تدخل رئاسة الجمهورية مرحلة حساسة مع تصاعد الخشية من الفراغ الرئاسي مرة جديدة. بين القوى المؤثرة في الانتخابات، تحوّل حزب الله إلى قائد أوركسترا. وبين مرحلة ما قبل الحرب وما بعدها والطائف، تغيّر دور الطائفة الشيعية التي تحولت بفعل صعود تدريجي لحركة أمل في الحرب، ومن ثم حزب الله الطالع من رحم الحركة مُتهَماً بالإرهاب الى مقاومة ضد إسرائيل، فحزب ذي وجهين: عسكري وسياسي. بين 1992 و2005، كانت الفترة التأسيسية للحزب سياسياً، وما بعد 2005 صار في واجهة الحدث، وعنصراً أساسياً في السياسة المحلية، عدا الإقليمية الفاعلة. وبلغ ذروة أدائه مع انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، في انتظار أن يتبلور حضوره وتأثيره في انتخابات عام 2022
لا تحتمل قراءة دور حزب الله الذي أصبح مؤثراً في اختيار رئيس الجمهورية اجتهادات كثيرة. فخصومه وحلفاؤه الذين هم على طرفَي نقيض في التأقلم مع دوره يتفقون على أنه أصبح أساسياً وفاعلاً، لكنهم يختلفون على تقييمه لجهة سلبياته وإيجابياته، وارتداداته على المكوّنات الأخرى، وعلى جعل الدور الإيراني بعد انحسار الدور السوري موازياً بأهميته لأدوار خارجية عربية وغربية، من واشنطن وباريس الى الرياض.
قد يكون انتخاب الرئيس ميشال عون الحالة الأكثر تعبيراً عن قدرة الحزب على أن يصنع رئيساً للجمهورية للمرة الأولى منذ أن دخل الى السياسة اللبنانية من بابها العريض. والقضية لا تتعلق بما يتهمه خصومه به من تعطيل الانتخابات على مدى سنتين ونصف سنة من أجل انتخاب حليفه، بل بصياغته تسوية شارك فيها بقوة وبوضوح، للمرة الأولى منذ دخوله الى المعترك السياسي بعدما تنامت قوته العسكرية.
في مرحلة الوجود السوري، كان الرئيس نبيه بري الممثل الشيعي في الترويكا التي حكمت لبنان سياسياً (بذراع عسكرية سورية)، وكان الرئيس رفيق الحريري اقتصادياً عصبها الأساسي. حينها راجت مقولة أن المقاومة للحزب والاقتصاد للحريري، قبل أن تتغير المعادلة بعد سنوات مع دخول الثنائي الشيعي في صلب المعركة الاقتصادية والمشاريع المطروحة، عطفاً على امتلاكه التوقيع المالي بعد إصراره على الحصول على وزارة المال.
حكمت الترويكا البلد على مدى 9 سنوات من عهد الرئيس الياس الهراوي. ورغم فك الشراكة في السنوات الست من ولاية الرئيس إميل لحود، في ضوء تعاظم الخلافات بين الحريري وكل من لحود وسوريا، احتفظ الثنائي الشيعي بمكانته وقوته. في تلك المرحلة، كان نفوذ حزب الله العسكري يتصاعد تدريجياً، منذ حرب الأيام السبعة في تموز 1993 الى الخروج الإسرائيلي من لبنان عام 2000، فحرب إسرائيل عام 2006. لم يدخل الحزب الى الساحة السياسية محركاً خيوط اللعبة فيها، رغم دخوله المجلس النيابي عام 1992، وعمق حضوره الشعبي من خلال الانتخابات البلدية، لكنه لم يكن في ظل الوجود السوري سوى أحد حلفاء النظام السوري، فيما كان بري في الصف الأول مساعداً وشريكاً في نظام ما بعد الطائف.
حين خرجت سوريا من لبنان، أصبحت المواجهة الداخلية مباشرة. غابت القفازات ولم تعد السياسة تتم بالواسطة. انحسر الدور السوري، ووقف الأفرقاء اللبنانيون وجهاً لوجه أمام تحدي إعادة تركيب تسويات داخلية من دون تأثير سوري. لكن ما حصل أن الانتخابات النيابية التي أسفرت عام 2005 عن فوز المعارضة بالأكثرية ومن ثم عام 2009، أدت الى النتيجة نفسها في رفض حزب الله حكم الأكثرية، مصرّاً على حكومة وحدة وطنية وافق عليها رئيس تيار المستقبل سعد الحريري.
في عهد لحود، بدأ نفوذ الحزب يصبح أكثر علانية وحضوراً. باتت بصماته واضحة في التشكيلة الحكومية، وصار في الصف الأول على كل المستويات. فسجّل أول حضور رسمي رفيع للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله على طاولة الحوار التي دعا إليها الرئيس نبيه بري عام 2006، والتي بحثت الاستراتيجية الدفاعية وسلاح المخيمات والانتخابات الرئاسية. عقدت الطاولة بعد اغتيال الحريري والانقسام الحادّ الذي شهده لبنان بين 8 و14 آذار. حينها تم الاتفاق على رئيس توافقي بعد انتهاء نصف الولاية التي مددت للحود.
بين اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وانقسام البلد بين قوى 8 و14 آذار، بدأ الحزب يتحرك بفاعلية في صياغة الاتجاه السياسي، إثر تشكيل الحكومة برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة والتي قدم الوزراء الشيعة استقالتهم منها لاحقاً. وساهم في تنمية صعود حلفائه وقدرتهم على فرض إيقاعهم، ولا سيما التيار الوطني الحر الذي بدأ يهيّئ لشراكة كاملة معه بعد تفاهم مار مخايل.
تحوّل الحزب في تلك المرحلة إلى عنوان أساسيّ، فارتبط اسمه بالمحكمة الدولية كما بقدرته على أن يتحول من الصف الثاني شيعياً الى مناصفة الرئيس نبيه بري في القرار السياسي.
شكل انتخاب الرئيس ميشال سليمان أول اختبار لنفوذ حزب الله بعد خروج الجيش السوري من لبنان وانحسار تأثير دمشق في القرارات اللبنانية. منذ 2005 وحتى اتفاق الدوحة، صار للحزب القرار الأكثر تأثيراً في السياسة الداخلية. والاتفاق على تسوية سليمان لم يأت من حالة وفاقية سلمية، بل في أعقاب أحداث 7 أيار رداً على قرار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في شأن شبكة الاتصالات.
لم يتم انتخاب رئيس توافقي إلا بعدما أعطى حزب الله الضوء الأخضر، ولا سيما للتيار الوطني الحر، فوافق العماد ميشال عون، الذي كان رافضاً لمجيء سليمان، على التسوية. بدأت العلاقة بين حزب الله وسليمان على وفاق، وانتهت بمقولة سليمان «المعادلة الخشبية». بعض مؤيدي الحزب كانوا منحازين الى فكرة أن سليمان لم يعارض الحزب إلا بعد رفضه فكرة التمديد له. فيما معارضوه يرون أن سليمان لم يعط للحزب في عهده ما كان يأمله منه بعد تسوية الدوحة.
انتهاء عهد سليمان وضع أمام الحزب استراتيجية جديدة، فهو يؤيد الحكومات التوافقية لكنه لا يؤيد الرئيس التوافقي. أراد حزب الله رئيساً وشريكاً كاملاً، فكان وعده لعون بانتخابه رئيساً للجمهورية. وورقة التفاهم التي أمنت شراكة كاملة على مدى عشر سنوات، من 2006 الى 2016، احتاجت الى دفعة جديدة. كان الحزب في تلك المرحلة مشاركاً أساسياً في حرب سوريا، ويحتاج الى حماية ظهره داخلياً، وتأكيد دوره ليس في عملية انتخاب رئيس الجمهورية بل في تسميته. وكما أراد أن يكون صانع رئيس، كان مانعاً لانتخاب أيّ رئيس ولو كان حليفاً. تجربة التسوية التي قام بها الرئيس سعد الحريري مع رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، نموذج عن «لا» يرفعها الحزب حين يحتاج إليها. حليف قديم لسوريا قبل أن يزورها عون الذي شنّ ضدها حرب التحرير، وصديق للمقاومة قبل أن يوقّع عون ورقة التفاهم في مار مخايل. ومع ذلك، لم يعط حزب الله لفرنجية ما أعطاه لعون. سنتان ونصف سنة من الفراغ وتعطيل النصاب ما لم ينتخب عون الذي لم يكن ممكناً من دون موافقة تيار المستقبل والقوات اللبنانية. فكانت تسوية توافقية على رئيس حليف للحزب.
بين عهد سليمان وعهد عون عزّز الحزب حضوره في سوريا ولبنان والعراق واليمن والمنطقة، وبين العهدين انحسر التأثير السوري، وتعزز الحضور الإيراني، وصارت للحزب خصومات أكثر في ضوء الأحداث التي شهدها لبنان منذ استقالة الرئيس سعد الحريري من السعودية الى خروجه من الحياة السياسية، وتظاهرات 17 تشرين والاحتجاجات في بيروت والمواجهات التي رافقتها، الى انفجار المرفأ وتداعياته القضائية. كل ذلك في ست سنوات، كان يفترض أن تنتهي، خلال أقل من شهر، بانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
لكن ما يجري منذ أشهر يوحي عكس ذلك. يسلّم خصوم حزب الله قبل حلفائه بأن دوره في هذا الاستحقاق أساسي وقد يكون فاعلاً أكبر من الذي حصل مع انتخاب عون، لأن الضبابية التي تتحكم بطريقة تعاطيه في الانتخابات ليست مطمئنة على مصير الاستحقاق في ذاته. لم يعلن حزب الله مرشحه، ولم يؤيد أحد حلفائه، أي رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، ولم يعلن وقوفه الى جانب رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. تارة تتقدم رؤيته لرئيس توافقي، ثم تتراجع لتصبح المعادلة أقرب الى تشجيع تشكيل الحكومة وإرجاء الانتخابات الرئاسية، وما بينهما تتقدم حظوظ حليفه فرنجية ثم تتراجع بعد أن يرفض حليفه الآخر باسيل تأييده. وبين كليهما يمكن أن يرسو الخيار على مرشح آخر، بحسب توقيت الاستحقاق.
وبقدر ما أن للحزب تأثيره المباشر في قرار إجراء الانتخاب وموعده واختيار الشخصية التوافقية أو الصدامية، في مواجهة خصومه وحلفائه المشرذمين وغير المتفقين على إدارة معركة الرئاسة، لديه استحقاق داخلي في علاقته مع حليفه. ما لم يوافق عليه بري في استحقاق عام 2016، لن يوافق عليه اليوم مع سابق التصميم على عدم السماح بتكرار تجربة أنهكته قبل الكلام عما فعلته في الوضع الداخلي. يكرر بري ضرورة التوافق على رئيس جديد، وموقفه يحتمل أوجهاً عدة. فعلى من يقطع الطريق للمجيء برئيس جديد؟ على حزب الله لعدم تكرار تجربة انتخاب عون فلا يقدم على خيارات مكلفة، أم على المعارضة بتقديم نماذج غير مقبولة، أم على الرعاية الغربية والعربية للاستحقاق الرئاسي لاستدراج عروض رئاسية وسياسية عامة تتعلق بإعادة تنشيط الحركة الداخلية ولا سيما مالياً واقتصادياً؟
من الصعب تجاوز دور حزب الله في المعركة الرئاسية، مهما كانت التحديات التي يواجهها داخلياً. يملك التوقيت، والقرار، والاسم. لكن القدرة في ظل توازنات المجلس النيابي الحالي لا تجعله يأتي برئيس من دون أصوات من هنا وهناك، فالتسوية تحتاج الى شريك، ومن سيقدم على شراكته، إلا إذا كانت هناك نية لرئيس مواجهة. وحينها، لن تكون الرئاسة وحدها على المحكّ.
الثنائيّة الشيعيّة: فرادة الحلف في البيت الواحد
الكلام عن دور حزب الله وحده في المعادلة الرئاسية قد يكون مجحفاً في حق الثنائية الشيعية التي فرضت نفسها منذ الثمانينيات مع صعود دور حركة أمل والرئيس نبيه بري في الحياة السياسية، إثر تغييب الإمام موسى الصدر. لكنّ الاعتراف بدور بري، رئيساً للمجلس وزعيماً شيعياً، يعكس دوره كأحد شركاء حقبة الوجود السوري إلى جانب الرئيس رفيق الحريري، وتحوّله إلى واحد من كبار المؤثّرين في الحياة السياسية وانتخابات رئاسة الجمهورية، أو التمديد للرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود، وصياغة قوانين انتخابات تلك المرحلة.
في المقابل يأخذ دور حزب الله في رئاسة الجمهورية بعداً آخر، لأنه يشكل مرآة تنامي النفوذ الشيعي، وقوة حزب الله في المشهد الإقليمي والمحلي، وتحوله إلى حد كبير لاعباً منفرداً ومقرّراً رئيسياً ليس في اختيار الرئيس فحسب، بل في تسهيل أو عرقلة الانتخابات أسوة بتشكيل الحكومة أو شلّها، عدا نفوذه العام المتنامي في مفاصل الحياة السياسية والمالية والأمنية.
لكن، تبقى للثنائية الشيعية خصوصيتها على مدى سنوات ما بعد الطائف، وإن كانت تبدّلت وتغيّرت في نواح كثيرة من اقتتال داخلي إلى تسويات يومية ومن ثم إلى حلف سياسي داخلي وتوزّع أدوار، جعل من الثنائية حالة فريدة في ظل زعامتَي بري والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.
كرّس الثنائي ما لم يكرّسه الحلف الثلاثي الماروني الذي انفرط عقده ولم يعمّر طويلاً، كما حال الجبهة اللبنانية. وتفوّق على الأدوار السُّنية الموزعة مناطقياً قبل أن تنحصر في زعامة عائلة الحريري، فطبع الطائفة الشيعية بزعامة على مستوى أعلى من الزعامات المناطقية التي عرفها الشيعة مع عائلات سياسية كالأسعد والخليل في صور وعسيران في صيدا وعمار في بعبدا وحمادة في بعلبك – الهرمل، أو الاحزاب العقائدية التي حصدت جمهوراً واسعاً لها قبل صعود الثنائي. بدا دور بري منفرداً منذ مشاركته في المؤتمرات الحوارية، من الاتفاق الثلاثي إلى جنيف ولوزان ومن ثم في الطائف. وحين انتُخب رئيساً للمجلس النيابي عام 1992، عكس التحول الأول على هذا المستوى في ترجمة صعود الطائفة الشيعية في هيكلية النظام، بما هو أبعد من العرف الذي وزّع الرئاسات الثلاث طائفياً. عام 1992 دخل حزب الله إلى الحياة البرلمانية ولو مع بقائه تحت جناح بري، بالمعنى السياسي العام، حين كان سلاح المقاومة هو المتقدم في المشهد في حروب متتالية مع إسرائيل. تدريجياً تحول الحزب إلى ندّ لبري في الوسط الشيعي كما السياسي. لا يمكن تأريخ متى صارت لعبارة «الثنائي الشيعي» رمزيتها وحضورها، في ظل الوجود السوري أو بعده. لكنّ الثنائي حوّل العبارة إلى حالة واقعية سواء استخدمها خصومه أو حلفاؤه، ولا سيما أنها ارتبطت بتعبير ديني، بمعنى تحديد هوية الثنائي الشيعية: الثنائي يلتقي لتخفيف الاحتقان قبل الانتخابات البلدية أو النيابية بين جمهوريهما، والثنائي يحاور لتأليف الحكومة، ويسعى لتذليل عقبات التعيينات، ولاختيار مرشحي اللوائح، والثنائي يتحول أولاً بين بري ونصرالله ومن ثم إلى ممثليهما فيصبح لقاء علي حسن خليل وحسين خليل مع طرف حليف أو خصم حدثاً. لم تكن سنوات الثنائي كلها شهر عسل، لكنّ خلافات الجمهورين ظلت قابعة تحت سقف المصلحة العليا التي حتّمت أن يتناوب الطرفان على تدوير الزوايا وتخفيف الشروط الداخلية. يتقدم دور بري في الساحة العامة، فيحاور في تشكيل الحكومة حين يفرض نصرالله شروطاً رئاسية، ويتقدم دور الحزب في وضع شروط استخراج الغاز حين يستقبل بري موفدي الولايات المتحدة ويضع أطر التفاوض غير المباشر. يرفع حزب الله سقف المواجهة مع خصومه حين يكون بري يفاوضهم، في المجلس النيابي وخارجه. يهاجم حزب الله دولاً عربية فيلعب بري دور المهدّئ الذي يرسل رسائل إيجابية. لكن في كل ذلك المشهد بقي حزب الله ملتزماً بعدم خوض صراع مع الحركة وعدم المسّ بموقع رئاسة المجلس مهما بلغت طموحات بعض الشخصيات القريبة منه.
قد يكون انتخاب العماد ميشال عون واحداً من أوجه الاختلاف الجذري بينهما، والذي لم يراع الحزب فيه رغبة بري. حين وقف رئيس المجلس في جلسة انتخاب عون، كان يتصرف علانية شاهراً عدم موافقته على تسوية قام بها حزب الله مع الرئيس سعد الحريري. غلبت التسوية السنية – الشيعية – المارونية الجزئية على ممانعة بري في اختيار عون. وظل بري يوجه رسائله الانتقادية إلى كل من وافق على التسوية. انتخاب عون لم يكن في يد الثنائي ولا صنيعته، إلا أن بري لم يتخل عن إطار الثنائي في مواجهة تداعيات العهد وخلافاته، من دون أن يلين لحظة واحدة في خصومة العهد والتيار الوطني الحر.
لا يقتصر عمر الثنائي على ثلاثين سنة منذ عام 1992، بل على سنوات قليلة قبلها. وقد لا نجد لدى الطوائف حالات مماثلة طال فيها عمر أي تحالف أكثر من بضع سنوات. وبقدر ما لماضي الثنائي من ثوابت يبقى مستقبله رهن كثير من المتغيّرات داخل الطائفة الشيعية وخارجها، وارتداد ذلك على كل المشهد الداخلي.