إيران توسّع دائرة القتل (1): اغتيالات في ألبانيا
|
سامر زريق -أساس ميديا- الجمعة 14 تشرين الأول 2022 |
في حمأة الانشغال العالمي بالحرب الروسية على أوكرانيا وآثارها، لم يحظَ خبر طرد ألبانيا البعثة الدبلوماسية الإيرانية بالاهتمام الذي يستحقّه، ولا سيّما في ظلّ التساهل الكبير الذي تبديه الدول الأوروبية تجاه عاصمة الإرهاب في العالم.
فما الذي اقترفته أيدي النظام الإيراني ودفع ألبانيا العضو في حلف الناتو إلى اتّخاذ مثل هذا القرار؟ وما الذي يجذب ملالي إيران نحو تلك الدولة الهادئة، التي تبعد عنها آلاف الكيلومترات، وليس لها أيّ تأثير سياسي يُذكر في محيطها البلقانيّ أو في القارّة العجوز؟
أوّل قطع علاقات بسبب هجوم سيبرانيّ
في 15 تموز الماضي تعرّضت ألبانيا لهجوم سيبراني أدّى إلى إغلاق العديد من الخدمات الرقمية والمواقع الإلكترونية الحكومية فيها. وبعد تحقيقات مكثّفة، أعلن رئيس الوزراء الألباني إيدي راما في 7 أيلول الماضي أنّ بلاده “قرّرت قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وأمرت بمغادرة البعثة الدبلوماسية الإيرانية في غضون 24 ساعة”. وأضاف في بيان عبر الفيديو أنّ “ردّ الفعل الصارم هذا يتناسب تماماً مع خطورة وجسامة الهجوم الإلكتروني الذي هدّد بشلّ الخدمات العامّة”. وأردف بأنّ “تحقيقاً معمّقاً قدّم لنا دليلاً لا لُبس فيه على أنّ الهجمات دبّرتها ورعتها طهران”.
هذه هي المرّة الأولى التي تقطع دولة ما، علاقاتها مع دولة أخرى، بسبب هجوم إلكتروني.
من جانبها اعتبرت شركة “مانديانت” الأميركية، الرائدة في مجال الأمن السيبراني، في تقرير أصدرته حول الحادثة، أنّ هناك “ثقة معقولة” بأنّ منفّذي الهجوم الإلكتروني قاموا به دعماً لجهود طهران المناهضة للمعارضين، وذلك استناداً إلى عوامل عدّة، منها التوقيت، ومحتوى قناة التواصل الاجتماعي المستخدمة لإعلان المسؤولية، وأوجه التشابه في الشفرة الإلكترونية للبرمجية الخبيثة مع تلك المستخدمة منذ أمد بعيد لاستهداف الناطقين بالفارسية والعربية.
تهديدات أمنية وإرهابية
أمّا المعارضون المستهدَفون فهم أعضاء منظّمة “مجاهدي خلق” الإيرانية، التي كانت قد أعلنت إرجاء مؤتمر عالمي في ألبانيا مخصّص للدعوة إلى تغيير النظام في إيران كان مقرّراً في 23 و24 تموز الماضي، أي بعد أقلّ من 8 أيّام على الهجوم السيبراني. وذلك بناءً على توصيات من الحكومة الألبانية لأسباب أمنيّة وتهديدات إرهابية. ومن جهتها حذّرت السفارة الأميركية في تيرانا من تهديد محتمل يستهدف المؤتمر المذكور، وحثّت مواطنيها في ألبانيا على تجنّب الحدث.
اللافت أنّه بعد كل ما جرى تعرّضت ألبانيا لهجوم إلكتروني آخر في 10 أيلول الماضي، استهدف نظام إدارة معلومات المسافرين، وأدّى إلى ظهور طوابير في النقاط الحدودية، حيث سُجِّلت البيانات يدويّاً، وأعلنت وزارة الداخلية في بيان أنّ “أحد أنظمتها الحدودية تعرّض لهجوم إلكتروني من المصدر الإيراني نفسه”.
تستضيف ألبانيا على أراضيها منذ عام 2013، حوالي 3 آلاف من أعضاء “مجاهدي خلق”، أبرز فصائل المعارضة الإيرانية في المنفى، غداة اتّفاق إنساني بين تيرانا وواشنطن منحتهم بموجبه الأولى حقّ اللجوء السياسي، الأمر الذي أدّى إلى توتّر علاقاتها بطهران.
في كانون الأول 2018، طردت ألبانيا 4 دبلوماسيّين إيرانيّين بينهم السفير، بعد اتّهامهم بالقيام بأنشطة مضرّة بالأمن القومي، في حين اتّهمهم المعارضون الإيرانيون بأنّهم عملاء للاستخبارات السرّية.
في 23 تشرين الأول 2019 كشفت أجهزة الأمن الألبانية عن اعتقال خليّة إرهابية تتبع وحدة العمليات الخارجية في “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، وكانت تخطّط لتنفيذ هجمات ضدّ “مجاهدي خلق”.
من جهة أخرى كانت تيرانا قد باركت اغتيال قاسم سليماني. وفي أوّل خطاب له عقب الاغتيال، قال المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي إنّ “هناك دولة أوروبية صغيرة لكنّها خبيثة وبائسة اجتمع فيها أميركيون وخونة للتآمر على إيران”.
شوكة في حلق الملالي
“مجاهدي خلق”، التي تعني “مجاهدي الشعب”، هي منظّمة ثورية يسارية تأرجحت بين الإسلام والماركسية. تأسست عام 1965 بهدف الإطاحة بشاه إيران ونظام حكمه. انتهجت الكفاح المسلّح في الستّينيات والسبعينيات، وكانت شريكة في الثورة الشعبية الكبيرة في إيران عام 1979، لكنّ أميركا وفرنسا وحلفاءهما فضّلوا دعم التيار الديني بزعامة روح الله الموسوي الخميني على حساب اليساريّين مثل حزب “تودة” و”مجاهدي خلق”، لإبعاد التأثير السوفييتي عن النظام الإيراني الجديد. فكان أنْ تفرّد الخميني بالحكم وأنشأ نظام “ولاية الفقيه”، ومع أنّ مجاهدي خلق حظيت باعترافه، إلّا أنّ ذلك لم يدُم طويلاً.
بدأ الخلاف بين النظام الجديد والمنظّمة اليسارية عندما رفض زعيمها مسعود رجوي دستور “ولاية الفقيه” الذي صاغه الملالي، والذي حصل على تأييد 98 في المئة من الشعب الإيراني في الاستفتاء الشعبي. وهذه نسبة وهمية أكثر مَن خَبِرها هم العرب. ثمّ تطوّر الخلاف إثر قيام رجوي بإعلان ترشّحه لانتخابات رئاسة الجمهورية في كانون الثاني 1980، وهو الترشيح الذي حظي بترحيب شعبي. فما كان من الخميني الذي استشعر الخطر على ديكتاتوريّته الوليدة إلّا أن تدخّل معلناً منع أيّ شخص لم يصوّت للدستور من المشاركة في الانتخابات، وحُذِف اسم رجوي من قائمة المرشّحين المقبولين للرئاسة. وغداة ذلك، فرّ الأخير إلى فرنسا عام 1981، وعادت المنظّمة إلى الكفاح المسلّح.
في 28 حزيران 1981، وقع انفجار مدوٍّ في المقرّ الرئيسي لـ”الحزب الجمهوري الإسلامي الإيراني” في طهران أثناء انعقاد اجتماع لقادته، فلقي 73 مسؤولاً فيه مصرعهم، كان أبرزهم رئيس السلطة القضائية وأحد رموز الثورة الإسلامية آية الله بهشتي. اتّهمت حكومة الخميني “مجاهدي خلق” بالوقوف خلف العملية وأصدرت قراراً بحظرها.
ومع أنّ المنظّمة تفاخر بنضالها المسلّح ضدّ نظام ولاية الفقيه، وبتنفيذها عدّة اغتيالات لأقطابه، ومنها اغتيال رئيس الجمهورية محمد علي رجائي ورئيس الوزراء محمد جواد باهنر، إلّا أنّها لم تتبنَّ مطلقاً انفجار مقرّ الحزب الإسلامي. وهناك الكثير من الشبهات حول قيام أجهزة الخميني بالعملية للتخلّص من قيادات كانت شريكة في الثورة، مثلما جرت العادة في كلّ الثورات، ولا سيّما تلك التي تتحوّل إلى نظام قمعيّ حديديّ.
ومن العمليات التي قامت بها “مجاهدي خلق” كانت محاولة اغتيال علي خامنئي في 27 حزيران 1981، وكان حينذاك ممثّل الخميني في المجلس الأعلى للدفاع. وذلك أثناء خطبة الجمعة التي كان يلقيها في مسجد “أبو ذرّ” بطهران، حيث انفجر مسجّل الشريط الذي كان مواجهاً له، مؤدّياً إلى إصابته بعدّة إصابات خطيرة، منها شلل دائم في يده.
الرقيب على إرهاب النظام
عام 1986 طردت الحكومة الفرنسية مسعود رجوي بسبب سياسة التقارب مع طهران، مثلما هو الحال اليوم ودائماً. فتوجّه إلى العراق الذي كان يخوض حرباً طاحنة مع إيران، وتحالف مع صدّام حسين الذي منحه ملاذاً له ولمنظّمته على أرض الرافديْن، وأعلن عام 1987 تأسيس “جيش التحرير” الذي حارب إلى جانب القوات العراقية.
عقب الغزو الأميركي عام 2003، أصدر مجلس الحكم العراقي قراراً بالإجماع بطرد المنظّمة، لكنّ قوات الاحتلال أبقت معسكر المنظمة الرئيس “أشرف” في محافظة ديالى تحت حمايتها بعد تجريدها من الأسلحة. وفي عام 2010 بدأت الحكومة العراقية بالتنكيل بقاطني المعسكر بعد انتقال مهمّة حمايته إليها، ثمّ أُعيد تجميع صفوفهم عام 2013 في معسكر “ليبرتي” قرب مطار بغداد قبل الانتقال إلى ألبانيا.
حتى اليوم لا تزال “مجاهدي خلق”، التي أعلنت تخلّيها عن السلاح وتحوُّلها إلى الحملات السياسية في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، هدفاً ثابتاً لإرهاب الدولة الذي يمارسه نظام الملالي الإيراني، ولا سيّما أنّها كانت أول من كشف عن البرنامج النووي الإيراني عام 2002، ودأبت على فضح الكثير من المعلومات حول المنشآت النووية والمواقع السرّية. أضف إلى ذلك حضورها الدائم في كلّ الاحتجاجات في الداخل الإيراني، ومنها الثورة الخضراء عام 2009، وهو ما أكّدته مريم رجوي رئيسة المنظّمة في حوار مع صحيفة “عكاظ” السعودية عام 2018.
ومريم هي زوجة مسعود الذي ترك لها مقعد قيادة المنظّمة منذ عام 1989، ضمن إطار لعبة تقسيم الأدوار. فبقي هو قائداً ميدانياً في العراق، في حين تولّت زوجته النشاط السياسي والإعلامي في أوروبا، إضافة إلى تعيينها عام 1993 على رأس “المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية” الذي يضمّ معارضي المنفى.
بيد أنّ مسعود لم يظهر علناً منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وثمّة شبهات عن قيام إيران بقتله عبر عملائها السرّيّين أو عبر الميليشيات العراقية التي أسّستها ورعتها. وقد أشار الدبلوماسي السعودي ورئيس الاستخبارات السعودية الأسبق الأمير تركي الفيصل، في كلمة له ضمن مؤتمر للمعارضة الإيرانية في باريس عام 2016، إلى موت مسعود، الذي وصفه بـ”المرحوم” أكثر من مرّة في كلامه، وسط اضطراب زوجته التي لم تعلّق أبداً.