محمد السماك -أساس ميديا-
يصادف هذا الشهر (تشرين الأول) مرور ستّين عاماً على أوّل مجابهة نووية أميركية – سوفييتيّة. كانت كوبا المجاورة للولايات المتحدة مسرحاً لها. وكان سببها نشر صواريخ سوفييتيّة حاملة للرؤوس النووية في الجزيرة، الأمر الذي يعني وضع المدن الأميركية كلّها تحت رحمة هذه الصواريخ.
انفجرت الأزمة بعد مرور عامين على تولّي الرئيس جون كندي الرئاسة وبعد مرور عامين ونصف العام على محاولة أميركية عسكرية فاشلة في خليج الخنازير للإطاحة بحكم الرئيس فيديل كاسترو الموالي لموسكو.
صباح يوم 16 تشرين الأول رأس الرئيس كندي اجتماعاً في البيت الأبيض وكان قد مرّ على الأزمة 13 يوماً. في هذا الاجتماع قال وزير الخارجية الأميركي إنّ ما يقوم به السوفييت أمر لا سابقة له، “لم نكن نتصوّر أبداً أن يجرؤوا على نقل صواريخهم إلى كوبا”.
حكمة ماكميلان البريطانية
هنا سأل الرئيس كندي: ولماذا فعلوا ذلك؟
جاء الجواب من الجنرال مكسويل تايلور، فقال: “لسببين: الأوّل قلقهم من الصواريخ التي أقمنا قواعد لها في تركيا والموجّهة إلى مدن الاتحاد السوفييتي. والثاني هو عدم ثقة السوفييت بفاعليّة الصواريخ البعيدة المدى التي يملكونها. ولذلك قرّروا اللجوء إلى الصواريخ القصيرة المدى التي يمكن أن تضرب أهدافها في الولايات المتحدة من كوبا”.
في ذلك الوقت كانت المخابرات الأميركية تعرف أنّ الصواريخ السوفييتية في كوبا التي صوّرتها طائرات الاستطلاع الأميركية لم تكن تحمل رؤوساً نووية، وأنّ الرؤوس النووية موجودة في مكان آخر من كوبا. ولم تكن المخابرات الأميركية تعرف هذا المكان. وهذا يعني أنّ القصف الأميركي للصواريخ لن يجرّد القوات السوفييتية في كوبا من سلاحها النووي.
هنا أدرك الرئيس كندي أنّ قصف مرابض الصواريخ السوفييتية لن يلوي ذراع موسكو، وأنّه ربّما يزوّدها بمبرّر للردّ بقصف نووي على المدن الأميركية.. فما العمل؟
في ذلك الوقت كان على رأس الحكومة البريطانية هارولد ماكميلان. وكان كندي يثق به وبحكمته. فاستشاره في الأمر. اقترح ماكميلان على كندي التصرّف بحكمة بما يحفظ ماء وجه الكرملين: أن تحرّك بريطانيا منظومة صواريخ “ثور” النووية في رسالة تحذير إلى موسكو، لكن في الوقت عينه يقوم الرئيس كندي بعمل يعكس كثيراً من الحكمة، بما يمكّن الكرملين ويشجّعه على قبول تسوية تؤدّي إلى سحب الرؤوس النوويّة للصواريخ الروسية من كوبا. وأكّد ماكميلان على أنّ المجابهة، بصرف النظر عن نتائجها السياسية، لن تؤدّي إلّا إلى كارثة لا سابق للإنسانية بها إلا ربّما سقوط الكويكبات من الفضاء على الأرض، ما أدى إلى انقراض فصائل عدة من المخلوقات ومن بينها الديناصورات.
لم يكن كندي يعرف أنّ الرؤوس النووية السوفييتية كانت رؤوساً تكتيكية صغيرة ولم تكن استراتيجية. ولو أنّه أمر بقصف مرابض هذه الصواريخ السوفييتية في كوبا، ولم يكتفِ بفرض الحصار البحري على الجزيرة، ولو لم يلجأ إلى الدبلوماسية لمعالجة الأزمة مع خروتشوف، لانفجرت الحرب النووية، ولكان العالم اليوم غير العالم الذي نعيشه.
شيء من الحكمة مع كثير من تدخّل القضاء والقدر أدّى إلى تسوية سَحَبَ بموجبها خروتشوف صواريخه ورؤوسها النووية من كوبا، واعترف كندي بخطأ عملية خليج الخنازير، وتعهّد بعدم غزو كوبا وبسحب الصواريخ الأميركية من تركيا التي كانت تشكّل خطراً على الأمن السوفييتي.
بذلك انطوت تلك الصفحة، لكنّ القصة لم تنتهِ ولن تنتهي ما دام السلاح النووي جاهزاً للاستعمال كما تشير إلى ذلك تطوّرات الحرب في أوكرانيا.
هل من أخرى أوروبية؟
عرفت الولايات المتحدة في تاريخها رئيسين فقط من المسيحيين الكاثوليك. هما جون كندي وجو بايدن. مع كندي – خروتشوف وقعت أزمة كوبا بأبعادها النووية التي أصبحت من الماضي. ومع بايدن – بوتين تقع أزمة أوكرانيا بأبعادها النووية التي أعادت إحياء تلك الأبعاد المرعبة. فهل يبحث الرئيس بايدن عن حكيم أوروبي مثل ماكميلان؟
للمرّة الأولى في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة وكوبا، تطلب الحكومة الكوبيّة رسميّاً مساعدة من الحكومة الأميركية لمواجهة النتائج المدمّرة للإعصار الذي هبّ على البحر الكاريبي ضارباً كوبا وفلوريدا وولايات أميركية أخرى، وأدّى إلى خسائر مادّية فادحة.
يدلّ هذا على أنّ التسلّح النووي لا يحلّ مشكلة. العلاقات الإنسانية هي التي تحلّ كلّ المشاكل من كوبا إلى أوكرانيا.. مروراً بتايوان.