ونتيجة لذلك، فإن الأعضاء الجدد الذين لا يرون أنفسهم جزءاً من نخبة، سيكون لديهم حافز للتحالف، لتشكيل شبكات على أساس الجدارة بدلاً من الروابط الأسرية. وفي مِثل هذا السيناريو، يتشكّل التناغم عبر التنافس داخل أروقة «الشيوعي الصيني».
الجبهات في الحزب
تُواجه الصين انقساماً أيديولوجياً كبيراً؛ فالمحافظون، الذين يُطلَق عليهم اسم «اليسار»، يحاولون الحفاظ على شكل تقليدي للشيوعية، ويشكّكون في فكرة إصلاح السوق، ويخشون الإفراط في حرية التعبير، وهُم مقتنعون بأن التدرّج هو النقطة الحاسمة للتطوّر الناجح، وأن التغيير السريع يمكن أن يطلق ثورة ذات عواقب وخيمة، ولذا يمكن وصفهم بأنهم أتباع جيّدون لإدموند بيرك (وإن كانوا شيوعيين). أمّا اليمين، فهو يريد التحرّك في اتّجاه الأسواق، مُضفِياً طابعاً مثالياً على دور الحزب كعامل تغيير، باعتباره إصلاح السوق وإطلاق حرية التعبير وإجراء الانتخابات المحلّية مظاهر غير مُقلقة، ومن الممكن إيقافها إذا دعت الحاجة إلى ذلك. لوقت طويل، تمّت إدارة هذا الانقسام بسهولة، من دون أن يتحوّل إلى صراع أيديولوجي أو طبقي. وحتى عندما تستمرّ التوترات، فإن قوّة النظام القائم على النُخب المرنة هي أن اليمين واليسار يمكن أن يتعايشا لفترات طويلة من الزمن، فيما لن يكون لدى أيّ منهما حافز لتدمير النظام بالكامل، حتى لو كانا يكرهان بعضهم البعض، فهما بالنتيجة جزء من هيكل السلطة، وليسا خارجها. وبالمِثل في نظام الولايات المتحدة، تعايَش الحزبان المختلفان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم يحاول أيّ منهما بجدّية تقويض النظام الأساسي الذي أقسم كلّ منهما عليه.
تناوُب النخب
يعرّف العديد من علماء السياسة الذين يَدرسون الديموقراطية، هذه الأخيرة، ببساطة، بأنها تناوُب النُخب على السلطة من خلال آلية الانتخابات، بما يحافظ على استمرار النظام. والحقيقة هي أنه عندما تكون هناك نخبة معيّنة في السلطة، فإنها تتوقّع أن تفقدها في مرحلة ما في المستقبل. وبالمِثل، عندما لا تكون في السلطة، فإنها تنتظر استعادتها مرّة أخرى. ونتيجة لِما تَقدّم، تدْخل النُخب في ميثاق غير معلَن، مُوجَّه إلى مصلحتها الأنانية، فيما يتعهّد كلّ منها باحترام حق غيره في المشاركة في الحياة السياسية. في الصين، لم تُطوِّر الفصائل الداخلية الرئيسة للحزب طريقة موثوقة للتناوُب على السلطة، أي لم تقسم «الشيوعي» إلى قسمَين، وتُحوّله إلى حزب سياسي عادي، وبالتالي الصين إلى ديموقراطية أوّلية. قد يحدث هذا في يوم من الأيام، لكن في الوقت الحالي، يفضّل الحزب عدم المخاطرة بالانقسام. ومع ذلك، ثمّة بالفعل انتقال للسلطة بشكل دوري من جيل إلى جيل، فيما يقع كلّ جيل مختار من أعضاء المكتب السياسي واللجنة الدائمة في فئة عمرية محدّدة تبلغ حوالي عشر سنوات. قد يكون التقليد الكونفوشيوسي الخاص باحترام العمر أحد أسباب نجاح هذا النموذج، لكن الكونفوشيوسية لا تستطيع أن تفسّر كلّ شيء؛ إذ إنها تعني قدرة القادة الأكبر سنّاً على التمسّك بالسلطة، وعدم التخلّي عنها بالتناوُب بينما لا يزالون يتمتعّون بصحة جيدة، وهو ما فعله قادة جيل ماو في مناصبهم حتى وهم في سنّ الثمانين، مِثل ماو نفسه، وأحياناً فوق التسعين، مِثل دنغ شياو بينغ. لكن الأمر ليس كما ذُكر بالنسبة إلى قادة اليوم، الذين يتخلّون عن السلطة بالتناوُب حول سنّ السبعين، لإفساح المجال للجيل القادم.
من جهة أخرى، يثير النظام مخاطر فساد كبيرة، ولكن «الشيوعي الصيني» اتّخذ مجموعة إجراءات لعلاج مشكلة التغيير في غياب الانتخابات، وذلك من خلال المكافأة العلنية للقادة الذين يقومون بعمل جيّد وفقاً للرأي العام، واستبعاد أولئك الذين لم يفعلوا، في ما يمثّل نوعاً من المساءلة. ومن خلال الشروع في تداول منظَّم للسلطة، فقد قلّل الحزب مِن خطورة الاضطرابات. وتجلّى نجاح هذا النموذج في أعقاب اختفاء شي جين بينغ لمدّة أسبوعَين، قبل شهرَين من الموعد المقرَّر لأن يصبح فيه القائد المعيَّن لقيادة الحزب ورئاسته، إذ عندما ظهر شي من جديد، لم يتمّ تقديم أيّ توضيح رسمي بشأن مكان وجوده أو سبب اختفائه، بل عاد القائد وسارت عملية الانتقال بسرعة، في ما أريد منه إيصال رسالة بأن الحاكم الشرعي يمكن أن يختفي من موقع السلطة من دون إلقاء العملية الانتقالية برمّتها في حالة من الاضطراب، الأمر الذي أظهر مدى استقرار جهاز الحزب في جوهره. قد يكون نظام الانتقال الحزبي لم يصل بعد إلى تَطوّره الكامل، لكنه أثبت أنه يمكن أن يعمل بشكل فعّال، حتى في حالات الضغط الشديد، وهذه هي الطريقة التي تسير بها الأمور في سياق شرعية عابرة، عندما يصبح ما يمكن أن يكون أزمة مدمّرة مجرّد حاشية في كتب التاريخ.