المصدر: النهار العربي
لم تعد التظاهرات الشعبية التي تعم مدن إيران، منذ السادس عشر من الشهر الماضي، مجرد احتجاجات على قانون إلزامية الحجاب. هذه التظاهرات هي أكثر من موجة احتجاجات، ولم تعد بعيدة من أن تصبح ثورة عارمة ضد النظام. بعضهم يقول إنها أكثر من احتجاجات وأقل من ثورة، أما نحن فنقول إنها قد تكون أقل من ثورة، لكنها تشبه كثيراً الثورة في كونها كسرت أهم ما يمكن لنظام دكتاتوري أن يستند إليه. كسرت حاجز الخوف، وكسرت العديد من المحرّمات التي تشكل أسس النظام الأيديولوجية والسياسية والأمنية. والأهم أنها حقّرت رموز النظام، من المؤسس إلى المرشد الحالي، مروراً بشخصيات ميثولوجية عند أهل النظام مثل قاسم سليماني الذي يمثل رمزية تصدير الثورة.
وما من شك في أن المرأة هي التي أطلقت الشعلة وتصدّرت مشهد الاحتجاجات في الأيام الأولى من دون كلل ولا ملل، وواجهت الشرطة وقوات “الباسيج” التابعة لـ”الحرس الثوري”، وكان أول من سقط بمواجهة القمع نساء بينهن العديد من طالبات الجامعات والمدارس الثانوية. ومع مرور الوقت توسعت حلقة الإيرانيين الذين اجتاحوا شوارع المدن الكبرى، بدءاً من طهران نفسها، لتشمل شريحة كبيرة ومتنوعة جداً من المجتمع الإيراني الشاب.
واليوم بعد نحو الشهر يقف النظام عاجزاً عن تقديم أجوبة عن الأزمة التي انفجرت بوجهه. فالمسألة تخطت قضية الحجاب. وكل ما تروّجه وجوه مقربة من النظام في الإعلام الخارجي عن أن ثمة مراجعة يجريها أركان النظام لتعديل بعض بنود قانون إلزامية الحجاب، لا تقارب لب المشكلة الهائلة التي يواجهها المرشد وأركان النظام ومؤسساته.
0 seconds of 0 secondsVolume 0%
ثمة بون شاسع بين المجتمع الإيراني والنظام، رغم قدرات هذا الأخير على الاستقطاب المادي والمعنوي ضمن مؤسسات النظام الأمنية والعسكرية والتجارية والصناعية والزراعية، إلا أن من اجتاحوا الشوارع من الصعب جداً استقطابهم تحت هذه العناوين. مطلبهم هو التغيير، والتغيير معناه العملي سقوط نظام الجمهورية الإسلامية التي شاخت بعدما تحولت في صلبها إلى تحالف بين المؤسسة الدينية الأصولية والمؤسسة الأمنية – العسكرية التي يجسدها عموماً “الحرس الثوري”.
هؤلاء الذين يحتلون كل ليلة شوارع مدنهم وبلداتهم، لا يرفعون مطلب إلغاء إلزامية الحجاب، فقد ألغته نساء إيران بالرفع والدوس والحرق. ولا يحملون مطلباً اقتصادياً أو اجتماعياً، بل إن شعاراتهم تتمحور حول إسقاط النظام وإطاحة المرشد الذي يعتبر قلب النظام الأيديولوجي. إن ثورتهم ثقافية بامتياز، ومن هنا قوتها وعمق جذروها. فالثورات الثقافية تصعب مواجهتها بالحديد والنار. الشعارات السياسية المرفوعة في التظاهرات هي نتاج رفض أسس النظام. لا بل رفض النظام من جذوره. وعندما يتم استهداف شخص المرشد الذي يعتبر روح هذا النظام بأسسه الأيديولوجية في شوارع مئات المدن والبلدات الإيرانية وساحاتها، فإن الرسالة تصبح واضحة: هذا جيل جديد يسعى إلى طي صفحة أربعة عقود عاشتها الجمهورية الإسلامية في إيران حتى الآن. هذا هو العنصر الجديد في ما يحدث راهناً في إيران. والشجاعة المذهلة في النزول إلى الشارع وتحدي نظام يستند إلى القوة والعنف بأسس أيديولوجية متزمتة، تدل إلى أن ثمة شيئاً قد انكسر إلى غير رجعة بين النظام والأجيال الإيرانية الجديدة.
حسناً، ماذا عن المرحلة المقبلة إذا استمرت هذه التظاهرات مدة من الزمن من دون أن تتأطر بشكل أو بآخر، لأنها سوف تنهك وتفقد زخمها تدريجياً. بمعنى أنها من دون أهداف محددة، أهمها استقطاب الأجيال الوسيطة وأساسها طبقتا التجار والعمال وقطاعات واسعة من أفراد الجيش النظامي وصغار الضباط. لن تتحول التظاهرات الشجاعة إلى ثورة حقيقية تؤدي إلى شل النظام جدياً. من هنا لا بد من مراقبة ما يحدث على الأرض وخلف هذه الظاهرة التي لا يمكن إلا الاعتراف لها بأنها المرة الأولى التي يهتز فيها استقرار النظام. فلا حوادث ما سُمّي بـ”الثورة الخضراء” سنة 2009 التي كانت صراعاً على السلطة، ولا الموجات الاحتجاجية عامي 2018-2019 التي كانت مطلبية اقتصادية أثرت في استقرار النظام. وحدها ثورة المرأة الإيرانية هزت النظام جدياً، وإن لم تستطع أن تسقطه لأن النظام سيحاول في لحظة ما أن يغرقها بالدماء، فهي حتماً فتحت الطريق أمام التغيير الكبير الآتي في إيران.