وليد شقير – أساس ميديا
فور إعلان واشنطن “ختم” المحادثات حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، واتصال الرئيس الأميركي جو بايدن بالرئيس اللبناني ميشال عون لتهنئته بالإنجاز، بدأ سريان التكهّنات على المسرح السياسي حول التداعيات الداخلية لِما وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد بـ”الاتفاق التاريخي” مع لبنان.
تعامل بعض الصحافة المحليّة والأجنبية مع الاتفاق على أنّه عمليّاً بين “حزب الله” ومن خلفه إيران من جهة، وبين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية من جهة ثانية، بسبب نفوذ الحزب الحاسم في لبنان، وخصوصاً في الرئاسة اللبنانية، ولأنّ أمينه العامّ السيد حسن نصر الله قفز إلى المقاعد الأمامية في التفاوض قبل أشهر، حين بدأ يتناول هذا الملفّ، بعدما كان تركه لحليفه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون كي يتولّى المهمّة استناداً إلى الدستور الذي يولي الرئاسة التفاوض على المعاهدات والاتفاقات، وضمناً لحليفه الأساسي رئيس البرلمان نبيه برّي الذي تولّى التواصل مع الوسطاء الأميركيين، وآخرهم آموس هوكستين لنيّف وعقد من الزمن.
دور الحزب وإعدادٌ لمنافع فئويّة
لم يقتصر الأمر على نفوذ الحزب في الاستدلال على مشاركته في الاتفاق. بل إنّ مصادر بعض أعضاء الفريق اللبناني المفاوض لم تُخفِ أنّ النسخة ما قبل الأخيرة لمسوّدة الاتفاق التي صاغها هوكستين تمّت صياغة الملاحظات عليها بالتنسيق مع الحزب بعدما جرى إطلاع قيادته على النسخة التي تبلّغها لبنان.
بموازاة تقويم أبعاد الترسيم البحري الاقتصادية والأمنيّة والسياسية بين دولتين ما زالتا في حالة حرب، حَفَل الفضاء السياسي بالأسئلة عند البعض، وبالمعطيات عند البعض الآخر عن مكاسب ومنافع استثمارية وماليّة ينتظر أن يحقّقها فرقاء لبنانيون من ورائه. فحذّر فرقاء من أن يبدأ أقطاب الطبقة السياسية في تقاسمها من خلال علاقتهم بالشركات المنقّبة عن النفط والغاز بدءاً بحقل قانا وصولاً إلى سائر الحقول، فبل تحديد الكميّات التي يختزنها البحر. وتحت ستار الاحتفالية بالإنجاز، ولا سيّما من قبل الفريق الرئاسي، يتداول الوسطان الاقتصادي والسياسي منذ سنوات إنشاء أقطاب لبنانيين شركات تتولّى خدمات الشركات النفطية الكبرى على الأراضي اللبنانية، أو تكون شريكة لها عبر عقود ثانوية (subcontracting). وهذا ما دفع أكثر من جهة أهليّة وسياسية إلى التحذير من استغلال نافذين الوضع تحت ستار ما وصفه رئيس “الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط بـ”شركات وهميّة”، داعياً إلى إنشاء شركة وطنية تتولّى إدارة قطاع النفط والغاز، وصندوق سيادي لحفظ عائداته للأجيال.
إنهاء نزاع حدوديّ يحمي استقراراً أمنيّاً واقتصاديّاً
لكن البارز في تداعيات الاتفاق السياسية الأمنيّة، حسب وصف أوساط دبلوماسية، أنّه يُنهي نزاعاً حدوديّاً بين لبنان وإسرائيل ويخلق استقراراً أمنيّاً على الجانبين يدفعهما إلى تثبيته لحماية عائدات الثروة النفطية والغازية لكلّ منهما، على الرغم من أنّ لبنان سيتأخّر في هذا المضمار عن إسرائيل. لكنّ المؤكّد أنّ الاستقرار على جانبَيْ الحدود البحرية سيكون في مصلحة الجانبين. والمعنيّ لبنانيّاً هو “حزب الله” باعتبار أنّ الموقف اللبناني الرسمي هو التزام اتفاقية الهدنة للعام 1949 مع إسرائيل. ومع أنّ الاتفاق لا يشمل تحديد الحدود البرّيّة حيث هناك 7 نقاط متنازع عليها (بعدما تمّت معالجة أكثر من 22 نقطة عبر قوات اليونيفيل) يمكن أن تكون شمّاعة وذريعة لأيّ توتّر مع إسرائيل، فإنّ الأوساط الدبلوماسية ترى أنّ مصلحة إسرائيل ولبنان، ومن ورائه “حزب الله”، في الاستقرار بعد تحديد الحدود البحرية، ستنسحب على الحدود البرّيّة وستجري معالجة النقاط المختلف عليها فيها عبر الأمم المتحدة لاحقاً.
دخول سوق الطاقة
في تقدير هذه الأوساط أنّ الحزب سيحرص على الهدوء والاستقرار بعد الترسيم البحري لأنّ الدوافع الأساسية وراء تسهيل إتمامه متعدّدة، ومنها:
– حاجته إلى نقل أزمة البلد الاقتصادية المالية الخانقة التي تنعكس تدهوراً، إلى مرحلة تخفّف من تداعيات إفلاسه على سائر اللبنانيين، ومنهم جمهوره، وسط مظاهر انفكاك بعض هذا الجمهور عنه بسبب تحميله مسؤولية حماية الفساد وانغماسه في بعض مظاهره، ومنها التهريب الذي يحرم الدولة من العائدات، وتصاعد الحملة على سياساته التي تسبّبت في عزل البلد عن محيطه العربي على نحوٍ يعمّق مأزقه.
– دخوله وإيران، من لبنان، سوق الطاقة الذي يشكّل واحداً من أهداف الوساطة الأميركية للتعويض ولو الجزئي عن الغاز الروسي لأوروبا، عبر إنشاء أحلاف نفطية إقليمية في المنطقة، وتمديد أنابيب إلى أوروبا، لا بدّ أن يكون لإيران موقف منها وفق مصلحتها. ولاندفاع الحزب إلى استيراد البنزين والمازوت منها في الصيف الماضي، ثمّ مساعدته في تقديمها هبة الفيول لمعامل الكهرباء، مغزى في هذا السياق. إذ يمتدّ التنافس الإقليمي من منتدى شرق المتوسط للغاز الذي حوّل مصر بمشاركة إسرائيل و7 دول أخرى إلى ملتقى للتصدير، وصولاً إلى مشاريع سابقة لتصدير الغاز القطري عبر سوريا وتركيا، وإلى الغاز السوري الذي نالت موسكو امتيازات التنقيب عنه.
كلّ هذه الملفات باتت استراتيجية، وتشمل الحسابات البعيدة المدى. أي أنّ هناك أبعاداً استراتيجية تتخطّى مسألة استثمار الغاز اللبناني والإسرائيلي.
مكافأة الحزب رئاسياً؟
لكنّ الباحثين عن التداعيات السياسية والأمنية والاقتصادية الداخلية لاتفاق الترسيم مع إسرائيل يعتقدون أنّ إنهاء النزاع الحدودي وتغليب الاستقرار في المرحلة المقبلة وتداعياته الجيوسياسية ستقود تدريجاً إلى إضعاف ذريعة إبقاء الحزب على سلاحه تحت شعار “الجيش والشعب والمقاومة”. وهذا ما يفترض أنّه سيوظّف فائض القوّة السياسية الذي يتمتّع به راهناً في المعادلة المحليّة. والاستحقاق الأقرب في هذا السياق هو انتخاب رئيس للجمهورية. فهل “يُكافئ” الجانب الأميركي الحزب، ومن ورائه إيران، على تسهيل الترسيم باختيار رئيس يطمئنّ إليه لستّ سنوات مقبلة بعد مساهمته في تأمين الاستقرار على الحدود مع إسرائيل فيمدّد احتفاظه بالسلاح لمدّة معيّنة ما دام أنّه لن يستخدمه؟
يدعو بعض الأوساط المتتبّعة للمواقف الخارجية إلى رصد هذا الاحتمال في الأسابيع والأشهر المقبلة، إذا حصل الشغور الرئاسي، في ظلّ تقديرات أن يؤدّي هذا التوجّه إلى اختيار شخصية لا تنتمي رسمياً إلى خط الممانعة وقوى 8 آذار، بل تكون من المصنّفين في خانة المستقلّين، بحيث تجري صفقة بين أحدهم وبين الحزب. والوسط السياسي يلغط ببعض الأسماء التي يُجري أصحابها اتصالات مع الحزب بعيداً من الأضواء.
استبعاد مقايضة الترسيم بالرئاسة
في المقابل يستبعد بعض القيادات ذلك، ومنهم رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع الذي قال إنّ “لا علاقة بين ملف ترسيم الحدود البحرية والملفّ الرئاسي”، مستبعداً “وجود خلفيّات سياسية استراتيجية خلف اتفاق الترسيم. فالمسألة مصلحة مشتركة بين البلدين وحسب”، معتبراً أنّ “تدخّل حزب الله أخّر إبرام اتفاق الترسيم ولم يسهّله، كما يصوّر البعض”.
الذين يستبعدون هذا الاحتمال يحيلون مَن يطرحونه إلى تعاون الثلاثي الأميركي – الفرنسي – السعودي، الذي كان آخر مظاهره البيان المشترك الذي صدر عن وزراء خارجية الدول الثلاث من نيويورك، والذي أصرّ على رئيس يمكنه توحيد اللبنانيين ويعمل مع حكومة تنفّذ القرارات الدولية 1559 و1680 و1701 التي تتناول سلاح الحزب، وشدّد على مرجعية اتفاق الطائف.
هذا ويستعيد الوسط السياسي، الذي يستبعد ثمناً رئاسياً للحزب مقابل تسهيل الترسيم، المعلومات عن أنّ الدول الثلاث ترجمت بيانها الأخير بإبلاغ مَن يلزم من حلفائها وأصدقائها اللبنانيين أنّ وصول رئيس للجمهورية صديق لـ”حزب الله” يعني ببساطة أن لا مساعدات ماليّة للبنان على الإطلاق.
لن يتوقّف الحديث عن أثمان لتسهيل الترسيم من قبل الحزب أو من حلفائه في “التيار الوطني الحر”، مثل التمهيد لرفع العقوبات الأميركية عن رئيسه جبران باسيل، سواء كان أقرب إلى الرغبات غير القابلة للتحقيق أو يستند إلى سوابق أميركية.
أمّا توقّعات أثمان نفعيّة واستثمارية لبعض القيادات والجهات المحليّة في قطاع النفط مع بدء التنقيب، فمسألة لها حديث آخر نظراً إلى تشعّب تفاصيلها واستعدادات بعض من يسنّون أسنانهم في هذا المجال منذ سنوات.