بعد كلِّ جولةٍ من جولات المواجهة مع العدو الإسرائيلي التي يحقِّقُ فيها اللبنانيون انتصارًا موجعًا للعدو الإسرائيلي ومن خلفه داعموه الأميركي والغربي وبعض عربان الخليج، تتصاعد الأصوات المنكرة والنشاز في الداخل اللبناني بهدف توهين هذا الانتصار وإنجازاته في نوع من الكيد السياسي الهزيل وكثير من الارتباط والارتهان لمشروع العدو وأطماعه، وكأنَّ هذه الانتصارات والإنجازات هي لفئة معينة من اللبنانيين دون غيرهم مع انَّه وبعد كلِّ مواجهة ومعركةٍ كان “سيِّدُ المقاومة وقائدها” يضع ما انجزَ وحقّقَ بين يدي كلِّ اللبنانيين ويصِفهم دائمًا وأبدًا بشركاء الانتصار على العدو.
هذا “السيِّد” كان يعلم علم اليقين دور كلّ فريقٍ منهم في معاونة العدو على هذه المقاومة منذ انطلاقتها، حيث بدأت تحقق انتصاراتها وتثبت أنَّ هذا العدو واهنٌ وهزيل في مواجهة اللبنانيين المؤمنين الواثقين بمقاومتهم. البداية كانت في عملية “تصفية الحساب” في تموز من العام 1993 والانتصار الذي حققته المقاومة بوضع مستوطنات العدو في “الجليل الأعلى” تحت نيران صواريخها في معادلة كسرت ارادة الاحتلال ووهم حزامه الأمني في “الشريط المحتل” ورسمت حدود المواجهة في حماية المدنيين اللبنانيين من الاستهداف المتكرر والمتمادي دون ردٍّ مقابل على مستوطناته ومستوطنيه، وجاءت محاولتهم الدنيئة لوضع الجيش اللبناني بمواجهة المقاومة والصدام معها وقبل أن تلملم اجساد شهدائها وأشلاء جرحاها. ومعروفةٌ الأدوار والمواقف في تلك المحاولة – المؤامرة التي افشلت بسبب يقظة ووعي وحكمة المقاومة وقائدها بالتنسيق المباشر مع الرئيس حافظ الأسد (رحمه الله) الذي فهم الدور الخبيث والمشبوه المراد من تلك الخطة فأحبطها، وهي الخطة التي وضعتها المنظومة اللبنانية-السورية التي كانت معروفة من الجميع والقابضة على البلد في تلك الأيام في تماهٍ واضحٍ مع مطالب العدو الإسرائيلي بتقييد عمل المقاومة وحركتها في جنوبي الليطاني، تلك المؤامرة التي حيكت في الغرف السوداء بهدف تصفية الحسابات القديمة مع المقاومة وأهلها، وفي ذلك تفاصيل كثيرة لا مصلحة في الحديث عنها الآن.
وجاءت عملية عناقيد الغضب في نيسان من العام 1996 لاستكمال مؤامرة العام 1993 وأيضًا بهدف القضاء على المقاومة وكسر المعادلات القائمة وفرض واقعٍ جديد على خطوط المواجهة مع العدو الذي استغلَّ لحظة تخبُّطٍ سياسيٍّ في الداخل اللبناني وفي لعبٍ مكشوف على تناقضاته وتبايناته الكثيرة حول المقاومة وسلاحها وجدواها والإجماع الوطني حولها، والتي كانت تنال منها ومن شهدائها ألسنة البعض ومواقفهم وتصريحاتهم من المحبطين والمتألمين لهزيمة العدو وعملائه على اثر كل عملية للمقاومة في الشريط الحدودي المحتل. وأيضًا في هذه المواجهة اثبتت هذه المقاومة صلابتها وقدراتها النوعية وبسواعد مجاهديها رغم همجية العدو ومجازره من قانا الى المنصوري وسحمر والنبطية الفوقا وغيرها، ونجحت في تثبيت المعادلات القائمة حول حماية المدنيين اللبنانيين وفي حق الدفاع عن النفس في وجه العدوان الصهيوني وفي تزخيم العمل المقاوم كمًّا ونوعًا والتأسيس استراتيجيًّا للتحرير في العام 2000. هذا الثبات والصمود في الميدان فرض على العدو الاستنجاد براعيه الأمريكي لإخراجه من هذا المأزق الذي وضع نفسه فيه وإعلانه بصريح العبارة “لقد هزمنا حزب الله” واضطراره لوقف العدوان والقبول والالتزام بما عرف بـــ “تفاهم نيسان”.
في العام 2000 كان التحرير واندحار العدو ببركة دماء الشهداء وآلام الجرحى ومعاناة الأسرى وكان خطابُ الانتصار في بنت جبيل والذي وصفه جناب الأمين (حفظه الله) بأنه انتصار اللبنانيين جميعًا بمختلف طوائفهم ومناطقهم وأحزابهم وفصائلهم وتياراتهم السياسية وأنَّ “إسرائل هذه اوهن من بيت العنكبوت”، وأنَّ هذا التحرير هو نتيجة مسارٍ تراكمي لعمل المقاومة بمختلف مسمَّياتها وتوجهاتها السياسية والعقائدية.
ذروة انكشاف الدور المشبوه لهؤلاء كان في ايام عدوان تموز وآب 2006 حيث ومنذ اليوم الأول لبدء العدوان اطلقوا التصريحات وأصدروا البيانات المنددة بعملية الأسر التي نفذتها المقاومة في “عيتا الشعب – خلة وردة” وعقدوا اللقاءات والاجتماعات مع المبعوثين الدوليين وفي سفارة عوكر مع وزيرة خارجية اميركا السابقة سيئة الذكر كوندوليزا رايس والتي كانت تبشر بولادة شرق اوسط جديد لا وجود فيه للمقاومة وأهلها بل تسيُّد كامل للعدو الإسرائيلي وهيمنته على المنطقة، وباتت معروفة ادوارهم التآمرية على لبنان وأحاديثهم في الغرف المغلقة والتي فضحتها صفحات “ويكيليكس” وكيف كانوا دائمي التحريض على المقاومة وأهلها ويشجِّعون الإسرائيلي على الاستمرار في العدوان وعدم توقُّف العمليات الحربية حتى يستسلم المقاومون ويرمون سلاحهم، وساءهم ان تخرج المقاومة من هذه الحرب الساحقة منتصرة شامخة مقتدرة، واعدة وصادقة في خياراتها الوطنية والسياسية والعقائدية وضنينة بحماية اهلها اشرف الناس وحريصة على عيشهم وأمنهم وسلامهم ودون تفريطٍ بالحقوق، وفاتهم انَّ ذاكرة الناس ما زالت نشِطة وأرشيف مواقفهم الكريهة والحاقدة وتصريحاتهم المحرِّضة المتواطئة مع العدو موجودةٌ وموثّقةٌ بالصوت والصورة.
اليوم تُحقِّقُ المقاومة انتصارًا استراتيجيًّا جديدًا على العدو الإسرائيلي في الزامه بعدم التعدي وتجاوز حقوق لبنان في نفطه وغازه في المياه اللبنانية من خلال رسائلها المتكررة والواضحة لهذا العدو بأنها جاهزة للحرب اذا فُرضت وللدفاع عن الحقوق اللبنانية متى ارادت ذلك وفي لجمه عن تجاوزها او سرقتها، بل وصلت الى حدِّ تهديده باستهداف كلِّ منشآته النفطية المقامة على طول ساحل فلسطين المحتلة وبحرها. لقد اقرَّ هذا العدو بهزيمته في ختام هذه الجولات من المفاوضات بسبب صلابة الموقف اللبناني المستند الى ثلاثيته الذهبية: الشعب والجيش والمقاومة، التي اعطت المفاوض اللبناني القوة والقدرة على فرض موقفه لحفظ حقوق لبنان وشعبه والأجيال القادمة في بحره ونفطه وغازه، واعترف بضعفه وتراجعه وقلة حيلته امام مقاومته مقرًّا بأنَّ لبنان قد نال “كامل حقوقه” في هذه المفاوضات الصعبة والطويلة وأنَّ العدو خرج صفر اليدين منها وبخُفَّي حُنين دون تحقيق مطالبه، ورغم كلِّ ذلك لم يقرَّ البعضُ من اللبنانيين بهذا الانتصار بل انكرهُ كيدًا وحقدًا وقلَّة مروءة ولؤمًا ونكايةً بالمقاومة، وهم اوَّلُ المفرِّطين بالسيادة والحقوق والكرامة الوطنية، اولئك الذين يصفون انفسهم بالتغييريين والسياديين من ايتام “فيلتمان” ومرتزقة “شيا” وودائعها الانتخابية ودُمى “شينكر” وتلامذة “فضلو خوري” وظهيرهم من قدامى المتعاونين مع العدو الإسرائيلي، بل وسارعوا في جعجعةٍ مقيتة الى توهين هذا الإنجاز وتسخيفه والتشكيك به بعد ان دعوا الدولة اللبنانية الى التصدِّي للمقاومة ومنعها من القيام بردة فعلٍ على ايِّ اعتداءٍ اسرائيلي.
أوجعهم انتصار لبنان بمقاومته وعلا صراخهم من الوجع حتى فاق صراخ وعويل اليمين الصهيوني وأحزابه في تقاطعٍ مريب ومشبوه بل ومنسَّق مع تلك المواقف التي تنذر بانقسامٍ عمودي داخل الكيان الغاصب حول اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع لبنان. ان لم تستحوا فليعلُ صراخكم ما شئتم.