رضوان السيد -أساس ميديا
تتضارب المعلومات والانطباعات بشأن مصائر التفاوض على الحدود البحرية بين لبنان (ومن وراء ميشال عون وجبران باسيل والياس بو صعب: زعيم الحزب المسلّح)، وإسرائيل (ومن وراء رئيس الوزراء يائير لابيد والكابينيت، خوفهم وجزعهم بنيامين نتانياهو، المرشّح العائد في الانتخابات).
الرفض الإسرائيلي
رواية الإسرائيليين أنّ المسوّدة التي أوصلها الوسيط الأميركي في ملف الترسيم آموس هوكستين إلى لبنان وإسرائيل، والتي حظيت بـ”نصف رضا” من الطرفين، وضع عليها لبنان أربع ملاحظات أو مطالب، في رواية، ومطلبين في رواية أخرى:
– إبقاء الحدود مؤقّتة لأنّ الإسرائيليين وضعوها بمفردهم عندما انسحبوا عام 2000.
– إحلال عبارة: “الواقع الراهن”، محلّ “الوضع القائم”!
الإسرائيليون من جهتهم، بعدما تلقّوا الردّ اللبناني، جمعوا الكابينيت (مجلس الوزراء المصغّر) ورفضوا المطلبين الاثنين، أو المطالب الأربعة، وطلبوا من الجيش “التأهّب إذا أصرّ لبنان على مطالبه” وبدأوا هم العمل في حقل كاريش. وهدّد الحزب المسلَّح بالتصعيد باتجاه الاشتباك. أمّا اللبنانيون فلم يقولوا شيئاً موحّداً، بل كان هناك المتفائلون مثل رئيس مجلس النواب نبيه برّي والنائب العوني المكلّف من رئيس الجمهورية، الياس بو صعب، والمتشائمون في الإعلام وأكثرهم من أنصار الحزب، وبقيّة اللبنانيين الذين ارتعبوا خوفاً من أهوال الحرب.
الأكثر اهتماماً واستعجالاً كان وما يزال الطرف الأميركي. إذ هو يريد أن تنجح وساطته، ويريد نفطاً وغازاً ولو بعد عشر سنوات، ولا يريد نزاعاً مسلّحاً وسط الاضطراب الإقليمي والدولي. ولذلك انصرف هوكستين إلى التواصل مع الطرفين، وأثنى على كليهما لصبرهما ودأَبهما وتعقُّلهما.
لماذا الجميع مستعجلون؟
الخلاف لم يعد على الاتفاق. فهو قد تمَّ بالفعل وما بقيت نقطة ولا فاصلة. وإنّما المشكلات في الظروف التي طرأت لدى الطرفين وعلى الطرفين. فقد كان واضحاً أنّ سائر الأطراف مستعجلة جدّاً: فعون مستعجل لأنّه يريد أن يسجّل نصراً في عهده ولصهره قبل انتهاء مدّته في آخر هذا الشهر. والأميركيون للقول إنّهم نجحوا في منع النزاع، وفي إرضاء الطرفين، وفي التدليل لإيران على أنّهم ما يزالون قادرين ويريدون اتفاقاً معها على النووي.
وقد تجاوب الإيرانيون وأطلقوا سراح أسير أميركي من أصل إيراني. والحزب المسلَّح كان مستعجلاً لأنّه بذلك يتحقّق له انتصار (بعدما “أرعب إسرائيل”) من دون أن يطلق رصاصةً واحدة. فحتى وليد جنبلاط معجب بدبلوماسية الحزب!
لابيد ونتانياهو وإيران
الذي حدث على الجانب الإسرائيلي فغيَّر الموقف، هو هجوم نتانياهو على الاتفاق الحدودي لأنّه كما قال ضدّ مصالح إسرائيل. ويعني خضوعاً لشروط الحزب المسلَّح. وقد لقي كلام نتانياهو صدىً لدى الرأي العامّ الإسرائيلي، بينما بدا لابيد متحيّراً: هو يريد إرضاء الأميركيين وهم يريدون الانتصار له، لكنّه يخشى الخسارة أو زيادتها في الانتخابات إذا وقّع على هذه الصفقة. ولذلك انصرف لتوسّل الأميركيين ألا يذيقوه الكأس المرّ، وأن يتركوا المسألة إلى ما بعد الانتخابات.
.. وتغيّر موقف الحزب المسلَّح ليس لأنّ في المسوّدة بنوداً لا تعجبه، بل بسبب الاضطرابات في إيران منذ مقتل الشابة مهسا أميني في مركز أمني، وقيام الأميركيين بفرض عقوبات على شخصيّات إيرانية بسبب العنف المفرط الذي استخدموه ضدّ المتظاهرين: فكيف يمكن إظهار الودّ تجاه الأميركيين في هذه الظروف؟ ولماذا لا ننتظر حتى تخمد الاضطرابات؟
هذا كلّه إلى ما يُقال عن ضآلة المخزون في حقل قانا. إنّما في هذه الحالة يكون الملوم الأستاذ نبيه، المصرّ على هذا الخطّ الحدودي منذ العام 2011 (مع حكومة نجيب ميقاتي آنذاك التي أبلغت بذلك الأمم المتحدة).
وعلى أيّ حال فالصحافي الإسرائيلي الذي يروّج لضآلة المخزون في حقل قانا قد يكون عاملاً ضدّ نتانياهو الذي يقول بغزارة المخزون لضرب لابيد في الخاصرة بعدما تخلّى عن قانا فأضرّ بمصالح إسرائيل.
من يجرؤ على الحرب؟
يدرك الحزب أنّ عدم الوصول إلى اتفاق سيُضطرّه إلى استخدام قوّته مع بدء الحفر في حقل كاريش، فينشب النزاع الذي يخشاه الجميع.
وهكذا فإنّ كلّ الأطراف محرجة، إنّما ليس بسبب بنود الاتفاق، بل لأسباب سياسية وليست تقنيّة. والأكثر إحراجاً هم الأميركيون الذين يريدون تحقيق انتصار يستخدمونه في الانتخابات النصفية، ويبنون عليه في المستقبل مصالح نفطٍ وغاز. وهم يريدون نصرة لابيد على نتانياهو، وظنّوا أنّ الاتفاق يفيده في الانتخابات ثمّ تبيّن العكس.
ولننظر مرّةً أخرى في أصول المسائل وخلفيّاتها. حكومة لابيد في إسرائيل ضعيفة أصلاً وتخشى خسارة الانتخابات بعد أسابيع. وكما سبق القول فإنّها اعتبرت الاتفاق لصالحها ثمّ قلب الجوَّ أمران: تهديد زعيم الحزب ومسيّراته للتخويف، فصار الرأي العامّ الإسرائيلي ضدّ الاتفاق. وجاءت استغلالات نتانياهو الانتخابية فلم تترك للحركة سبيلاً.
أمّا في لبنان فإنّ عوناً مهتمّ لقرب انتهاء مدّته، لكنّه كما هو معروف عائد لخطّ برّي خصمه. والقرار أوّلاً وأخيراً بيد زعيم الحزب المسلّح الذي ينظر في مصلحة إيران قبل رأس الناقورة. وسيُعتبر منتصراً، سواء أكان هناك اتفاق أم لا، لكن تبقى مسألة صغيرة جدّاً: من يجرؤ على الحرب أوّلاً؟
للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه رسالة فلسفية عنوانها: “ما وراء الخير والشرّ”. وكان يقصد بها تفكيك مفاهيم وتراكيب في الخير والشرّ والحسن والقبيح. بيد أنّ الرسالة اشتهرت بأنّها تعني “التورية” عندما لا يكون المقصود هذا الأمر أو ذاك، وإنّما أمرٌ ثالثٌ بعيد عن الخلاف الظاهر.
نعم ليست المسألة في الاتفاق أو عدمه، بل في الظروف المتغيّرة لسائر الأطراف: فهل ينجح الأميركيون في فرض الاتفاق على الطرفين وتجاوُز الاعتراضات التقنية والأخرى السياسيّة؟