خرائط قديمة لمياه لبنان: سقطت في يد إيران

 

محمد قواص* – أساس ميديا

في نقاش مع أحد أساتذة الجيولوجيا في جامعة لندن، أسرّ إليّ أنّ تقارير دوليّة متخصّصة تحدّثت عن حقول النفط والغاز في المياه اللبنانية منذ عقود. لكن حُظر تداول هذه التقارير وبقيت محصورة داخل غرف صنّاع القرار. ووفق روايته اتخذ قرار دولي آنذاك بوأد هذا الملفّ ما دام لبنان خاضعاً للوجود العسكري السياسي السوري.

غاز الولي الإيراني

انتقل لبنان بعد الانسحاب العسكري السوري منه عام 2005 من وصاية دمشق إلى وصاية طهران الأشدّ استحواذاً. ورعت شراكةٌ نسبية مع الدائرتين العربية والدولية الوصاية الأولى، فيما الوصاية الثانية تقوم أساساً على أشلاء الوصاية الأولى وعلى قاعدة العداء لدوائر الخارج جميعها. ومع ذلك عوِّم ملفّ الطاقة في منطقة لبنان الاقتصادية الخالصة، بما أوحى أنّ إيران وحزبها في لبنان سيكونان، في الوقت المناسب، شركاء مع الدوائر الدولية المعنيّة مباشرة بسوق الطاقة في شرق المتوسط (راقب نشاط السفيرة الفرنسية آن غريو في اتجاه ضاحية بيروت الجنوبية).

الأرجح أنّ “فورة” الغاز في شرق المتوسط باتت ظاهرة جيوستراتيجيّة كبرى لا يملك لبنان التشويش عليها. وتأتي إثارة مسألة الحقول اللبنانية تفصيلاً على هامش ورش ضخمة تنخرط فيها دول المنطقة. بمعنى آخر، باتت السوق واعدة وأصبحت الطاقة المتوسطيّة حاجة للسوق العالمية، وملحّة بسبب تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، وانطلق قطار الإنتاج والتصدير سواء استفاقت محطّة لبنان أو ظلت في غيبوبة.

في أيلول 2019 أُعلِن في القاهرة إنشاء “منتدى غاز شرق المتوسّط”. ضمّ هذا التجمّع الإقليمي 7 دول، هي مصر والأردن وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا وفلسطين. لم تُدعَ تركيا إلى هذا “العرس” بسبب خلافات مع أنقرة، فيما ظل لبنان وما زال خارج هذا التجمّع الدولي لإدارة قطاع الغاز.

تواكب تنشيط البحث في حقول لبنان مع الأجواء التي خرج بها اتفاق فيينا النووي مع إيران عام 2015 في عهد الرئيس باراك أوباما. قبل ذلك كانت واشنطن مهتمّة بحلّ عقد “الطاقة اللبنانية”، فأوفدت مبعوثها فريدريك هوف (2010-2012) صاحب تسوية وخطّ ترسيم حمل اسمه، فلم ينجح في إبرام الصفقة المأمولة. غير أنّ الملفّ بات في لبنان لاحقاً جزءاً من أوراق طهران المستقوية باتفاق فيينا القديم قبل 7 سنوات، فاستخدَمته حديثاً على طاولة فيينا الجديدة.

انسحاب روسيا

باتت طهران في الشهور الأخيرة أضعف من أن تفرض شروطاً على العواصم الدولية لتسهيل اتفاق الترسيم. لا بل بدا أنّ حزبها في لبنان يُسقط شروطاً سابقة ويرعى تخلّياً ملتبساً مهيناً عن 1,430 كيلومتراً مربّعاً كان قد حثّ الرئاسة اللبنانية على المطالبة بها. والمفارقة أنّ ما كان ابتزازاً تحوّل إلى حاجة لتحسين تموضع إيران داخل سوق الطاقة المقبل وتقديم نفسها شريكاً يسعى إلى تحصيل ما يمكن تحصيله داخل السوق المتوسّطي الواعد.

الهمم الدولية تستعدّ للتموضع سياسياً ولوجستياً واقتصادياً داخل ورشة لبنان الواعدة من النفط والغاز. وها هي باريس تسارع في دفع وزيرة خارجيتها كاترين كولونا في اتجاه بيروت. وكان لافتاً ما سُرّب عن امتعاض الوسيط الأميركي آموس هوكستين من شروط البنك الدولي وتلكُّئه في الموافقة النهائية على مشروعَيْ إمداد لبنان بالكهرباء من الأردن والغاز من مصر، مع وعد برفع القيود الأميركية المتعلّقة بقانون “قيصر” عن المشروع. والواضح من هذه الهمم أنّ إطلاق التنقيب عن الطاقة يحتاج إلى كلّ البنى التحتية الضرورية المصاحبة.

والحال أنّ انسحاب شركة نوفوتيك الروسية من كونسورتيوم التنقيب من رقعتين بحريّتين (4 و9) في المياه الاقتصادية اللبنانية قد يصبّ في صالح ضرورة حضور بيئة دولية جدّية لإحياء قطاع التنقيب عن الغاز في لبنان.

قطر وفرنسا ترثان

يُزيل انسحاب روسيا عوائق سياسية نشأت بسبب حرب أوكرانيا ويدفع باتّجاه حضور متعدّد أكثر انسجاماً. وعلى الرغم من عدم صدور تأكيدات رسمية، إلا أنّ ضجيجاً كثيراً قد أُثير حول دور قطري حيويّ للتوسّط وفكّ بعض عقد التسوية الحدودية، وأنّ شركة قطر للطاقة ستتولّى “وراثة” الحصّة الروسية (20 في المئة)، وستنضمّ إلى الكونسورتيوم مع “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية (40 في لمئة لكلّ منهما) لتفعيل ثمار اتفاق الترسيم العتيد على الرغم من التعثّر الذي أثاره الجدل حول “ملاحظات” بيروت على مسوّدة المقترح الأميركي.

لا تمسّ الملاحظات اللبنانية جوهر مقترحات المبعوث الأميركي آموس هوكستين ومضمون الاتفاق العتيد. لبنان وحزب إيران يتوسّلان رفع بيرق رفض التطبيع في سعي إلى تلبيس الصفقة لبوساً وطنياً ممانعاً. وبالمناسبة يسمح هذا الأمر بأن يتبجّح رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد عشيّة انتخابات الكنيست برفض ملاحظات بيروت، ويتيح خروج وزير الدفاع بيني غانتس للتهديد بخراب لبنان في حال اعتدى حزب الله على منشآت إسرائيل النفطية. وحين نتحدّث عن قرار بيروت فإنّنا جميعاً نتساءل عن عدم شفافيّة المفاوضات، وعمّن قرّر الهويّة المتغيّرة للمفاوضين ورسم بمزاجيّةِ الغرف السوداء خرائط الكرّ والفرّ.

هوكستين مرتاح

يتلاعب الطرفان (حزب الله وإسرائيل) وينهلان من المناسبة زاداً لتأكيد تمسّكهما بالمصالح والذود عن منعة وكرامة لبنان وإسرائيل. فالسوق المحلّي يحتاج إلى حقن شعبويّة، فيما السوق الاقتصادية، ولا سيّما في لبنان، تدفع في اتجاه إبرام الاتفاق، حتى لو اقتضى الأمر، وفق بيروت، ألا يُقام أيّ حفل لتوقيعه يظهر فيه إسرائيلي ولبناني في غرفة واحدة.

ذلك أنّ الصورة مهمّة لإقناع العامّة بأنّ اتفاقاً جغرافياً – اقتصادياً مع إسرائيل، بما في ذلك اقتسام جزء من مداخيل حقل قانا اللبناني عبر “توتال” الفرنسية، وفق ما يتسرّب من قُطَب الاتفاق الخفيّة، ليس شكلاً من أشكال التطبيع والتماس والتواطؤ مع العدوّ.

يبقى أنّ هوكستين غير متوتّر من ضجيج “الملاحظات”. ذلك أنّ انتخابات الكنيست تتطلّب هذا الشدّ والتشدّد. وللغرابة يبدو المفاوض الأميركي غير قلق على مسوّدة اتفاقه أيّاً كان زعيم حكومة إسرائيل المقبلة، وحتى لو كان بنيامين نتانياهو.

* كاتب لبنانيّ مقيم في لندن

Exit mobile version