القات والحرب يوحدان اليمنيين في الشقاء.. ويدمران عمرانهم وأجسامهم(1)
هدى عطاس* – أساس ميديا
تلازمتْ في اليمن زراعةُ نبتة القات، وتلازم إدمان استهلاكها مضغًا وتخزينًا في الأفواه وتجرّع عصارتها المخدرة والمنبهة، حياة أهل البلاد الاقتصادية والاجتماعية. مما طبع اليمن – وهو كان يوصف بالسعيد، كتونس التي كانت توصف بالخضراء – بطابع حمل كثيرين على تسميته “بلاد القات” في اقتصاده واجتماعه. فإدمان القات أث~ر تأثيرًا بالغًا في الشخصية اليمنيه وأوضاع اليمنيين الصحية، واخترقَ تحولات تاريخ البلاد الحديث: اعلان الوحدة اليمنية سنة 1990 بين الشمال والجنوب، لحقتها حرب بين الدولتين المتوحدتين سنة 1994، فراكمت احتدام المشاكل واحتقان الأوضاع خصوصا في الجنوب، حتى الوصول إلى ثورة اليمنيين على نظام علي عبدالله صالح سنة 2011، واخيرا استيلاء جماعة الحوثيين على السلطة في صنعاء سنة 2014، ونشوب حرب أهلية – إقليمية في البلاد وإشرافها على مجاعة، مع تفشي وباء كورونا.
لكن هذا كله لم يقلل من تفشي زراعة القات واستهلاكه، بل زادهما توسعًا وانتشارًا، رغم تضخم مآسي اليمن.
القات: اقتصاد الهدر
كشف تقرير أخير لمنظمة العمل الدولية عن أن إنفاق اليمنيين على القات يصل إلى أكثر من 400 مليار ريال في السنة، أي نحو 1.6 مليار دولار. وأوضح مكتب المنظمة باليمن أن زراعة القات وبيعه يعدّان الأكثر استقطاباً لعمالة الأطفال اليمنيين، بنسبة بلغت 57.4 في المئة منهم، فيما يصل انفاق الأسرة عليه إلى 35 في المئة من دخلها.
ويقارب إنتاج القات ثلث الناتج المحلي الاجمالي الزراعي، ويوفر العمل لشخص واحد من بين كل 7 يعملون في اليمن، رغم أنه سلعة لا تضيف أي قيمة حقيقية للإنتاج في البلاد ودخلها القومي. ويأتي ما ينفقه اليمنيون على شراء القات في المرتبة الثانية بعد الإنفاق على الحبوب، إذ تدمنه فئات الهرم الاجتماعي من قمته إلى قاعدته الواسعة من الفقراء غير القادرين على تأمين احتياجاتهم الأساسية. وهذا كله يضيّع ملايين من الساعات يومياً مهدورة على العمل في زراعة القات وتوزيعه ومن ثم في مجالس مضغه وتخزينه التي تجتاح بيوت اليمنيين ساعات طويلة في اليوم. ومساحة زراعة القات تضاعفت في العقود الأربعة الماضية، وتتمركز في المناطق العالية في شمال اليمن.
وتعدُّ شجرة القات من أكثر النباتات استهلاكاً للمياه في بلد يعاني من الجفاف. ويقدر ما يستهلكه القات بنحو 70 في المئة من المياه الجوفية المهددة بالنضوب في مناطق زراعته. وهذا عدا حجم الآثار الصحية والذهنية السيئة الناجمة عن تعاطيه، إضافة إلى مضار مخلفات البلاستيك والسموم والمبيدات التي تستخدم في تنمية نبات القات. فأكياس البلاستيك المستخدم في تغليفه أثناء نقله وكذلك اثناء بيعه في الأسواق المخصصة له، تصل قيمته اليومية إلى 200 – 300 مليون ريال، وهو يتحول بعد رميه إلى خطر حقيقي على البيئة.
ليرة اللبنانيين وقات اليمنيين
والحرب المضطرمة في اليمن منذ سنوات أنست العالم واليمنيين أنفسهم مشكلة إدمانهم القات المأسوية. فهي لم تؤثر على زراعته وتجارته وإدمانه، بل أججتها واستعر الاقبال عليه وارتفعت أسعاره. فرغم تقطع الطرق بسبب حدة المعارك، خصوصًا على الحدود بين الشمال الذي يسيطر عليه الحوثيون والجنوب الذي يسيطر عليه الجنوبيون والحكومة الشرعية ودول التحالف، استفحل استهلاك القات، وتأمن انتقاله بحرية عبر المواقع العسكرية التي لا توقف حمولات قوافله ولا تمنع شحنات نقله. ويبدو أن قادة المعارك يحرصون على وصوله طازجًا إلى جندهم المتلهفين اليه، لأنه أحد وسائل تنشيط هممهم ودفعهم إلى القتال. وبعض اليمنيين الذين جذبتهم أغاني فيروز وحببتهم باللهجة اللبنانية، يتندرون عن تنقل القات بين جبهات حروبهم، فيتذكرون أغنية ابنها زياد الرحباني أثناء حروب لبنان: “شوف الليرة ما أحلاها/وحدا بتقطع من هون لهونيك”.
يتراوى اليمنيون في هذا السياق مفارقات مضحكة ومحزنة عن أن المقاتلين على الجبهات يباشرون في الصباح حربهم الضروس بكل أنواع الأسلحة، فيقتُلون ويقتِلون. لكنهم حين يتوقفون عن إطلاق النار عند حلول الظهيرة، يسارعون إلى أسواق القات المشتركة القريبة من الجبهات، فيلتقون معًا فيها حاملين أسلحتهم، فلا يثأرون لقتلاهم. بل على العكس من ذلك يتجالس بعضهم في مقيلات مشتركة لمضغ القات وتخزينه، قبل أن عودة كل منهم إلى موقعه منتظرا الصباح ليعاود القتال، وقد يقتل فيمن يقتل رفيق جلسته في اليوم السابق.
وقد ظن البعض خيرًا بجائحة كورونا على النقيض من بقاع الأرض كلها. فاليمنيون المناهضون للقات وجدوا بكورونا حلًا قد يخلّصهم من كوارث النبتة وإدمانها، أو يخفف ولو تدريجيًا من بلاء تعاطيها، مراهنين على تدابير منع التجمعات والاختلاط، وعلى إجراءات الوقاية الاحترازية التي فرضت الكمامة والمبالغة في غسل اليدين وتعقيم الأماكن. غير أن القات الذي عبر التاريخ اليمني بحكوماته ورؤسائه وحروبه، عبر جائحة كورونا وكارثيتها سالمًا، مؤكدًا سلوكه الطفيلي وتنقله ممتطيًا الكوارث. ورغم أن الأطراف المتحاربة في الشمال والجنوب حاولت في البداية اتخاذ تدابير كابحة لتقاليد تجمعات القات في المقايل، وقررت تنظم تعاطيه وأصدرت حكومة جماعة الحوثي بعض القرارات، وكذلك فعلت حكومة الشرعية والجنوبيون، لكن ما لبث الجميع أن تراجعوا عن تلك التدابير، وربح القات الفيتو ضد أي منع للزحام في أسواقه ولاختلاط المخزنين في مجالسه.
مقيل التخزين قبلة المنزل
قد يتعلق أجنبي عابر بأوراق النبتة الخضراء السائحة في تاريخ اليمن، نظير سياحته في البلد الغريب ومشاهده التي يراها غابرة متقادمة. فيقدم من باب السياحة “الإكزوتيكية” على تجربة مضغ القات وتخزينه في مجالس يمنيين يعرفهم. لكن الأمر مختلف بالنسبة لليمنيين: انغماسهم عميقًا في إدمان القات يتخذ بعدًا ثقافيًا واجتماعيًا ويكاد يلابس الهوية الشديدة التعقيد والتنوع في بلادهم، بل يلابس حتى صورتهم عن أنفسهم ولدى الآخرين. فما أن يذكر اليمن حتى يذكر القات. والسؤال الدائم لأول تعارفهم مع غير اليمني في الخارج هو القات وأحواله.
فتخزين القات لم يعد حالة طارئة أو مزاجًا طقسيًا يرافق الأحتفالات أو الأيام الاستثنائية، بل عادة اجتماعية راسخة وإدمانًا طقسياَ خطيرًا يلازم حياة اليمنيين اليومية ملازمة عضوية، ولا يبذلون جهدًا للتخلص منها، كأنها المتعة الوحيدة في حياتهم، ومحور اجتماعهم في السلم والحرب، في العمل والتعارف واللقاءات. بل إن مواقيت تخزينه في مقايل البيوت وأماكن العمل هي محور توقيت حياة اليمنيين اليومية. حتى أن بناء البيوت اليمنية التقليدية يلحظ في الأساس تعين موضع مقيل القات وتأثيثه، فيحتل صدارة المنازل، كأنه قبلتها. وفي هذه المقايل يلتئم مجلس القات بعد الغداء مباشرة، لساعات قد تمتد إلى المساء. وكثيرون يصرِّفون أعمالهم ويعقدون الصفقات والمناقشات في مجالس مضغه. وترى اليمنيين قبيل الظهر يسرعون إلى أسواق القات لشرائه، ويتناولون سريعًا غداءهم لارتياد مقايل التخزين، حيث يلتهمون أوراقه الخضراء، يمضغونها ويحشونها في زوايا أفواههم ويمتصون رحيقها المنبه، ليذهبون في نشواتهم الغريبة. ولك أن تتخيل أن 80 في المئة من شعب جلّ رجاله ونسبة تتزايد يوميًا من نسائه، متجالسين في المقايل، أو مقرفصين على جنبات طرق وعلى الصخور والشواطئ في وضعية جلوس واحدة لا يبدلونها طوال الجلسة. فينفقون ساعات خمس من نهارهم وشطرًا كبيرًا من ليلهم قد يمتد ببعضهم إلى الفجر، يجترون أوراق النبتة الكامدة في جوانب أفواههم حتى تكاد أوداجهم أن تنفجر. وهم يجترون أيضًا الثرثرات والفراغ والأوهام العائمة يستحلبها المخزنون مع العصارة الخضراء برائحتها النفاذة المنفرة، فيما يجتر الشقاءُ المقيم بلادهم ويدمن المكوث فيها.
حلقة ثانية: القات في اليمن: يقزّمُ اليمنيين ويوحِّدهم بدولةُ خاوية
*هدى العطاس: كاتبة وباحثة وناشطة حقوقية يمنية من جنوب اليمن – حضرموت