تتوافق غالبية التحليلات، المعادية والمؤيدة للصين، على أن تحوّلها إلى لاعب سياسي وازن على المسرح الدولي، بعد صيرورتها عملاقاً اقتصادياً مع بداية الألفية الثانية، تمّ بعد وصول شي جين بينغ إلى السلطة منذ 10 سنوات. بطبيعة الحال، تختلف هذه التحليلات حول الأسباب التي أدّت إلى هذا التحول، وتوقيته. فالدولة التي عرفت «صعوداً سلمياً» منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، بعد «تقارب تاريخي» مع الولايات المتحدة في بداياتها، وأضحت أحد أقطاب العولمة بعد انطلاق مسارها، باتت تصنَّف منافساً استراتيجياً وحيداً لواشنطن، «لديه النيّة والقدرة بشكل متزايد على إعادة تشكيل النظام الدولي»، وفقاً لاستراتيجية الأمن القومي التي أعلنت عنها إدارة جو بايدن في الـ12 من الشهر الحالي. ولا شك في أن المواجهة الدولية الكبرى الدائرة على الساحة الأوكرانية بين «الغرب الجماعي» وروسيا، وانعكاساتها الأيديولوجية، تزيد من حدّة موقف هذا الغرب من بكين، المتَّهمة بالتواطؤ مع موسكو، نتيجة ما يجمعهما من «كراهية للديموقراطية وقيمها».
كفين رود، رئيس الوزراء الأسترالي السابق، عبّر في مقال على موقع «فورين أفيرز» بعنوان «العالم من منظور شي جين بينغ»، عن اعتقاد غربي سائد مفاده أن التغييرات التي طرأت على سياسة الصين الداخلية والخارجية ترتكز أساساً على كون رئيسها «مخلوقاً أيديولوجياً» ملتزماً بثوابت الماركسية – اللينينية. يقول رود إن «شي أنهى حقبة الحوكمة البراغماتية غير الأيديولوجية، واستبدلها بصيغة جديدة من الماركسية القومية التي توجّه سياستها العامة في جميع الميادين… في ظلّ قيادته، الأيديولوجيا تحكم السياسة وليس العكس. اعتمد سياسة لينينية يسارية في الداخل، وماركسية يسارية في الاقتصاد، وقومية يمينية على المستوى الخارجي». مَن يعرفون الصين عن كثب، كما هي حال الديبلوماسي السنغافوري السابق، كيشور محبوباني، كانوا قد حذروا من اختزال الخلفية الفكرية والثقافية المركّبة والعميقة للمسؤولين الصينيين في البعد الأيديولوجي وحده، كونهم ورثة حضارة وتجربة دولتية عريقة، كما ذكر في كتابه «يوم ستنتصر الصين».
لكن المقاربة الغربية السائدة للشأن الصيني لا تختلف في منطقها عن تلك الاستشراقية المتّبعة حيال الفضاء العربي – الإسلامي، إذ يقوم باحثون وخبراء بصياغة تصوّر عن موضوع بحثهم مطابق لأهوائهم، «الشرق المتخيّل» في حالتنا، و«صين افتراضية» في الحالة الصينية، كما يشرح الأستاذ الجامعي الصيني، موبو غاو، في كتابه الهام «اختراع الصين». الواقع هو أن ما حدا بالقيادة الصينية إلى تبنّي سياسة خارجية حازمة ونشطة غايتها الأولى الدفاع عن أمنها القومي، هو إجهار واشنطن بلسان رئيسها السابق، باراك أوباما، في أواخر 2012 أن أولويتها هي احتواء الصعود الصيني. جميع الإجراءات في ميادين السياسة الداخلية والخارجية، كما في الميادين الاقتصادية والعسكرية ارتبطت بالضرورة الحيوية للتصدّي لهذه الاستراتيجية وإفشالها.
«الصعود السلمي» والمواجهة الراهنة
لم تكن القيادة الصينية تتوهّم بأن صعودها السلمي سيستمرّ إلى ما لا نهاية، وبأن أمبراطورية عاتية كالولايات المتحدة ستتقبّل صيرورتها ندّاً لها، وهي التي أعلنت منذ تقرير ولفوفيتز الشهير في 1992، الذي أعدّه الأخير لحساب إدارة جورج بوش الأب، أن واشنطن لن تقبل ببروز منافسين من المستوى نفسه على الساحة الدولية. وكنّا قد أشرنا في «الأخبار»، في 12 شباط 2021، إلى مقال نُشر على موقع «أنتي إمباير» بعنوان «كيف أشعلت حرب الخليج شرارة الثورة العسكرية الصينية»، للكاتب الصيني ليو زين، يذكّر فيه بأن القيادة الصينية أدركت، بعد ما سمّي حرب تحرير الكويت في 1991، وما أظهرته من تفوّق عسكري أميركي ساحق يوظَّف للتأسيس لهيمنة أحادية على العالم، أن بلادها قد تصبح في دائرة الاستهداف، وقرّرت الشروع في عملية تحديث ضخمة لقدراتها العسكرية لحماية سيادتها. وانطلاقاً من وعيها للبَون الشاسع بين قدراتها العسكرية وتلك الأميركية، غلّبت هذه القيادة سياسة «شراء الوقت» والعمل بصمت وبعيداً من الأضواء لإحداث قفزة نوعية في قدراتها الرادعة. ما لم يتطرّق إليه زين، هو أن بكين تجنّبت إثارة أيّ خلاف مع واشنطن بالنسبة لأيّ قضية دولية لا تتّصل مباشرة بها أو بجوارها القريب، واندرجت بحماسة في إطار مسار العولمة الذي أشرفت عليه واشنطن، وانضمّت بحماسة أيضاً إلى «منظمة التجارة العالمية» في كانون الأول 2001. هي اتُّهمت آنذاك بعدم امتلاك سياسة خارجية واقتصار علاقاتها مع بقية المعمورة على التجارة والاقتصاد.
في الحقيقة، هي سعت إلى تأجيل مواجهة تعلم أنها قادمة لا محالة، قدر المستطاع، لكن تنامي دورها الاقتصادي الدولي هو الذي سرّع وقوعها. يعتبر هو فونغ هونغ، أستاذ علم الاجتماع في جامعة جون هوبكينز، في كتابه الصادر هذه السنة «صدام الإمبراطوريات»، أن التمايز الأيديولوجي بين واشنطن وبكين لم يمنعهما من تطوير علاقاتهما الاقتصادية «وصولاً إلى درجة من التبعية المتبادلة»، ولا التعاون على المستوى الجيوسياسي في التسعينيات، وفي بدايات الألفية الثانية. التغيير الفعلي بدأ عندما بادرت الشركات العامة الصينية، بعد التباطؤ الاقتصادي الذي شهدته الصين في 2010، إلى توسيع كبير لنشاطها في الأسواق المحلية والخارجية. تمّ ذلك على حساب الشركات الأميركية، التي اضطرّت للتوقّف عن الدفاع عن الشراكة مع بكين في الولايات المتحدة. وأدى تصدير الصين لقدراتها الصناعية الضخمة إلى تنافس جيوسياسي مع واشنطن. الدينامية الناجمة عن هذه المعطيات تشبه إلى حدّ كبير، بنظر هونغ، النزاعات الإمبراطورية بين القوى العظمى في بدايات القرن العشرين. وكان فيليب غولوب، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في باريس، قد رأى في مقابلة مع «الأخبار» في 4 آذار 2021، أن صيرورة الصين قوة رأسمالية عظمى هو سبب عداء واشنطن لها.
استراتيجية التصدي للاحتواء
لا يمكن فهم «الاستدارة الكبرى» التي باشرها الرئيس شي جين بينغ على مستوى خياراته العامة في جميع الميادين خارج هذا السياق. مشروع «الحزام والطريق» في 2013 أتى ردّاً على «استدارة» أوباما نحو آسيا، أي نحو الصين، في أواخر 2012. عمليات مكافحة الفساد، التي تخلّلها تطهير واسع للمؤسسات السياسية والاقتصادية والمالية، إضافة إلى كونها مسألة حيوية لدولة قارية كالصين تشهد اختلالات طبيعية مرتبطة بتفاوت مستويات النمو بين مناطقها، وتحدّيات بيئية ناجمة عن النمو الصناعي الهائل والمتسارع الذي عرفته، إلا أنها هدفت أيضاً إلى ضرب النفوذ الأميركي المتغلغل في هذه المؤسّسات بفعل الصلات التي نسجتها واشنطن مع آلاف الصينيين الذين درسوا في جامعاتها وأضحوا بمثابة لوبي أميركي في داخلها. الأمر نفسه ينسحب على تعزيز دور الدولة والشركات العامة في المجال الاقتصادي للحدّ من استشراء الفوارق الاجتماعية، واعتماد سياسات أكثر عدلاً في توزيع الثروة. أمّا الأهم، فهو الجهد الكبير الذي بذلته القيادة الحالية لتطوير قدراتها العسكرية، والذي أدى إلى نمو صاروخي لميزانيتها الدفاعية بحسب «معهد استكهولم الدولي للأبحاث حول السلم». تمتلك الصين حالياً حاملتَي طائرات، وآلاف الصواريخ الباليستية المتوسطة والطويلة المدى، وأكبر سلاح بحرية في العالم، وترسانة نووية تضمّ 350 قنبلة ورأس نووي، وفقاً لنشرة «أتوميك سيانتيست». وتتوقع الاستخبارات الأميركية أن تصل هذه الترسانة إلى 700 رأس نووي في 2027. أمّا على مستوى الشراكات الاستراتيجية، فإن الصين قد وثّقت تعاونها مع روسيا في جميع الميادين، بما فيها تلك العسكرية، إلى حدّ تحوّلها إلى «صداقة بلا حدود»، وفقاً للبيان التاريخي المشترك الذي أعلنه الرئيسان الصيني والروسي في 4 شباط الماضي. طوّرت بكين، أيضاً، شراكات وثيقة مع عدد من الدول الوازنة في المنطقة، بينها إيران والسعودية، تتضمّن كذلك تعاوناً جدياً في المجالات العسكرية. تغليب منطق الشراكة على منطق الأحلاف سمح لبكين بأن تنسج شبكة واسعة من العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية مع بلدان الجنوب، دفعت بعض المعلّقين الغربيين إلى الحديث عن «تطويق للمركز الغربي من الأطراف». وعلى الرغم من أن صعود الدور الإجمالي للصين على الساحة الدولية يأتي كترجمة طبيعية لقدراتها المتعاظمة، فإنه ينجم أيضاً عن قرار سياسي بكسر مخطّطات الاحتواء والحصار الأميركية التي باتت رسمية ومعلَنة في وثائق الإدارات المتعاقبة في الإمبراطورية العاتية، وتقارير مؤسّساتها العسكرية والأمنية.